Post: #1
Title: المورال فوق: من قلب الأراضي المحررة ينبض مشروع السودان الجديد كتبه خالد كودي
Author: خالد كودي
Date: 08-07-2025, 06:38 PM
06:38 PM August, 07 2025 سودانيز اون لاين خالد كودي-USA مكتبتى رابط مختصر
7/8/2025 خالد كودي، معسكر ايدا للاجئين السودانيين
في الأراضي المحررة يسمّونه "المورال" — والمورال فوق-
ليست مجرد عبارة عابرة تتردد في الأحاديث اليومية، ولا شعارًا حماسيًا لحظة انفعال. إنها تعبير مكثّف عن حالة وجدانية–ثورية متأججة، تُرى في عيون الأطفال المتطلعة إلى مستقبل مختلف، وتُسمع في نبرة القادة وهم يخطّون طريق التحرير، وتُلمس في أكفّ المزارعات وهن ينبشن ارض الجباريك بعزيمة لا تلين لتزرع الحياة في مواجهة الموت.
هنا، في جبال السودان الجديد وسائر المناطق التي تحررت من قبضة الدولة المركزية الاستعلائية، لا مكان للحنين إلى الوراء، لا مكان للخوف، ولا مساحة للتردد أو الحياد.
في هذه الأرض، كل خطوة إلى الأمام فعل مقاومة، كل عزقة محراث بيان سياسي، كل اجتماع في السوق ممارسة للسيادة، وكل نقاش في القهاوي تعبير وجودي عن الانتماء لسودان جديد لا مكان فيه للهيمنة القديمة
في "بومات" السودان الجديد: المطر والخريف والعزيمة كفعل ثوري في الأيام القليلة الماضية، تنقّلت بين عدد من "كاونتيات" السودان الجديد، حيث تتداخل الطبيعة والثورة في مشهد واحد لا يُفكّك. هناك، بدا الخريف أكثر من مجرد موسم؛ بدا وكأنه إعلان رمزي عن بدء دورة جديدة من الفعل الجماعي والسيادة على المصير.
رأيت الأطفال في عطلتهم المدرسية يتجهون إلى الزراعة، والشباب يعملون بوعي من يعرف أن الزراعة موقف سياسي، والنساء يحملن أدوات العزق الثقيلة على أكتاف راسخة وقلوب مشرعة بالأمل، كما تحدثت مع شيوخٍ لا تزال أكتافهم تحمل ذاكرة المعارك القديمة، ومع مناضلين عائدين من خطوط النار مباشرة إلى خطوط الزراعة والعكس... المطر هنا لا يعني الماء فقط، بل يعني السيادة. هو وعد من صلاة الاسلاف بالخُصب، بالاكتفاء، والشراكة مع العائدين وبالعزة التي لا تُشترى من مراكز القرار في الخرطوم. الأرض تُروى، فتُزرع، فتثمر... لا لتأمين الغذاء فحسب، بل لتغذية مشروع كامل في التحرر، والاكتفاء، والمواجهة
الثورة في المناطق المحررة تمشي على الأرض وتحمل وثيقتها، وهي ليست شعارًا مرفوعًا ولا وجدانًا عابرًا. إنها حياة تُعاش، تخلط بين الجراية والوثيقة، بين الزراعة اليومية والالتزام الدستوري العميق.
هنا، وثيقة "المبادئ فوق الدستورية" ليست نصًا قانونيًا فقط، بل خارطة حياة. كل خطوة على الأرض، كل قطرة عرق في الحقل، كل ندوة شعبية في مدرسة أو مجلس، تصب في نهر هذه الرؤية الكبرى: لا مركزية، علمانية، ديمقراطية، وعدالة تاريخية.
المعنويات؟ في أعلى مداها. لأن الناس هنا تجاوزوا نقطة اللاعودة، وفكّكوا شروط الاستلاب، ورفضوا وهم "الوحدة" التي تُبنى على التهميش والإلغاء.
من اقليم جبال النوبة: تأسيس دولة لا تشبه المركز عبر الحلال والكاونتيات، صوت السودان الجديد لا يخرج من المنصات بل من الجباريك، من الحناجر، من لحظات الحياة اليومية التي تُعاد صياغتها من الأساس.
يمكن مشاهدة كيف يبني الناس مشروعهم: بالوعي، بالإرادة، وبإيمان لا يتزحزح بأن الدولة تُبنى من الأرض لا من القصر، من الناس لا من النخب الفاشلة.
