Post: #1
Title: حين ينهار الضمير… تصبح الحرب أقل المآسي كتبه محمد بدوي مصطفى
Author: محمد بدوي مصطفى
Date: 08-03-2025, 02:32 PM
02:32 PM August, 03 2025 سودانيز اون لاين محمد بدوي مصطفى -Germany مكتبتى رابط مختصر
﴿وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ )سورة الشعراء، الآية 183(
"أعظم ما أنقذ ألمانيا لم يكن السلاح، بل بقايا ضمير حي في بيوت الناس، جعل الجائع يُطعم الأضعف، والمُشرد يفتح داره لمَن فقد كل شيء." المؤرخ الألماني فولكر أولريش
اندلعت الحرب في السودان، ولم تكن رصاصة البداية سوى صفارةٍ تنذر بانكشاف الحقيقة. انكشفنا. سقطت الأقنعة، وساد الصمت في وجه الجور. لم تعد المأساة محصورة في الدمار والرصاص، بل في خيانة القيم، في أن يُصبح أخوك النازح سلعة، ويُصبح جوعه مكسبًا، وتشرده فرصة لرفع الإيجار، وزيادة سعر الرغيف، وتقنين الجشع باسم "الضرورة".
شهدت بلادنا - لأول مرة بهذا العنف - سلوكًا لم تألفه ذاكرة السودان حتى في أسوأ أيام المجاعات والانقلابات. لم يَغزُنا العدو من الخارج فحسب، بل هاجمتنا أنانيتنا من الداخل. من استغل الحرب ليرتفع فوق أنقاض أخيه لا يقل إثمًا عمّن أطلق الرصاص.
في شوارع العاصمة المدمّرة، وفي أطراف المدن المنسية، تجد من يبيع الأمل بالتقسيط وبفوائد فاحشة. كيف ينام من رفع إيجار المنزل على أُمٍ نازحة؟ كيف يأكل من خزّن الدواء ليبيعه مضاعفًا؟ كيف نصمت؟! هل بلغ منا الفقر حد التوحّش؟ أم بلغ منا الغبن حدّ تبرير الانتهاك؟
ألمانيا ما بعد الحرب… عندما تعافت الضمائر قبل المدن
في ألمانيا، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، لم تكن المدينة وحدها مدمرة، بل النفوس منهكة، البيوت مهدّمة، والرجال إما تحت التراب أو خلف الحدود. كانت النساء يعجنّ الرماد والدموع، والأطفال يقفون في طوابير الخبز على أطلال التاريخ. لكن ما أنقذهم لم يكن الاقتصاد أو المعونات الغربية، بل روح التضامن، التكافل الشعبي، والضمير الذي لم يُخلع مع بزات الجنود. اصطفّت العائلات كما أسنان المشط، فتحوا البيوت للمشرّدين، تبادلوا الطعام والغطاء، ورفعوا بعضهم بعضًا، لا ليعلو أحد فوق أحد، بل لينجو الجميع.
قال أحد القساوسة في خطبة ما بعد الحرب: "لو لم نغفر لبعضنا، ونتقاسم الفتات كأنّه عيد… لما بقيت لنا بلادٌ تستحق العودة إليها."
والمغرب… حين نطق الجبل بالرحمة
في المغرب، حين ضرب الزلزال مناطق الحوز والأطلس، لم يُستدعَ الناس للنجدة، بل اندفعوا إليها. هُرِع الملايين من مختلف الولايات يحملون الأغطية والخبز والماء والدواء، لا فرق بين غني وفقير، ولا بين أمازيغي وعربي، الكل وقف، وسار، ورفع الآخر. لم تُرفع الأسعار في تلك الأيام، بل رُفعت الأخلاق. لم يُضاعف ثمن الخبز، بل ضُوعف الجود والكرم. كان المغاربة — بحق — دولةً من القلوب قبل أن يكونوا دولة على الخريطة.
وهنا يعلو صدى شوقي في ذاكرة الأمة:
"الناسُ للناسِ، ما دامَ الوفاءُ بهمُ والخيرُ باقٍ، وإن لم يُجزِه أحدُ"
وما نحن إلا امتحان معلّق على الضمير
في السودان، ما يحدث ليس فقط حربًا على الأرض، بل امتحانًا في السماء. امتحان نُسأل فيه: كيف عاملنا بعضنا؟ كيف تحوّلنا من أهل نخوةٍ إلى تجّار آلام؟ أين ذهب وجه السودان الذي كان الناس فيه يتقاسمون الرغيف؟ هل أحنت الحرب رؤوسنا أم كسرت ضمائرنا؟
إن الدين ليس طقوسًا وحركاتٍ على سجادة، بل هو معاملة الناس عند الشدة. الدين هو أن تمنح لا أن تُنهِك، أن تُغيث لا أن تُتاجر، أن تعلو بالحب لا بالربح. وإن لم يظهر الدين في لحظة المصيبة، ففي أي لحظة نُظهره؟
خاتمة… لعلّ فينا بقايا أمل
من باع منزله ليؤوي أسرة مشردة، من اقتسم وجبته مع لاجئ في شارع، من خفّض السعر بدل أن يرفعه، هؤلاء هم من يُراهن عليهم الله لا الوطن فقط. إنّ من ينقذ السودان اليوم ليس السياسي ولا الجندي، بل من ظلّ إنسانًا في زمن الوحوش.
"الساكت عن الحق شيطان أخرس، لكنَّ المُطَبّل للباطل… شيطان ناطق."
فيا أهل السودان… لا تجعلونا نلعن زمننا، بل اجعلونا نفتخر أنّا عشنا في زمن المحنة وخرجنا منه بشيء من الإنسانية. فالمعارك تُحسم بالرصاص، لكن الأمم تُبنى بأيدي الرحماء.
|
|