Post: #1
Title: السودان: هوية راسخة بين مجالين كتبه د. ياسر محجوب الحسين
Author: د. ياسر محجوب الحسين
Date: 08-14-2025, 01:23 PM
01:23 PM August, 14 2025 سودانيز اون لاين د. ياسر محجوب الحسين-UK مكتبتى رابط مختصر
أمواج ناعمة
في زمن تتشابك فيه الجغرافيا مع السياسة، وتتشابك المصالح الاقتصادية مع الهوية الثقافية، يقف السودان على مفترق طرق تاريخي. موقعه ليس مجرد مساحة على الخريطة، بل عقدة وصل بين عالمين حيويين: الفضاء العربي بثقله الحضاري والديني، والقارة الإفريقية بعمقها التاريخي ومواردها الواعدة. ورغم أن التاريخ منحه هذا الموقع الفريد، فإن الواقع المعاصر يكشف عن فجوة واسعة بين الإمكانات النظرية والإنجاز الفعلي، فجوة سببها غياب الإرادة السياسية الكافية لاستثمار هذه المزايا وتحويلها إلى مشروع تكاملي حقيقي. هنا يبرز السؤال: كيف يمكن للسودان أن يحوّل موقعه من فرصة معلّقة إلى رافعة استراتيجية للأمن والاستقرار والنمو المشترك؟
يحتل السودان موقعا جغرافيا فريدا يجعله على تماس مباشر مع أكثر من مجال حيوي في الوقت نفسه. فمن ناحية، يمتد انتماؤه الثقافي والديني العميق إلى الفضاء العربي، حيث اللغة العربية والدين الإسلامي شكّلا عبر قرون الإطار الجامع لمكوناته السكانية. ومن ناحية أخرى، يشكل السودان جسرًا حيويًا يصل هذا الفضاء العربي بالقارة الإفريقية، بفضل جذوره التاريخية المشتركة وصلاته الاجتماعية الممتدة عبر الحدود، فضلًا عن الإمكانات الاقتصادية الهائلة التي يمكن أن تتحقق إذا ما جرى تفعيل التكامل بين الطرفين العربي والإفريقي. غير أن استثمار هذه الروابط يحتاج قبل كل شيء إلى إرادة سياسية حقيقية من جميع الأطراف، وهو ما لم يتوفر بالقدر الكافي حتى الآن، مما جعل كثيرًا من فرص التكامل تضيع أو تبقى حبيسة التصورات النظرية.
هذه الثنائية في الانتماء ليست حالة طارئة أو مصطنعة، بل هي نتيجة تفاعل طويل ومعقد بين عوامل التاريخ والجغرافيا والهجرات والاستقرار السكاني. صحيح أن الهجرات، العربية وغير العربية، لعبت دورا مهمًا في تشكيل التركيبة السكانية للسودان في فترات تاريخية بعيدة، وأن بعض المجموعات النوبية احتفظت بوجودها في موطنها منذ العصور القديمة. لكن هذا الطرح لا يعكس تمامًا الواقع المعاصر، على الأقل خلال المائة سنة الماضية.
فالعديد من المجموعات السكانية التي تُصنَّف اليوم «عربية» أو «غير عربية» في السودان لم تأت نتيجة هجرات حديثة، بل استقرت منذ قرون طويلة وأصبحت جزءًا أصيلًا من النسيج الاجتماعي والثقافي السوداني. على سبيل المثال، القبائل العربية الكبرى مثل الجعليين والشايقية والكواهلة اندمجت مع السكان المحليين منذ العصور الوسطى، لتنتج مزيجًا ثقافيًا متجانسًا يحمل ملامح عربية وإفريقية في آن واحد.
أما المجموعات المصنفة «غير عربية» مثل البجا والنوبيين والفور والزغاوة، فلها جذور عميقة في أرضها الحالية، سابقة على أي موجات هجرة عربية، وهي جزء لا يتجزأ من الشخصية الوطنية السودانية. هذه المكونات جميعها أسهمت في تشكيل هوية جامعة، تقوم على التنوع والاندماج لا على الانقسام، وعلى تقاليد التعايش التي عرفها السودان منذ قرون.
من هنا، فإن القول المبالغ فيه بأن «كل مكونات السودان مهاجرون» لا يصمد أمام التدقيق في التاريخ القريب، أي منذ الاستقلال، إذ يغفل أن معظم المكونات الحالية مستقرة منذ قرون طويلة، وأن التحديات الراهنة مرتبطة أساسًا بالهجرات الحديثة وتأثيراتها.
هذه الحقيقة ضرورية لفهم موقع السودان في مجاله الحيوي، لأن الهوية الوطنية المستقرة تشكل ركيزة أساسية لأي دور إقليمي فاعل. فالسودان، بهويته العربية الإسلامية وجذوره الإفريقية العميقة، يملك القدرة على لعب دور الوسيط الثقافي والاقتصادي بين فضاءين متكاملين. في المجال العربي، يشترك مع محيطه في اللغة والدين والتاريخ السياسي المشترك، وفي المجال الإفريقي يشارك في الميراث الحضاري والأنماط المعيشية والمصالح الاقتصادية.
هذا الموقع المزدوج يمنحه ميزة استراتيجية على الصعيد الجيوسياسي. فهو يمثل بوابة طبيعية للعالم العربي نحو إفريقيا جنوب الصحراء، وبوابة لإفريقيا نحو العالم العربي. هذه الوظيفة الجسرية لا تقتصر على الجغرافيا، بل تشمل أيضًا البنية البشرية التي تمثل نموذجًا للتداخل العربي-الإفريقي، وهو ما قد يشكل أساسًا لمشاريع تكامل اقتصادي كبرى، سواء في مجالات الطاقة والزراعة والمياه أو في مجالات الثقافة والتعليم.
لا يمكن الحديث عن المجال الحيوي للسودان دون التطرق لعلاقاته التاريخية بمصر. فالروابط بين البلدين تمتد إلى آلاف السنين، منذ عهد الممالك النوبية والفرعونية، حيث تبادلتا التأثير الثقافي والسياسي والاقتصادي. وفي العصر الحديث، تشابكت مصائر البلدين في فترات الحكم التركي-المصري، ثم في فترة الاستعمار الإنجليزي، وصولا إلى ما بعد الاستقلال. نهر النيل ظل الرابط الأهم، ليس فقط كمصدر للحياة والزراعة، بل كمعبر للتجارة والتواصل الإنساني. هذه العلاقة التاريخية جعلت من مصر أحد أهم منافذ السودان إلى العالم العربي، ومن السودان عمقا استراتيجيا لمصر في إفريقيا. إن استثمار هذا الإرث المشترك في مشروعات تنموية مشتركة يمكن أن يعزز التكامل العربي-الإفريقي، ويحوّل النيل من مصدر نزاع محتمل إلى محور للتعاون الإقليمي.
في النهاية، يمكن القول إن السودان ليس مجرد نقطة التقاء بين عالمين، بل هو كيان يمتلك مقومات الانتماء الكامل لكل منهما. وقدرته على الاستفادة من هذا الموقع الفريد مرهونة بوعيه بهويته الراسخة، وبحفاظه على توازنه الديموغرافي والثقافي، وبقدرته على بناء جسور التعاون لا فقط مع محيطه العربي والإفريقي، بل بينهما معا. فإذا ما تحقق ذلك، يمكن أن يتحول السودان من مجرد معبر جغرافي إلى محور استراتيجي للتكامل الإقليمي، ومصدر قوة واستقرار لكلا المجالين الحيويين اللذين ينتمي إليهما.
|
|