Post: #1
Title: الحزب الشيوعي بين العزلة والاشتباك المجتمعي: قراءة في موقفه من السلطة في بورتسودان
Author: زهير ابو الزهراء
Date: 08-05-2025, 02:13 PM
02:13 PM August, 05 2025 سودانيز اون لاين زهير ابو الزهراء-السودان مكتبتى رابط مختصر
في زمن تتقاطع فيه الخنادق السياسية والعسكرية، وتغيب فيه الشرعيات، يصبح كل موقفٍ سياسي مرصودًا تحت مجهر التخوين أو التماهي. من هذا المنطلق، أثار تصريح صادر عن فرع الحزب الشيوعي السوداني في عطبرة في نهاية يوليو 2025 اهتمامًا متزايدًا، إذ أعلن عن مبادرة خدمية للمساهمة في حل أزمة مياه المدينة، بالتعاون مع وزير البنى التحتية في ولاية نهر النيل. على سطح المشهد، يبدو أن الحزب بدأ يتفاعل مع "السلطة الفعلية" التي تدير جزءًا كبيرًا من السودان من مدينة بورتسودان، حيث تتجمع بقايا الحكومة ومجلس السيادة والوزارات التنفيذية. لكن الموقف أعمق من هذه القراءة المبسّطة. من القطيعة مع السلطة... إلى الاقتراب من الناس منذ اندلاع الحرب، اتخذ الحزب الشيوعي السوداني موقفًا مبدئيًا برفض الحرب ورفض شرعية كلا الطرفين المسلحين (الجيش والدعم السريع)، ودأب على التحذير من عسكرة الحياة السياسية والانزلاق نحو الاحتراب الأهلي طويل الأمد. كما رفض الاعتراف بالترتيبات السياسية التي أُقرت في بورتسودان، واعتبرها استمرارًا لتدوير النخب، لا خروجًا من الأزمة. لكنه، في الوقت ذاته، لم يختر الانعزال التنظيمي عن هموم الناس. ففي ظل تقاعس السلطة الفعلية عن تقديم أبسط الخدمات، قرّر أن يبادر بمشاريع عملية (مثل الطاقة الشمسية لتشغيل محطات المياه)، وأن يتعامل مع المؤسسات المحلية باعتبارها أدوات خدمية لا سياسية. ليس تراجعًا... بل اشتباك دون مساومة الخطأ الشائع هو الاعتقاد بأن أي تنسيق مع سلطات قائمة، ولو على المستوى المحلي، يعني التورّط في شرعنة النظام. لكن التجربة تقول إن العمل السياسي النقي لا يُقاس فقط بعدم الاقتراب من "الدولة" بل بكيفية الاقتراب من "الشعب" دون الاتساخ بالسلطة. ما فعله فرع الحزب في عطبرة ليس استسلامًا للمركز الجديد في بورتسودان، بل محاولة لاستعادة المبادرة من داخل المجتمع المحلي، وإثبات أن هناك قوى مدنية قادرة على إنتاج حلول واقعية خارج منطق البنادق والتحالفات المسلحة.
الحزب الشيوعي في مفترق الطرق من المهم الإقرار أن الحزب الشيوعي نفسه يواجه تحديًا كبيرًا في هذا المنعطف التاريخي - فهو أمام جمهور يطالب بالفعل لا بالبيانات. وأمام سلطة عسكرية-مدنية هجينة تريد إعادة ترتيب البلاد من فوق. وفي الوقت ذاته، تتآكل شرعية المعارضة التقليدية إن لم تقدم بديلاً ملموسًا. من هنا، فإن استثمار طاقات الحزب في مبادرات خدمية واشتباك ذكي مع الواقع، دون التفريط في الخط السياسي العام، هو الخيار الوحيد للخروج من الهامشية الحزبية التي تطارد اليسار السوداني منذ عقود.
إن الحزب الشيوعي السوداني لا يعاني من فائض المبادئ بقدر ما يعاني من ندرة الجسور إلى الناس. وخطوة عطبرة، وإن بدت صغيرة، فإنها تُظهر إمكانية بناء سياسة جديدة تقوم على النزاهة والبراغماتية دون مساومة.
في زمن الدولة المحطّمة، تصبح السياسة الحقيقية هي تلك التي تُنقذ بئر ماء، وتعيد تشغيل محطة كهرباء، وتوصل الدواء لمخيم نازحين، لا تلك التي تكتفي بالانتظار على أرصفة التاريخ.
فليست كل طرق العمل مع السلطة خيانة... أحيانًا، تكون هي أقصر الطرق لإنقاذ المواطن من سلطة لا تعنيه في شيء.
|
|