Post: #1
Title: الفاشر- عندما تُحاصر المدنية بخطاب البنادق وصمت المنابر
Author: زهير ابو الزهراء
Date: 08-04-2025, 09:08 PM
09:08 PM August, 04 2025 سودانيز اون لاين زهير ابو الزهراء-السودان مكتبتى رابط مختصر
بين أنقاض المدينة وهدير المايكروفونات، تحاصر الفاشر اليوم مرتين: مرة بالرصاص، وأخرى بالكلمات. ففي مشهد تتداخل فيه الجبهات الإعلامية مع العسكرية، تتحوّل المدينة المنكوبة إلى "رمز" تُعلّق عليه الشعارات وتُصفّى فيه الحسابات السياسية، في حين تُدفن فيه الحقيقة تحت ركام التضليل. لم تعد الفاشر مجرد مدينة تحاصرها قوات الدعم السريع، بل تحاصرها أيضاً آلة إعلامية توزّع صكوك الوطنية وتوزّع اتهامات "الخيانة" على كل صوت يدعو إلى إنقاذ ما تبقى من الأرواح. في هذا المقال، نُحلل كيف تحوّلت المعالجة الإعلامية للقضية من تغطية إنسانية إلى دعاية سياسية، ونقف على مواقف الإعلاميين من مناصري الجيش، ونفكك آليات التخوين كأداة للقمع الرمزي وسط الخراب. الفاشر، إذن، ليست مجرد خبر عاجل… بل مرآة لخيبة المشروع الوطني حين تُصادره البنادق وتُخرسه الشعارات. في الوقت الذي تحاصر فيه نيران الحرب مدينة الفاشر، وتُهدد ما تبقى من مدنيتها وروحها، يصطف الإعلام السياسي على الضفتين ليحوّل الكارثة الإنسانية إلى مادة دعائية لصراع السلطة. لم تعد الفاشر مجرد مدينة منكوبة بل تحوّلت إلى ساحة اختبار سياسية وأخلاقية للخطاب الإعلامي، لا سيما من داخل معسكر مناصري الجيش.
الفاشر ليست "معركة" بل مدينة تصرخ بعيدًا عن لغة البيانات والخرائط، يعيش في الفاشر أكثر من 800 ألف إنسان، نصفهم نازحون من الحروب السابقة. كل شارع فيها ليس جبهة، بل مسرح حياة: سوق، مدرسة، مستشفى، بئر ماء. لكن في خطاب الإعلام الموالي للجيش تُختزل المدينة في كلمة واحدة: "الثغر المتبقي"، وكأنها بوابة تكتيكية لا روح فيها. هنا تبدأ إشكالية المعالجة الإعلامية: تم تصوير الفاشر باعتبارها رمزًا للصمود العسكري، لا باعتبارها صرخة مدنية تُستغاث بها. وتم تحميلها فوق طاقتها الرمزية، لدرجة أن المطالبة بوقف القتال صار يُعد خيانة.
الإعلاميون في مرمى السؤال الولاء يسبق الأخلاق تجلّت الأزمة الأخلاقية في مواقف لافتة لعدد من الإعلاميين المحسوبين على معسكر الجيش، ممن اتخذوا من المنابر مساحةً لترويج خطاب "الانتصارات" وتخوين الأصوات الناقدة. إعلاميو منصات مثل الحدث وسودان بوست تبنوا تغطية لا تعتمد على توثيق ميداني، بل على نقل مباشر لرواية الأجهزة الأمنية، بصور أرشيفية ومصادر "حصرية" مجهولة.
أصوات محسوبة على تيارات "الوعي السيادي"، كوجدي كامل والزين عثمان، غلّفوا خطاباتهم بكلمات كبيرة: "الكرامة، الشرف، الدفاع عن الدولة"، دون أن يسألوا: ما الدولة إن دُمّرت المدينة؟
بعض الشباب، مثل محمد خير البدوي وعادل محجوب، حاولوا تقديم تغطية أكثر توازنًا، لكنهم تعرضوا لهجوم شرس من جيوش إلكترونية لا تقبل بأي صوت خارج نغمة "الصمود المطلق".
المفارقة أن الإعلاميين الذين يطالبون بإنقاذ السيادة، يتجاهلون أن السيادة تبدأ من حماية المدنيين، لا من السيطرة على الأرض. وأن الدفاع عن الدولة لا يُختزل في البنادق، بل يبدأ بوقف المذابح.
التخوين كسلاح سياسي: حين يُراد للدم أن يُخرس الضمير كل صوت يدعو اليوم لوقف إطلاق النار، أو يطالب بإنقاذ المستشفيات، أو يشير إلى مجازر تحدث في معسكرات النازحين، يُوصف بأنه "مطبل للدعم السريع"، أو "متخاذل أمام مليشيا".
هذا النوع من التخوين السياسي لا يقتل الحقيقة فحسب، بل يذبح فكرة الانتماء المدني للوطن. كيف يمكن للمجتمع أن يتعافى حين يُعتبر الألم جريمة، والصراخ على الجثث موقفًا مشبوهًا؟
سؤال الحياد أين الإعلام المستقل؟ وسط ضجيج البنادق والمنصات، يغيب تمامًا صوت الإعلام المستقل أو المدني. لا قنوات ميدانية ترصد الأوضاع، لا بيانات ضغط حقيقية من صحف أو اتحادات إعلامية. تُترك الفاشر لتُستهلك كرمز، وتُغتال كمدينة. بل إن بعض الكيانات التي تحمل اسم "الإعلام المدني" تمارس رقابة ذاتية، أو تتجنب الفاشر خشية الاصطدام بسقف السلطة العسكرية التي لا تحتمل النقد. الفاشر ليست اختبارًا للولاء... بل لاختبار الضمير أن تُطالب بوقف القتال في الفاشر لا يعني أنك تقف مع طرف ضد طرف، بل أنك تقف مع الإنسان ضد الموت. أن تدعو لإنقاذ الأطفال ليس انحيازًا، بل انتماء.
في هذه اللحظة الفارقة، تتقاطع الفاشر مع مستقبل السودان: هل نختار أن نكون إعلامًا يُطبل للرصاص، أم منابر تصرخ لأجل الحياة؟ هل تكون الفاشر مناسبةً لمراجعة الخطاب السياسي والإعلامي؟ أم تظل، كما يريد لها البعض، صورة على "بوستر الشهادة" في معركة بلا نهاية؟ .
|
|