لكن أعمق ما يمس الزائرين مشهد التعدد الديني الحي: زرت مسجدًا، وكنيسة، وبيت كجور، جميعها مفتوحة، متجاورة، تنبض بالحياة والتسامح. لا أسوار تفصل، ولا خطاب يجرّم، ولا مؤسسات تحاصر الإيمان.
في السودان الجديد، لا مكان للهوس الديني، ولا سلطة لمؤسسة تفرض الخوف باسم المقدّس. الدين هنا تجربة إنسانية حرة، متصالحة مع الآخر، ومع الذات، ومع المستقبل!
من الهامش تُصاغ الدولة: الزراعة، الثورة، والانقلاب التاريخي ما يجري اليوم في إقليم جبال النوبة وفي كاونتيات السودان الجديد ليس انتقالًا ناعمًا، بل انبثاقًا تاريخيًا عميقًا من الجذور. إنها قطيعة لا رجعة عنها مع المركز القامع، وميلاد دولة لا تُصاغ بشروط الخرطوم القديمة ولا رؤيتها، بل تُكتب فصولها من عرق المزارعين، من دماء المناضلين، ومن وعي شعبيّ لا يقبل العودة إلى الوراء. التفيير الحقيقي وقع: الهامش لم يعد متلقيًا، بل صار هو من يخطّ الطريق.
لم تعد الثورة تُدار من فوق، بل من تحت — من تراب الأرض، من المزارع، من السوق، من المعاول التي تُضرب في عمق التربة كما تُضرب في جدار الدولة القديمة. هذا التحوّل ليس شعارًا، بل ممارسة يومية حيّة. في هذا الخريف، تحتفي الثورة بالمطر كأنها تحتفل بسيادتها. في "أم دورين"، و"دلامي"، وفي القرى الممتدة بين الوهاد، تخرج الأسر فجرًا إلى الحقول. رجال ونساء، شيوخ وأطفال يحملون معاول تفوق أطوالهم، يزرعون الأرض كما لو أنهم يكتبون بها دستورهم الجديد.
الزراعة هنا ليست للبقاء فقط، بل لفكّ التبعية، ودعم الخطوط الأمامية بالذرة والدخن بدلًا من الوعود والشعارات.
في الصباح تنطلق مواكب الزراعة، وفي المساء، حين تُشعل النيران، لا يُطهى الطعام فقط، بل تُستعاد الحكايات، وتُناقش السياسة، وتُخطّط المواسم القادمة قال أحد المزارعين: "الأرض بتدي الزول البحبها... البيدافع عنها وقت الشدة."
ولم تكن مجازًا وفي كاودا فوق، في سوق الأربعاء تحت ظلال أشجار النيم، لا تُتداول أسعار الدولار، بل تُناقش قيم الحرية. القهاوي هنا ليست للفراغ، بل ساحات حوار مفتوح: عن الفرق بين "الدولة" و"السلطة"، بين "الوطن" و"الغنيمة"، وعن دستور تحالف "تأسيس" ووثيقة "المبادئ فوق الدستورية".
قال أحد الشيوخ وهو يرتشف قهوته: "نحن بنيناها من دمنا... ما بنديها لأي زول تاني." والحاضر يكلم الغائب! هنا الدولة تُصاغ من الأسفل لا من الأعلى، من الجذور لا من القصر، من الجباريك لا من القاعات المكيفة.
الشباب ينتقلون بين الوحدات الإدارية، يؤسسون لجان التعليم، ينشرون الوعي الصحي، ويغيثون العائدين من جحيم الحرب ورعب قوانين الوجوه الغريبة. دوواين السلطة المدنية للسودان الجديد تعمل بلا انقطاع، والناس لا ينتظرون المركز، لأنهم أنشأوا مركزهم، وأعادوا تعريف "السيادة" بوصفها فعلًا جماعيًا ثوريا حيًّا. وما يجري في مزارع السودان الجديد اليوم — بعيدًا عن عدسات الخرطوم — هو ثورة لا تُبشّر بالبيانات، بل تُروى بالعرق، وتُحصد بالكرامة.
في قلب هذا المشهد، الزراعة ليست فقط مهنة، بل بيان سياسي، ومقاومة ضد الخراب، وانتماء يومي لأرضٍ لا تُمنَح، بل تُستعاد- ولن تذهب مرة اخري...ابدا! هكذا، ومن تحت، تُبنى الدولة الجديدة: لا على أساس الغلبة، بل على الحق؛ لا على الوعد، بل على الفعل؛ لا من الخرطوم، بل من حيث ظُنّ دومًا أن لا شيء يُثمر.
لكنهم زرعوا، وحصدوا، وغيّروا المعادلة مرة واحدة وإلى الأبد.
