Post: #1
Title: السلطة كاستحقاق غيبيّ: البرهان والعطا نموذجاً كتبه أحمد ضحية
Author: أحمد ضحية
Date: 07-27-2025, 04:12 PM
05:12 PM July, 27 2025 سودانيز اون لاين أحمد ضحية-USA مكتبتى رابط مختصر
"أبوي قال لي يا برهان يا ولدي ح تبقى رئيس.." "صدام حسين قال لي يا ياسر، حا تحكم السودان.." —- تصريحات علنية لقادة عسكريين سودانيين، في زمن الحرب والتمزق"
حين يتسلّل المقدّس من فراش الأم إلى منصة الحكم: لا تبدأ النبوءة في خطاب القادة العسكريين من قصر الرئاسة، بل من غرفة نوم أو (برندة) أو (راكوبة) أو ربما تحت ظل شجرة الليمون "الرامية على حيطة الشارع". حيث أمٌّ نصف نائمة تمسح على جبين إبنها وتقول: "يا وليدي، امبارح شُفتك في الحلم دكتور كبير".. إنها ليست مجرد جملة حنونة، بل نواةٌ أسطورية، تُحيط بالطفل هالةً غير مرئية، وتبدأ في تشكيل تصوّر جديد للذات: أنك لست من عامة الناس، بل من الذين (رأى الغيب) فيهم شيئاً خاصاً. هذا الخيط الرقيق بين "الحُلم الأمومي" و"تصريحات القادة" يربط الحقل الشعبي بالحقل السياسي، ويكشف كيف "يُعاد إنتاج المقدّس" في السودان، لا كدين أو طقس، بل كحالة وجدانية كامنة في أعماق الوعي الجماعي. النبوءة في الخطاب السياسي السوداني ليست معلنة بقدر ما هي مُضمَنة. فالبرهان لا يقول أنه "يستحق الحكم لأنه منتخب"، بل لأنه (مُختار). اختير عبر وسيط مقدّس (والده). وياسر العطا لا يسرد رؤيا عادية، بل يُحيل إلى طيفٍ شبه نَبوي: (صدام حسين)، "رجل الشرق العنيف"، يخاطبه شخصياً كما كانت الملائكة تخاطب الأولياء وأهل الله الصالحين في طبقات ود ضيف الله. هذه الحكايات تشبه في بُنيتها ما يسميه بول ريكور بـ"الميث الحي" – أي السرد الذي يؤسّس للهوية والشرعية ويمنحها سلطةً لا تحتاج إلى تبرير عقلي. في المجتمع السوداني، الأحلام و النبوءات ليست حِكراً على السياسيين. إنها تمثّل جزءاً من "النظام الثقافي العام"، حيث تُشكّل الأحلام والرؤى، بُنية موازية للواقع. لذلك، فـ"حلم الأم" أن يصبح طفلها مهندساً، أو شيخاً كمصطفى عبد القادر، أو رئيساً، ليس تعبيراً عن طموح فحسب، بل هو أيضاً شكلٌ من أشكال "إنتاج السلطة الرمزية" داخل الأسرة أو القبيلة أو الطائفة والحزب. فكما أن (كهنة معبد آمون) في (نبتة) كانوا يقررون من يكون الملك عبر طقس غيبي، تُعيد الأم السودانية إنتاج هذا الدور الغيبي في نطاقها الحميم، مؤكدة على أن السلطة ليست مجرد صراع على المواقع، بل استحقاقٌ أتى من الغيب!
