وزير الصمت وحصار المدن.. أين ذهبت عنتريات الفريق حسن داؤد كبرون؟ كتبه عبدالغني بريش فيوف

وزير الصمت وحصار المدن.. أين ذهبت عنتريات الفريق حسن داؤد كبرون؟ كتبه عبدالغني بريش فيوف


08-15-2025, 07:26 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1755282409&rn=0


Post: #1
Title: وزير الصمت وحصار المدن.. أين ذهبت عنتريات الفريق حسن داؤد كبرون؟ كتبه عبدالغني بريش فيوف
Author: عبدالغني بريش فيوف
Date: 08-15-2025, 07:26 PM

07:26 PM August, 15 2025

سودانيز اون لاين
عبدالغني بريش فيوف -USA
مكتبتى
رابط مختصر





في المشهد السياسي السوداني المتقلب، حيث تتسارع الأحداث السياسية، ويصبح الأمس تاريخا بعيدا قبل أن يطويه الغد، تبرز وجوه وتختفي أخرى. يظل السؤال الأبدي معلقا في الأفق، وهو، هل هذه التغييرات والانقلابات، هي حقا في سبيل وطن ينشد الخلاص والعافية، أم مجرد إعادة توزيع للأدوار في مسرحية هزلية لا نهاية لها؟
ووسط هذا الضباب الكثيف، طفت على السطح تساؤلات ملحة، تتخذ من تعيين وزير دفاع سوداني جديد من جبال النوبة، الفريق حسن داؤد كبرون، محورا لها، لتكشف عن مفارقات مؤلمة، وتطرح أسئلة ساخرة ومريرة حول حقيقة السلطة، وفحوى القرارات، ومصير الإنسان في بلاد لم يعد يرى فيها سوى ظلال الوهم.
كان المشهد قبل يونيو 2025، يبدو مختلفا تماما، حيث كانت حناجرنا تستقبل صوتا جهوريا، يصدح بالوعود، ويطلق التهديدات، ويشحذ العزائم كل يوم.
ذاك الصوت، الذي نعرفه اليوم باسم الفريق حسن داؤد كبرون، يصدح من قلب القيادة العامة للجيش في الخرطوم، لكن تجاه مدينة الدلنج التي هي مسقط رأسه، لتتجاوز صداه حدود المدينة ويصل إلى مسامع كل يائس ومحاصر في بقاع السودان المنكوبة.
كان الرجل، حينها، يرتدي ثوب المنقذ، يلوح بسيف غير مرئي، ويقسم أن فك الحصار عن مدينتي الدلنج وكادقلي، اللتان ترزحان تحت نير الحصار منذ ما يزيد على عامين، ليس سوى مسألة وقت، وقرار عسكري حاسم، يأتمر بأمره، ويتجسد بقوته.
كم كانت تلك العنتريات تلامس شغاف القلوب، وتتردد كنشيد الأمل في أروقة المدن المحاصرة، يتغنى بها الجياع والعطشى والمرضى، الذين لم يعد يجدون سبيلا لدفن موتاهم بكرامة، أو إسعاف مرضاهم بدواء، أو إرواء عطش أطفالهم بماء نظيف.
الفريق حسن داؤد كبرون، في تلك الأيام، لم يكن مجرد ضابط يتحدث، بل كان أيقونة التحدي، ومثال الشجاعة، والتعبير الصادق عن وجع أرض تتألم وتبكي.
كان صوته عاليا ومُدويا، وكان حضوره في الإعلام كبيرا، يملأ الشاشات والساحات، ويلهم النفوس المُتعبة بأن فجر الحرية قريب، وأن حصار الموت سينجلي قريبا بضربة عسكرية، تتجلى فيها كل معاني الرجولة والوطنية.
الرجل يحمل على عاتقه أحلام مدينة بأكملها، ويردد سنكسر الحصار بالقوة العسكرية وكأنها آية من آيات الله الكريم، ولكن ما أسرع ما تبدلت الأدوار، وما أغرب ما يفعل كرسي السلطة بالرجال. فما ان أعلن عن تعيين الفريق حسن داؤد كبرون وزيرا للدفاع في يونيو 2025، حتى عمّ الصمت المطبق كل القرى والحضر. اختفى الصوت الجهوري، وتلاشت الإطلالة الإعلامية، وابتلعت جدران الوزارة الشاهقة صدى كل وعد، وكل تهديد، وكل عنترية، وتحول الرجل من بطل الكلمات النارية إلى وزير الصمت والبُكم، لم نسمع له صوتا في إعلام يضج بالصخب والتحليلات، لم نشاهده في أي مؤتمر صحفي، أو أي خطاب موجه للجنود، أو حتى في تصريح مقتضب يطمئن به قلوبا علقت عليه آمالها، بل الأكثر غرابة، أننا لم نقرأ له قرارا عسكريا واحدا، لم نرَ توجيها استراتيجيا يُفضي إلى تحرك ميداني، لم نلمس بصمة قيادية تُشير إلى أن عقل هذا الرجل وذراعه، أصبحا يديران دفة أعقد وزارة في زمن الحرب.