الالتزام بالرؤية: لا عودة لما قبل "تأسيس"،
حين اشتدت الحرب في الخرطوم، لم يصمد جيشها، ولم تحمِها نُخبها، ولم تُدافع عنها أحزابها. فرّ قادتها، من اليمين واليسار، إلى القاهرة واسطنبول والدوحة... وغيرهم، وتُرك المواطنون الفقراء والمهمشينت تحت رحمة القصف والموت المجاني. أما في الأراضي المحررة، فقد اختار الناس البقاء، لا بدافع الجبر، بل عن وعي وولاء للأرض والرؤية.
لم يُطلب من المدنيين حمل السلاح، لكنهم حملوا ما هو أثقل: المسؤولية. لم يدافعوا عن أنفسهم فقط، بل عن مشروع بأكمله، عن "تأسيس" لا يُختزل في لحظة، بل في مسار طويل من النضال، دمّر المركز كل مقوماته ثم طالبه بالولاء.
هنا، لا أحد يفكّر بالعودة إلى ما قبل "تأسيس"، لأن تلك العودة تعني خيانة الشهداء، وتفريطًا في وثيقة بُنِيَت بالدم لا بالحبر.
الخرطوم تفرّ، وأراضي الثورة تصمد،
في الخرطوم، انهارت الدولة قبل أن تنهار المباني. الأحياء تُقصف تباعًا، والشوارع تخلو من أي أثر لمؤسسات الحماية أو السلطة. لم يدافع شباب العاصمة عن مدينتهم، لا لأنهم جبناء، بل لأن المدينة نفسها لم تكن يومًا لهم كما لم تكن للمهمشين -وان لم يعوا تماما. لقد صنعها المركز لأجله، وعاشوا فيها كزائرين لا كأصحاب حق. لم تكن الخرطوم، كما هي، تستحق الدفاع، لأنها لم تُنصف شبابها، فقراءها ولامهمشيها يومًا، ولم تعترف بوجودهم إلا كهوامش بشرية زائدة عن الحاجة! في المقابل، في الأراضي المحررة، لم يفرّ الناس. بل وقفوا بثبات يدافعون عن شيء يتجاوز التراب: دافعوا عن مشروع، عن رؤية، عن وعد السودان الجديد الذي نُحت من آلامهم ودمائهم، وصيغ بوثائقهم ونضالاتهم. لم تكن معركتهم من أجل البقاء فقط، بل من أجل المعنى، ومن أجل دولة ولدت من رحم الهامش، لا من مكاتب المركز وبيروقراطيته العقيمة. هكذا تنقلب المعادلة. الخرطوم التي لطالما احتكرت القرار، وصاغت السياسات من فوق، لأجل نخب لم تعرف الجوع ولا القصف، أصبحت خارج سياق التاريخ. أما اليوم، فالقرارات تُصاغ من أسفل: من الهامش، من يد أولئك الذين حرثوا الأرض، وسُحقت قراهم بالقنابل، ثم نهضوا ليحملوا الجراية والبندقية، ويكتبوا حلمهم بعرق الجباه لا بحبر المكاتب.
من دماء الشهداء إلى السلطة الشعبية: السودان الجديد يُبنى من الهامش لم يعد مشروع السودان الجديد فكرة مؤجَّلة أو شعارًا نضاليًا، بل أصبح واقعًا يتحرك على الأرض، يتجلى في السياسات، والسلطة، والوعي الجماعي. هذه الرؤية، التي وُلدت من تضحيات الهامش وتاريخ مقاومته، وجدت تجسيدها في وثيقة المبادئ فوق الدستورية، التي أصبحت مرجعية تأسيس لا عودة عنها. في كل "كاونتي" زرناها، لم يكن حضور الدولة يُقاس بالمكاتب، بل بالبشر: شباب وشابات السلطة المدنية للسودان الجديد يتحركون بين المدارس والمراكز الصحية والمجالس المحلية، ينشرون الوعي، يؤسسون للعدالة، ويغيثون النازحين. لا ينتظرون تعليمات من فوق، بل يبنون السلطة من تحت، بوصفهم بنّائي وطن لا موظفي بيروقراطية. إنها المرة الأولى التي تُبنى فيها حكومة من الهامش، تستند إلى قيم التحرر ، لا إلى المركز ومصالحه. ليست هذه لحظة عابرة، بل ذروة التحول البنيوي في مفهوم الدولة نفسها — من سلطة تُفرَض، إلى سيادة تُصاغ جماعيًا وتُمارَس من القاعدة
الأسواق والقهاوي: نبض السياسة اليومية
في سوق الأربعاء على تخوم كاودا فوق، الحياة تنبض بثقة وهدوء. كل شيء متوفر: البضائع، المواد الأساسية، التفاؤل. الناس يتسوقون دون قلق، ويتحاورون بحرية.