طبقات ود ضيف الله: ميراث النبوءة في ثوب آخر ما يرويه البرهان والعطا اليوم، ليس بعيداً عن ما كان يُروى عن الأولياء في طبقات ود ضيف الله. هناك في فيافي السلطنة الزرقاء وغفارها، كان الشيخ يُعرف منذ الطفولة بأنه "غير عادي". يُروى مثلاً عن الشيخ حمد النحلان أن نوره كان ظاهراً منذ المهد، وأن الطيور كانت ترفرف حوله، وأنه تكلم في المهد صبياً فأخبر أمه بأن الله قد اختاره! هذه السرديات تُشكل ما يسميه إرنست كاسيرر بـ"الأسطورة التأسيسية" للدولة أو الزعامة، والتي تمنح القائد هالةً ترفعه فوق الناس، لأنه ليس فقط حاكماً، بل مُبشراً به منذ البداية! وفي مجتمع تُهيمن فيه الأطر التقليدية، وتغيب فيه مؤسسات الحُكم الراسخة، تتجلّى الحاجة إلى شرعية من نوع آخر. وهنا تلعب النبوءة الشعبية دور الدولة: فهي التي تختار، وتبشّر، وتُصدّق. فلا عجب أن يعود القادة العسكريون في السودان، إلى هذا المخزون الشعبي ليضفوا على أفعالهم طابعاً يتجاوز المساءلة. فهم لا يحكمون لأنهم قادة جند، بل لأن الغيب أشار إليهم، كما أشار لنبي أو وليّ في الماضي السحيق. إنها لحظة انزلاق من الواقع إلى الأسطورة. في مشاريع التفكيك للمقدّس، لا تُطرح هذه السرديات كحقيقة، بل كخطاب. إنها خطابٌ يُعيد إنتاج المركزية الدينية في الفعل السياسي، ويُجمّل السلطة بصبغة ما ورائية، تمنحها قداسة مصطنعة. لكن الخطر الأكبر هو في التقاء هذا الخطاب مع وجدان شعبي يقدّس الرؤيا، ويُسلّم بالمبشّرات الغيبية. وهنا، يتحوّل المواطن إلى متلقٍّ غير ناقد، ينتظر الزعيم القادم لا من صناديق الاقتراع، بل من رؤيا امرأة ريفية فقيرة ذات فجر شاحب. النبوءة في السودان ليست ماضياً انتهى، بل هي بنية متجددة، تتخفّى في الأحلام الشعبية، ويُعاد إنتاجها في خطاب الساسة، وتؤسّس، من حيث لا نحتسب، لـ"سلطة" لا تخضع للمساءلة. والآن في هذه اللحظة السودانية التي يتكسر فيها الواقع، تعود الأسطورة، لا كملاذ روحاني، بل كأداة لتكريس القوة. وهذا، في جوهره، هو التحدي الأكبر لتفكيك المقدّس. فحين يقول عبد الفتاح البرهان إن والده "تنبأ له" بأنه سيكون رئيساً، أو يدّعي ياسر العطا أن صدام حسين تنبأ له بذلك، فإننا لا نواجه فقط زيفاً سياسياً يسعى لتبرير السلطة بأثر رجعي، بل نلمس جذراً رمزياً في الثقافة السودانية، حيث يُعد الحُلم والرؤيا، شكلًا من أشكال النبوءة، بل تفويضاً من السماء. وهذه الطريقة في تأسيس "الشرعية الرمزية" للحاكم ليست جديدة. بل هي امتداد لما عرفته الثقافات السودانية منذ عصور كوش، حيث يُنصَّب الملك بأمر "إلهي"، ثم في المهدية بوصف المهدي مختاراً بوحيٍ نبوي، وحتى في السلطنة الزرقاء حيث ارتبطت الولاية بالصلاح والكرامات والخوارق. إذن: الحُلم ليس حُلماً، بل هو خطابٌ مقدّس، وسيلة تواصل بين السماء والأرض. وما يلفت النظر، هو أن هذه "النبوءات" غالباً ما تأتي من الأب أو من "شخصية أبويّة" (كصدام حسين في رواية ياسر العطا). وهذا يحيلنا إلى مفهوم الأب المؤسِّس للحلم الأسري الجمعي — حيث لا يكتفي الأب بتسمية المولود، بل يمنحه حُلمه، مصيره الرمزي، طموحه، ويُلقي به في مدار "الاختيار الإلهي". وهذه التنبؤات التي تراها الأمهات والآباء لأبنائهم (هذا سيكون طبيباً أو قاضياً، أو حتى رئيساً!) ليست سوى أشكال يومية من انتاج مصير رمزيّ، حيث يُقذف الطفل في قلب بنية من التوقعات، تلبسه ثوب "المُختار". فالمجتمع السوداني، خاصة في الأرياف، لا يرى الذات ككيان مستقل، بل جزء من "سلسلة البركة": من الجدّ الصالح إلى الأب الحالم، إلى الابن الذي سيُتمّ النبوءة. إنها قصة بندر شاه ومريود ذات نفسها!
