أم سعونة: ذاكرة الريف الحيّة، حين كانت التربية عملاً جماعياً (الجزء الثاني) كتبه د. الهادي عبدالله

أم سعونة: ذاكرة الريف الحيّة، حين كانت التربية عملاً جماعياً (الجزء الثاني) كتبه د. الهادي عبدالله


07-25-2025, 01:04 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1753445086&rn=0


Post: #1
Title: أم سعونة: ذاكرة الريف الحيّة، حين كانت التربية عملاً جماعياً (الجزء الثاني) كتبه د. الهادي عبدالله
Author: د. الهادي عبدالله ادريس ابوضفائر
Date: 07-25-2025, 01:04 PM

01:04 PM July, 25 2025

سودانيز اون لاين
د. الهادي عبدالله ادريس ابوضفائر-UK
مكتبتى
رابط مختصر





د. الهادي عبدالله أبوضفائر

في أقصى حدود الخريطة، هناك حيث تضيع الجهات في صمت المدى، وتغدو الحدود خيالاتٍ مرتعشة تحت ضوء الذاكرة، تتمدد (أم سعونة) لا كقرية على الأرض، بل كنسمة من فجرٍ باكر تمسّ روحك قبل أن تلامس جلدك. هي لا تُشبه القرى، لأنها لا تُقاس بالمباني ولا تُعرَف بالطرقات، بل تُسكن في القلب، وتنبت في الوجدان. لم تكن مجرّد مكان، بل كانت ظلّاً من رحمةٍ تُلقيه السماء على الأرض، وكانت غيمةً من عدلٍ لا تمطر ماءً بل معنى. خُضرتها لم تكن فقط من زرع الأرض، بل من خصب القلوب ونداوة السرائر. فيكِ، عبق الطفولة يوم كانت الحياة بلا شاشات ولا إسمنت، يوم كان الزمن بطيئاً وجميلاً، يمضي على مهلٍ ليُعلّمنا كيف نحب. فيكِ يسكن الحنين، لا يخبو ولا يذبل، كما تقاوم الذكرى خيانة الزمن، وكما تصمد الشجرة في وجه العاصفة. كنتِ ذاكرةً لا تعرف المحو، وجرحاً نبيلاً في قلب كل من غادرك، لا ينزف لكنه أيضاً لا يلتئم، لأن ما يسكن الروح لا يُنسى، وما يربّي القلب لا يُمحى.

هناك، حيث لا تزال الشمس تُنادي بأسمائنا قبل أن يرنّ الجرس، كانت فصول الدراسة أشبه بمحراب، نخلع فيه ضجيج العالم وندخل على الحرف كما يدخل العاشق على محبوبته. تعلمنا على أيدي رجالٍ ونساء، ما كانت علاقتهم بالطباشير والمناهج فقط، بل علاقة من يزرع نخلة لا يريد منها إلا ظلّاً طيباً وثمرةً ناضجة. أذكر منهم الاستاذ عبد الله شيخ الدين، المعلم الذي جاءنا من أم كدادة، حاملاً هيبة المعلم وسكينة الراهب، يصوغ الحرف كمن يُطرّز قصيدة. بجانبه كانت الأستاذة مريم أم قريش، شمساً تمشي على الأرض، تجمع بين عقلٍ أنيق وقلبٍ من نور. ومن ضفاف النيل الخالد، حيث الماء يسري كأنما يهمس بالحكايات، جاءت إلينا كوكبة أخرى من نور الشمال وأصالته. الأستاذ عبد الرؤوف والأستاذ محمد عمر. جاءا يحملان في ملامحهما بشاشة أهل الشمال، تلك التي تشبه صفاء النيل عند الفجر، وملوحة الموج التي تروي حنين الأرض، وعذوبة الحديث الذي لا يُقال بل يُعاش. ومنهم أيضاً الأستاذ يونس من برام الكلكة، ومحمد أحمد من فاشر أبو زكريا، علمونا كيف نصوغ من الحرف حياة، ومن القصيدة معنى، ومن الجغرافيا محبةً للوطن، ومن الدين تكريماً للإنسان.