مدينتي الدلنج وكادقلي، لا تزالان ترزحان تحت الحصار القاتل، الموت يتسلل إلى بيوتهما بلا استئذان، المستشفيات تئن من نقص الأدوية والمعدات، العطش والجوع يفتكان بالأجساد النحيلة، ومع كل نبضة من نبضات الألم، يتجدد السؤال: أين الفريق كبرون؟
أين وعوده، أين تلك العنتريات التي كانت تُزلزل الجبال، وهل كانت مجرد فقاعات صابون تتلاشى في الهواء بمجرد ملامسة الواقع، أم أنها كانت مجرد مانشيتات صحفية، لا تمت للحقيقة بصلة؟
إن الغياب الصادم لوزير الدفاع الجديد، ابن الدلنج، عن المشهد الإعلامي والعسكري، في وقتٍ تتصاعد فيه وتيرة الحرب، وتشتد فيه معاناة المدن المحاصرة، ليس مجرد غياب عابر، بل هو دوي صمت يدعو إلى التأمل والتساؤل!
هل أصبح منصب وزير الدفاع في السودان، في هذا الزمن، مرادفا للغياب والاختباء، أم أن طبيعة المنصب تتطلب أن يكون صاحبه شبحا لا يرى، وصوتا لا يسمع، ليبقى الغموض سيد الموقف، والضباب يحجب الرؤية عن شعب يتوق إلى الوضوح؟
هنا، يطفو السؤال المرير على السطح، ليشق صمت الدهشة، ويدخلنا في دهاليز السياسة السودانية المعقدة، وهو، هل وجود الفريق كبرون في هذا المنصب مجرد ديكور؟
هل هو واجهة براقة، تُخفي وراءها أيادي خفية تحرك الخيوط، وتتخذ القرارات، وتُصدر الأوامر، بينما الرجل لا يملك من أمره شيئا -بمعنى آخر، هل هو مجرد دمية في يد من قام بتعيينه، لا يملك قرار نفسه، ولا يستطيع أن يُحرك ساكنا، حتى لو كان الأمر يتعلق بمدينته وأهله؟
هذه الفرضية ليست وليدة الشكوك العابرة، بل هي مستمدة من تاريخ طويل من التعيينات في السودان، حيث غالبا ما تكون المناصب الحساسة في قبضة الشريط النيلي، تلك الفئة التي لطالما سيطرت على مفاصل الدولة للأبد، وتحكمت في مقاليد الأمور، بغض النظر عن الكفاءة أو التمثيل الجغرافي.
إذا كان هذا المنصب، ذا الأهمية القصوى، قد خرج عن هذا النطاق، فهل تم تعيين الفريق كبرون كجسر عبور، أو كشكل من أشكال الترضية، أو ربما كحائط صد يمتص غضب الجماهير، بينما تظل السلطة الحقيقية في أيدي أخرى؟
إن غياب القرار، وتلكؤ الفعل، والانزواء عن الأضواء، يُعزز هذه الفرضية، إذ كيف لضابط كان يتمتع بكل تلك العنتريات والشجاعة في الخطاب، أن يتحول إلى خيال صامت بمجرد أن جلس على كرسي الوزارة؟
هل أُصيب بمرض فقدان الذاكرة العسكرية، وهل ابتلعت البيروقراطية الحكومية روحه الجهورية، أم أن الحقيقة الأكثر ألما، هي أنه ربما لا يملك الصلاحية أصلا، لاتخاذ أي قرار، وأن المصدر الحقيقي للقوة والقرار يكمن في مكان آخر؟
إذا كان الأمر كذلك، فإننا أمام مأساة حقيقية، فأن يتولى رجل منصب وزير الدفاع في بلد يعيش حربا ضروسا، ثم يكون مجرد شكل بلا مضمون، يعني أننا أمام فراغ قيادي خطير، وأن أرواح المدنيين ومصير المدن المحاصرة، أصبحت أوراقا تُحرك على طاولة صراع خفي على السلطة، لا مكان فيه لصوت العقل، أو لصرخة الوجع.