المقدّس السياسي في ثوب حديث هذه التنبؤات هي أيضاً امتداد لمفهوم "الشرعية من خارج السياسة". تماماً كما كانت الكرامات وخوارق المشي على الماء تُعطي للولي السناري شرعية زمنية، فإن التنبؤ بالحُكم يمنح السياسي سلطة "سماوية" أو على الأقل "أزلية"، سابقة للواقع، خارجة عن قوانين التنافس والمؤهلات. هذا هو "العقل الأسطوري" في لبوس الدولة: حين تفشل الحجة السياسية، يُستدعى الحُلم القديم، ويُعاد إنتاج السلطة باعتبارها قدراً لا خياراً. في مجتمع لا يُفرّق بين "الولي والحاكم" لأن كلاهما يستمد سلطته من "البركة والمحايات والحجبات". ولهذا السبب كان النميري رغم مشاركته لقب السفاح مع أبي جعفر المنصور، إلا أنه كان أول أمير مؤمنين مخلوع في العصر الحديث! ما نراه في هذه التنبؤات ليس فقط محاولة لتجميل الماضي أو توظيف المقدّس، بل هو "استمرار لعقل ثقافي عميق".. عقل يرى في الحلم (نبوءة)، وفي الأب (كاهناً) من كهنة معبد آمون وفي المصير السياسي أمراً مقدراً لا مكتسباً. وهي بنية ثقافية تصعب زعزعتها لأنّها تسكن اللاوعي الجمعي، وتشحن الفعل السياسي بشحنة روحية، حتى حين يدّعي أصحابه العقلانية والحداثة. لو شئنا تفكيكها بلغة أكثر تبسيطاً: في السودان، لا يكفي أن تُصبح رئيساً، بل عليك أن تكون قد شوهدت طفلًا في رؤيا، يتمل سيفاً أو تركب حصاناً في الفجر. فالحاكم في بلادنا لا يُولد من صناديق الاقتراع في الانتخابات، بل من نوم الأب بعد عشاء دسم، أو من أحلام الجدّة التي رأت كل شئ. وكل سلطة لم تخرج من الحلم، فهي باطلة في الوجدان الثقافي. فالحلم، علامة، و"إرادة عليا" أداة للشرعية في مجتمع طغى عليه الإيمان بالصلاح الفردي، والبركة، والقدر المحتوم، لذلك يصبح الحلم والنبؤة بمثابة وحي خفيف، أو شيفرة لاصطفاء إلهي مبكر. الأب لا يقول "أريدك أن تكون رئيساً"، بل يجزم: "رأيتك رئيساً"– وكأن مشيئة الغيب تتجلى من خلاله هو شخصياً، لا عبر إرادة سياسية أو تخطيط اجتماعي. هذا الفارق الجوهري بين "الحلم" و"الخطة" هو ما يصنع الفارق بين مجتمع حداثي وآخر أسطوري التكوين. ما يحدث هو استمرار لـ"الكرامات" التي امتلأت بها "الطبقات" لود ضيف الله: الرؤى، الكلام مع الغيب، الاصطفاء في المهد. كثير من أولياء الله الصالحين في المتخيل السوداني "كانوا مميزين منذ الطفولة"، تحدثوا إلى الملائكة أو ظهرت لهم إشارات في المنام. البرهان والعطا يرويان قصصاً بلغة مستمدة من هذا المخيال الشعبي، الذي وظّفه المجاهدين في الدعاية الحربية،البرهان والعطا حتى لو كانوا يرتدون بزات عسكرية لا عمائم صوفية و"جلاليب" دراويش مرقعة. هم متورطون في هذا المخيال الأسطوري. هذه التنبؤات تصنع من الزعيم "شخصية روائية"، قبل أن يكون كائناً سياسياً. يصبح امتداداً لسلسلة من الرموز: المهدي المنتظر الذي بشّرته رؤى وأحلام، و"المجاهد" الذي رأى الملائكة في ساحة القتال، و"فرح ود تكتوك" الذي عرف أنه لن يموت إلا شهيداً. إنها محاولة لاستعادة لغة (القُدرة)، ولكن دون مضمون روحي، بل بسلطة مفرغة تتغذى من أطلال المقدس وأرماثه.
