(من الصوت إلى الصمت)  كيف تُعاد صياغة الأمن القومي في السودان عبر خنق الفضاء الرقمي

(من الصوت إلى الصمت)  كيف تُعاد صياغة الأمن القومي في السودان عبر خنق الفضاء الرقمي


07-25-2025, 01:05 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1753401934&rn=0


Post: #1
Title: (من الصوت إلى الصمت)  كيف تُعاد صياغة الأمن القومي في السودان عبر خنق الفضاء الرقمي
Author: محمد هاشم محمد الحسن
Date: 07-25-2025, 01:05 AM

01:05 AM July, 24 2025

سودانيز اون لاين
محمد هاشم محمد الحسن-Sudan
مكتبتى
رابط مختصر



.



منذ لحظة الإعلان عن قرار تقييد المكالمات عبر تطبيق واتساب، والذي سيدخل حيّز التنفيذ اليوم، دخل السودان مرحلة جديدة من الرقابة السيادية، حيث لم يعد المنع مرتبطًا بحماية الوطن، بل بات يتجاوز إلى محاولة منع المواطن من الحديث عنه. هذا ليس إجراءً تقنيًا، ولا استجابة أمنية تُحاكي منطق الطوارئ المستدامة، بل هو تجسيد لفلسفة الحكم في لحظة الانهيار، حيث تُستخدم أدوات الاتصال كأذرع للردع لا للبناء، وللصمت لا للتواصل.

السلطة، التي عجزت عن وقف القتال وضمان الأمن الأرضي، وجدت ضالتها في الرقابة الرقمية، وهي رقابة لا تُمارس كوظيفة مؤسسية، بل كفعل رمزي يُعيد تعريف المجال العام. الصوت لا يُمنع لأنه يحمل خطرًا مباشرًا، بل لأنه يُهدد الرواية الرسمية ويُربك تدفقها، في وقت أصبحت فيه الحقيقة تُنقل من أطراف المجتمع المنهك، ومن أصوات المحاصرين والنازحين والمُقصين، بدلًا من بيانات من يحتكرون الخطاب الرسمي.

الحظر يُعيد إنتاج منطق (الأمن السيادي) الذي لا يهدف إلى حماية المجتمع، بل إلى ضبطه وتحييده، ويُكرّس منطق الطوارئ كإطار دائم يُعامل المواطن باعتباره مصدرًا محتملًا للخلل، لا كشريك في بناء الأمان. من هنا، تنبثق ملامح (الرقابة الوقائية) التي تُفرض قبل وقوع الحدث، كآلية لاحتكار الزمن السياسي وحذف اللحظة قبل أن تُوثّق.

التعامل مع الصوت والصورة باعتبارهما تهديدًا يكشف عن عمق القلق من التجسيد الحي للواقع، فالصورة لا تُؤوّل بسهولة كما يحدث للنص، والصوت يحمل من العاطفة والصدق ما يعجز عنه البيان. لهذا، يُستهدف الاتصال الحي، لا الرسائل النصية، في خطوة تهدف إلى طمس الذاكرة الجمعية ومحو أثر الألم قبل أن يتحول إلى سردية موثقة.

هذا السلوك يُنتج حالة من (اللايقين الرقمي)، إذ لا يعرف المواطن ما الذي سيُحظر لاحقًا، ولا كيف سيتواصل، ولا متى سينتهي التقييد، مما يُعمّق شعور العزلة ويُرسّخ فقدان الثقة بالسلطة بوصفها جهة ضامنة، وهو وصف لا يليق بواقع السيولة الأمنية والسياسية الراهنة، حيث تغيب الدولة بوصفها إطارًا جامعًا للعدالة والخدمة والاستقرار.

وفي غياب هذا المفهوم، تبدو الرقابة وسيلة لحماية من يحتكر مؤقتًا أدوات السلطة، لا لحماية كيان الدولة ذاتها. فالمكالمة لم تعد وسيلة تقنية بل تحوّلت إلى فعل مقاومة، يُواجَه بالقرار ويُعاقَب بالحظر، ويُعاد رسم حدودها ضمن فلسفة حكم ترى أن الأمان يتحقق حين يصمت الجميع، لا حين يستمع أحدهم لصوت الآخر.

السلطة هنا لا تُمارس وجودها عبر القانون أو تقديم الخدمات، بل عبر التحكم في المنصات، مما يُعيد تعريف الدولة بوصفها واجهة رقمية للمنع، لا كيانًا مؤسسيًا للحماية. الفضاء الرقمي، الذي كان يُفترض أن يكون امتدادًا للمجال العام، يتآكل تدريجيًا، ويُعاد تشكيله ليُشبه الرقابة الأرضية، بأدوات أكثر نعومة ولكن لا تقل قسوة.

في هذا السياق، تُنتج السلطة الخوف لا لتمنع التهديد، بل لتُبرّر وجودها ذاته، وتُعيد إنتاج شرعيتها من خلال صناعة الطوارئ. الرقابة لا تُوزّع بالتساوي، بل تُستخدم لإعادة توزيع الصمت، حيث يُسمح لمن يُكرّر الرواية الرسمية بالوصول، بينما يُقصى من يُوثّق أو يُعارض، مما يُنتج طبقية رقمية في حق الوصول والتعبير.

القرار إذًا لا يُعالج التهديدات الأمنية الحقيقية، بل يُعيد توجيه الانتباه نحو المواطن، وكأن السلطة تُفضّل مواجهة الصوت على مواجهة السلاح، مما يُظهر خللًا في ترتيب الأولويات الأمنية، ويُكرّس الانفصال البنيوي بين السلطة والمجتمع، حيث يُفرض القرار من أعلى دون تشاور، ويُعمّق أزمة الشرعية ويُرسّخ منطق الإملاء بدلًا من التمثيل.