إنها إهانة لمفهوم القيادة، واستهزاء بآمال شعب يتطلع إلى الخلاص، وتأكيد على أن دوائر صنع القرار في السودان، لا تزال بعيدة كل البعد عن الواقع المعاش لشعبها.
وبينما يلف الصمت وزارة الدفاع، ويغيب عنها وزيرها الصادح سابقا، تستمر الدلنج وكادقلي في صراع البقاء.
كل يوم يمر، هو شهادة جديدة على حجم الإهمال والخذلان، العجائز يتساقطون من الجوع، الأطفال يلفظون أنفاسهم الأخيرة بسبب نقص أبسط الأدوية، والشباب يواجهون الموت في سبيل لقمة العيش أو قطرة الماء، حيث لا فرق بين المدني والعسكري في هذه المعادلة، فالجميع يواجه مصيرا واحدا، هو الموت البطيء، أو الانصهار في تراب الأرض.
هل أصبح الكرسي الوزاري أكثر راحة من صرخات أهله، وهل أصبحت برودة تكييف المكاتب أفضل من حرارة معركة كسر الحصار، أم أن كل تلك العنتريات لم تكن سوى وسيلة للوصول إلى المنصب، وبعده تلاشت الحاجة إلى الأقوال، وحان وقت الصمت المطبق؟
عزيزي القارئ..
إن هذا الوضع ليس مجرد نكتة ساخرة في حوارات المقاهي والأندايات، بل هو فضيحة سياسية وإنسانية بكل المقاييس، أن يكون وزير الدفاع، ابن المدينة المحاصرة، غير قادر أو غير راغب في اتخاذ أي قرار يفك به الحصار عن أهله، لهو أمر يفوق التصور، ويضرب في العمق مفهوم المسؤولية الوطنية.
إنه يعكس، في أبشع صوره، انفصالا تاما بين مراكز القوة وصناع القرار، وبين واقع الأرض المرير، ومعاناة الناس البسيطة.
وهكذا، بينما تئن الدلنج وكادقلي تحت وطأة حصار لا يرحم، ويُبكي الحجر والشجر، يرتفع ستار جديد على مسرح السياسة السودانية، ليُظهر لنا فصلا بعنوان، وزير الصمت وتلاشي العنتريات.
إنها ليست مجرد قصة غياب رجل عن الأضواء، بل هي ملحمة حزينة تُعزف على أوتار الخذلان، وتُروى بدموع الجياع والعطشى في مدن ظلت تنتظر فارسها الموعود.
لقد تحول صوت كسر الحصار المدوي، الذي كان يزلزل الجبال ويثلج صدور المحاصرين، إلى همس باهت يكاد لا يُسمع خلف أبواب الوزارة الثقيلة، وكأن كرسي السلطة، هذا الكائن الغامض، يمتلك قدرة خارقة على تحويل الأسود الزائرة إلى قطط أليفة تُجيد فن الصمت والانزواء.. فهل هي عدوى بيروقراطية مستعصية، أم هي هندسة وظيفية تفرض على شاغلي المناصب العليا أن يرتدوا قناع اللامبالاة، وأن يتقنوا فن الغموض في أزمنة الشدة؟
حقا، إنها لمعضلة وجودية تُدمي القلوب، أن يكون ابن الدلنج وزيرا للدفاع، فيُصبح صمته أشد فتكا من قذائف المليشيات، لنتساءل بحرقة وألم: هل كان الأمر مجرد مانشيتات للاستهلاك المحلي، أم أن الشريط النيلي قد أحكم قبضته تماما على كل مقاليد القرار، ليُصبح الوزير مجرد ديكور فاخر يزيِّن الواجهة الرسمية للوزارة العتيقة؟
إن صمت سعادة الوزير، في خضم هذه الكارثة الإنسانية، ليس مجرد غياب، بل هو رسالة بليغة تُكتب بحبر الألم والمعاناة، وتُوقّع بدموع الأمهات، مفادها أن المناصب قد تُغير الأماكن، ولكنها لا تُغير بالضرورة من طبيعة العرائس أو خيوطها الخفية.
وبينما يظل السؤال معلقا في الأفق، كشبح يُطارد أروقة السلطة في بورتسودان، وهو، إلى متى سيستمر هذا المسرح الهزلي، وإلى متى تبقى الشعوب السودانية، وتحديدا أهالي الدلنج وكادقلي والفاشر وبابنوسة، يدفعون فاتورة باهظة، ثمنها أرواحهم، ومستقبلهم، وصدى عنتريات ضاعت في أدراج وزارة الفريق حسن داؤد كبرون.