تفكيك الأسطورة: من الحلم إلى الهيمنة عندما تتحوّل الرؤية الشخصية إلى خطاب عام، فهي لا تُبشّر فقط بالمصير، بل "تطلب الطاعة المسبقة". من يقول "رأيتك في المنام رئيساً" لا يقول لك فقط من أنت، بل يُعفيك من المساءلة. هذه الرؤية تُغلف السلطة بغلاف من الحتمية، لا القابلية للنقاش. وهنا تكمن خطورة هذا (العقل الأسطوري)، الذي يستبدل الشرعية العقلانية بـ الشرعية الحُلُمية. في أعماق هذا الخطاب، يمكننا أن نسمع صدى الأمهات السودانيات: "يا ربي يطلع دكتور"، وفيما يبدو أن والدة جبريل إبراهيم رأته: "في المنام ماسك دفتر كبير". لذا استبسل في القتال في سبيل وزارة المالية، لتحصيل المزيد من أموال السودانيين الغلبانين. هذه الأحلام والنبوات ليست مجرد طموح، بل انعكاس لهوية جمعية تبحث عن مجدها المفقود في أطفالها. الزعيم هنا ليس سوى ابن الجماعة المتخيلة، التي ترى فيه تعويضاً عن الهزائم، وتريد من خلاله تحقيق نبوءاتها العاطفية. خصوصاً في بلاد كارثية كالسودان، تحرم مواطنيها من خيراتها. التنبؤ السياسي في السياق السوداني ليس صدفة، بل إعادة إنتاج لوجدان أسطوري غائر، حيث يلتقي الأب مع الله، والحلم مع التاريخ، والزمن القادم مع الماضي المنكسر. وما لم يُفكك هذا النوع من الخطابات، سيظل "المهدي المنتظر" يتجدد في كل مرة، لا ليحرر، بل ليعيد إنتاج بنيات القهر باسم الرؤيا. من الناحية السردية، التي يفهمها الروائيين أكثر من غيرهم، التنبؤ هو شكل من أشكال استباق الزمن، واختطاف المستقبل عبر خطاب رمزي يمنح صاحبه تفوقاً وجودياً على الآخرين. حين يقول البرهان إن والده رأى فيه رئيساً أو يزعم ياسر العطا أن صدام حسين "تنبأ" له بالسلطة، فإن هذا ليس مجرد سرد شخصي، بل هو أداء رمزي لتكريس شرعية لا تعتمد على وثيقة دستورية أو انتخابات بل على "العناية الإلهية" أو "الإشارة الخفية" من عالم آخر، ليس عالمنا الذي نعيش فيه. هذه السرديات تؤدي الوظيفة ذاتها التي كانت تؤديها الأحلام في المجتمعات التقليدية، حين يُبشّر الأب أو الأم ابنهما بأنه سيكون طبيباً أو إماماً أو حتى مهرجاً كمناوي، لأنهم "رأوه كذلك في المنام". إن التمنّي هنا ليس بريئاً بل يحمل مفعولًا تأسيسياً: إنه يقول للطفل — منذ اللحظة الأولى — أنك مختار، أنك مختلف. في مجتمعٍ مشبع بتقاليد الأولياء والكرامات والحكايات الغيبية، تنمو هذه التمنيات لتصبح أشبه بنبوات صغيرة. فالأم التي ترى ابنها طبيباً في المنام، تمارس — بشكل غير واعٍ — ما مارسه الكهنة في معابد البركل، حين كانوا يُعلنون مَن هو الملك القادم عبر "الإشارة الإلهية". إنها تكرّر الطقس ذاته، لكن على مستوى شعبي وعائلي. لذلك، فتصريحات البرهان أو العطا لا يمكن فصلها عن هذا الخيال الشعبي الممتد، الذي يرى في الحلم سلطة رمزية لا تقل قيمة عن الواقع، بل تفوقه أحياناً. تتحول هذه الحكايات لاحقاً إلى "أساطير تأسيسية" للفاعل السياسي. شأنها شأن قصة حلم النبي محمد بولايته النبوّة، أو حلم يوسف في القرآن والشمس والقمر والكواكب يسجدون له. إنها تؤدي وظيفة مزدوجة: التفوق الرمزي: إضفاء طابع استثنائي على الذات، باعتبارها مختارة منذ البدء. تحييد النقد: فالشخص الذي تنبأ له (الزمن)، لا يُحاسب على الحاضر؛ فهو ينجز نبوءة لا أكثر. ضمن مشاريع تفكيك المقدّس، يمكن النظر إلى هذه الظواهر بوصفها آليات رمزية لإعادة إنتاج الهالة حول القادة، كما كان يفعل المشايخ في طبقات ود ضيف الله، حين يروون عن الزغرات أو الطوالي او حمد النحلان أنهم عُرفوا منذ الطفولة بـ"البركة" أو "الكرامة". لكن المفارقة هنا، أن ما كان يروى عن الأولياء في لحظة تديّن خالص، صار يُعاد إنتاجه الآن بلغة دنيوية وسلطوية، تُبرّر (الحُكم) لا (الدين)، وتُكرّس السُلطة لا الطُهر. ليست لانسينغ، ميشيغان يوليو ٢٠٢٥
|
|