في ربوعك الخضراء، نهلنا من معين التعليم, هناك، في فصولك، وفي ظلال أشجارك، على أيدي أساتذة أجلاء، كان ابن جبل مرة، الأستاذ حبيب، يحمل قسوة الجبل في ملامحه، ودفء الصدق في عينيه. والأستاذ يحيى، ذلك النحيل الذي علّمنا كيف يُمسك القلم، وكيف تُرسم الحروف لا بالحبر، بل بروح اللغة. من مليط، حيث الكبرياء لا يُعلَن، بل يُعاش، جاء الأستاذ آدم يحمل سكينة المكان وعمق أهله، كأنّه صفحة من كتاب السودان المفتوح على المجد والصبر والأستاذ إياد، القادم من كتم، يحمل في نبرته نسيم الوديان، وفي سلوكه ظلال الحدائق البعيدة. حين يتحدّث، كأن الأرض تُنصت، وكأن بين كلماته نغمة من تلك التلال التي لا تُرى، لكنها تُشعر. جاء الاستاذ على علم الدين لا كمعلّمٍ فحسب، بل كجسر بين جهتين، وكأن العلم نفسه استعان به ليبدو أكثر رقّة، والأستاذ علي محمد جمعة، الذي اختزل في حضوره جسارة المعاليا. أما بكري مكي ابن الضعين، فكان أنيقاً كقصيدةٍ تمشي، يحمل هدوء المدينة وأناقة القلب. وعبد الله محمد يحيى، ذلك الذي كان يكتب على السبورة، يحمل في يدٍ طباشيراً، وفي الأخرى نوراً. كانوا معلمين نعم، ولكنهم رُسلاً للمعنى، يحفرون فينا نبعاً لا ينضب، يعلموننا كيف نخرج ، من النشيد إحساساً بالانتماء للوطن، ومن الحساب توازناً في الروح.

ولا يغيب عن الذاكرة أولئك النسوة اللواتي نبتن في تربة التعليم كما ينبت الفل في تربة ندية، عابقات بالمعرفة والعطاء، الأستاذة كلتوم الحاج بخيت، نفيسة عيد، وزهراء دودين، وتلك التي مضت إلى دار الخلود، فاطمة عيد، لها الرحمة والمغفرة. لم يكنّ مجرد معلمات يُلقين دروساً على السبورة، بل كنّ حاملات لإرث الجدّات ورؤية المستقبل، علّمننا أن المرأة لا تُختزل في بيت، بل هي بيتُ العقل، وعتبةُ الحضارة، ومربيةُ الوطن قبل أن يكون لها أولاد. أم سعونة لم تكن قرية فقط، بل كانت مختبراً للوعي، مسرحاً للحلم، ومذياعاً مفتوحاً على الثقافة والفن. كانت تسافر إلى فضاءات الطويشة، حسكنيتة، وعزبان، لا بالسيارة، بل بالأغنية والمسرح والذاكرة. حين كان بخيت أحمد يصدح بأغاني الكاشف وسيف الجامعة، كنا نصمت لنسمع صوت القرية كلها تغني. وكان أبو سيل، يغني (احرموني ولا تحرموني)، فتتمايل الجدران طرباً. وكانت الحنجرة الذهبية للفاضل كلاش، وروح الدكتور الراحل عادل محمد أحمد، وصوت بساط وهو يشدو (يا حمامة) كلهم كانوا شهوداً على زمن كان الفن فيه صدقاً، لا استعراضاً.

وفي مدارات الكرة، لمع من رحم القرية نجمٌ لا يشبه سواه. الاستاذ عبد الله حسين، محمد سلمان، ماجد عيد، عبد اللطيف، عثمان النور (رحمه الله)، وحارس المرمى مبارك. لم يكونوا مجرد لاعبين، بل كانوا صدى الفرح في قلوبنا، وتجسيد أحلامنا الطفولية التي كانت تركض معنا، لا خلف الكرة فحسب، بل خلف الحياة ذاتها، في براءتها ومكرها، في اندفاعها وغموضها. أيتها القرية النقية التي لم تطلها لعنة السياسة، ولا هشم ملامحها الزمن، أنتِ لستِ حكاية تُروى، بل حياة تُعاش. لستِ سطراً في دفتر الأيام، بل ذاكرة تكتبها الدموع، ويعقدها الامتنان في القلب عقداً لا تنفك. علمتِنا أن الحنان لا يلقن في المدارس، بل يُزرع في القلوب. كنتِ ريفاً يعرف كيف يغرس فينا الوعي، لا بالشعارات، بل بالفعل الصامت، بالعيون التي تفهم، والأيادي التي تبني دون ضجيج. لم تكن مكاناً نسكنه، بل وطناً يسكن فينا. روحاً تسري في الوجدان، ومدرسةً بلا جدران، مفتوحة على الأفق، على الحلم، على سؤال لا ينتهي:كيف نردّ لها بعض الذي أعطتنا إياه؟
[email protected]




Sent from Outlook for iOS