أما القهاوي، فهي منتديات السياسة الحقيقية. لا أحد هنا يتحدث عن تافه الأمور أو صغائرها. النقاش يدور حول بناء جيش وطني واحد لا يقصف أبناءه، حول الدولة اللامركزية العلمانية التي تضمن الحقوق لكل الأقاليم، حول العدالة التاريخية التي لا تسقط بالتقادم، وحول مستقبل مختلف عن كل ما سبق. مرتادو القهاوي ليسوا مجرد متفرجين، بل شركاء في صياغة المصير. هم أبناء تجارب مؤلمة مع أنظمة الخرطوم المتعاقبة، التي يُشار إليها في حديثهم باسم "الجلابة" — مصطلح لا يُستخدم هنا بمعناه الإثني، بل بوصفه رمزًا لكل منظومات التسلط، والتمييز، والفساد.
يتحدثون عن حقهم في الأرض والتعليم والصحة والطرق والكباري، كحقوق لا تفضّل من المركز، بل كاستحقاق تاريخي، انتزعوه بدماء الشهداء، ولن يتنازلوا عنه مجددًا.
ثوار لا يشبهون سواهم: حاملو مشروع السودان الجديد هنا، في الأراضي المحررة، لا تجد ضحايا ينتظرون العون، بل ثوارًا يصنعون المصير. لا يشبهون أي نموذج تقليدي للثورة أو الدولة في الشمال، لأنهم تجاوزوا الاثنين معًا. هم جيل جديد من السودانيين، يحملون رؤية واضحة، لا تتلعثم عند المنعطفات، ولا تساوم عند المبدأ.
هؤلاء الثوار، رجالاً ونساءً، يعرفون أن الأمن لا يُستجدى، بل يُنتزع من بنية غير عادلة. وأن المساواة لا تُمنح، بل تُفرض برؤية تأسيسية تعيد صياغة مفهوم الدولة نفسه. علمانية، ديمقراطية، لا مركزية، وعدالة تاريخية… هذه ليست شعارات معلّقة على الجدران، بل مسارات يومية تُعاش، وتُبنى، وتُروى بالعرق والنار والوعي.
رسالة إلى نخب الخرطوم: الثورة تجاوزتكم على النخب المترنّحة بين أوهام الماضي ومقايضات الحاضر أن تدرك الحقيقة: لا برهان، ولا الحركات الانتهازية، ولا رموز "المعارضة الاحتياطية" المتربصة بالمشهد في بورسودان، يمكنهم خداع هذه الجماهير أو إعادتهم إلى دائرة التهميش المركزية التي ثاروا ضدها.
إن أبناء وبنات السودان الجديد ليسوا أدوات لأي مشروع إصلاحي يدار من فوق، ولا يطلبون رضا أحد. لقد حسموا أمرهم: لا عودة إلى دولة الامتيازات، ولا إلى ما قبل وثيقة "تأسيس"، ولا إلى الخرطوم التي كانت تصوغ القوانين وتوزّع الفرص باسم الوحدة، بينما تمارس الإقصاء باسم الدولة- لقد قضي الامر!
الخلاصة: قيادة الثورة انتقلت... ومن لم يدرك فقد عمي عن التاريخ في المناطق المحررة، الثورة ليست حدثًا وقع، بل واقع يُبنى. الرؤية ليست حلمًا مؤجّلًا، بل ممارسة يومية، ونظام بديل يتشكّل رغم الحرب والحصار. هؤلاء الناس، الذين زرعوا الأرض وسقوها من دمهم، لا ينتظرون نخب الخرطوم لتصوغ لهم المستقبل.
لقد تجاوزوهم: بالوعي، وبالشجاعة، وبالعمل. وما تسميه تلك النخب "حيادًا" أو "تحفّظًا" ليس سوى غطاء لتأبيد امتيازاتها، وخوف من لحظة الحقيقة التي تصعد من الجبال لا من الصالونات الناس هنا لا يعودون، لأن ما خلفهم كان جحيمًا من الإقصاء، وما أمامهم هو الدولة التي تشبههم.
والمورال؟ ليس فقط فوق. المورال في السماء. لأنه يستمدّ طاقته من عدالة الرؤية، وكرامة الفعل، واستحقاق التاريخ، والرهيفة التنقد مع "الجلابة" ومشاريعهم الوهم!
النضال مستمر والنصر اكيد.
(أدوات البحث والتحرير التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)
|
|