Post: #1
Title: أم سعونة: ذاكرة الريف الحيّة، حين كانت التربية عملاً جماعياً كتبه د. الهادي عبدالله أبوضفائر
Author: د. الهادي عبدالله ادريس ابوضفائر
Date: 07-23-2025, 02:09 PM
02:09 PM July, 23 2025 سودانيز اون لاين د. الهادي عبدالله ادريس ابوضفائر-UK مكتبتى رابط مختصر
في الريف الذي وُلدت فيه، لم يكن أحد يُسأل، (من يربّي هذا الطفل؟) لأن الإجابة كانت واضحة للجميع، الكلّ يربّي. هناك، حيث السماء أقرب، والقلوب أنقى، كان الطفل مشروعاً جماعياً، ينشأ في حضن الجماعة، ويُؤدَّب إن أخطأ من يد الجار قبل يد والده، ويُحتفى بنجاحه كأنه انتصارٌ للقرية كلّها. وكانت “مدرسة أم سعونة الابتدائية” هي أول بذرة ألقتها الحياة في تربتنا الطريّة. فيها أشعل فينا الأساتذة الأوائل جذوة العقل، وسقونا من ماء التحدي ما جعلنا نُدرك أن التمر القديم لا يُؤكل دائماً، وأنّ حفظ القصائد لا يكفي ما لم تُوقظ فيك سؤالاً جديداً.
كان أستاذنا التجاني محمد إدريس – أطال الله في عمره – أول من يفتح باب المدرسة، وأحياناً أول من يفتح قلوبنا على آفاق لم نكن نراها. أنيق، صارم، رحيم، لا يُساوم في مسألة الحفظ، لكنه يلين كالأب حين يرى دمعة طفلٍ أو تردده في النطق. كان من بيت علمٍ وأدب، فكأنما جاء ليُكمل رسالة لا تبدأ من الكتب، بل من الإيمان بقدرة التلميذ على التحوّل. وكان الأستاذ علي مصطفى حسابو، رجل الرياضيات، يحمل الأرقام بين يديه كما يحمل الشاعر أبياته، لا يرهقه التجريد، بل كان يستدرجنا بلطفٍ إلى منطق الأعداد، كأنما يدعونا إلى رقصة عقلٍ تنتظم على إيقاع الدقة والخيال. وكان يعرف، ببصيرته، أن العقول الصغيرة تحتاج إلى النظام، ولكنها لا تنمو إلا إذا سُقيت بماء الخيال. كان من بين تلك القامات النبيلة، الأستاذ الأنيق يوسف آدم حبيب.كان حضوره درساً صامتاً في الذوق والادب، في كلماته اتزان لا يخلو من دفء، وفي صوته نبرة تعلّمك أنّ الجمال يمكن أن يكون منهجاً تربويّاً.
وهناك الأستاذ طه عبد الحفيظ، ابن أم درمان، فقد كان صورةً من المدينة نفسها: مزيجاً من انضباط وترف، من لهجة موزونة وعين لا تغيب عن تفاصيل الطباشير. كان يعلّمنا كما يُلقّن الموج البحر، بهدوءٍ لا يخلو من عمق، وبنبضٍ حضريٍّ يوقظ فينا وعياً خارج حدود القرية. وكذلك كان الأستاذ فؤاد، القادم من “فاشر السلطان”، يحمل في صوته جغرافيا الدولة لا جغرافيا الدرس فقط. كان إذا تحدّث عن التضاريس رسمها في وجداننا، وإذا شرح الحدود والسلاسل الجبلية، بدا وكأنه يقرأ من قلب الأرض لا من كتاب. في ملامحه مزيج من البُعد والدفء، ومن سُحنة الغرب السوداني سحرٌ لا تخطئه العين، ومن روحه اتساعٌ كالسهول التي جاء منها،
أستاذ العلوم زكريا يعقوب سبيل، لا يُدرّسنا الكائنات والمعادلات فحسب، بل كان يفتح لنا أبواب الدهشة على اتساعها. كان حديثه عن الخلية أقرب إلى وصف الكون في قطرة، وعن الضوء كأنه يُحدّثنا عن الوحي. كان العلم في يده ليس معلومات، بل رؤية، وكان يسير بيننا كمن يعرف أن في كل تلميذ عالِماً صغيراً ينتظر أن يُؤذَن له بالانطلاق. كثيراً من المعلمين الذين لا يكتفون بشرح المنهج، بل يغرسون فيك معنى أن تكون جديراً بالحياة، وكأنما مهمتهم أن يفتحوا فينا نوافذ لا تطل على المعرفة فحسب، بل على معنى أن تكون إنساناً كاملاً.
وفي ذاكرة المكان، ما زالت ملامح العم إبراهيم أفلوت محفورةً كظلال الأشجار القديمة، لا تمحوها تقادم الأيام ولا تشوشها ضوضاء الزمن. لم يُرزق بذرية من صلبه، لكنه ملأ الدنيا من حوله بأبوةٍ حانية. كان أول الواصلين عند نداء بناء حوش المدرسة، وآخر من يغادر حين يهدأ المكان. يحمل المعول كمن يحمل رسالة. وكذلك العم الغفير (ادم قضارف) لم يكن يلبس لباس المعلمين، ولا يملك شهادة معلّقَة على جدار، لكنّه كان مربياً بحجم الحياة، وحارساً لذاكرة القرية، ووجهاً نقياً من وجوه الزمن الجميل.
ولا تكتمل لوحة المدرسة القديمة إلا بذلك البهاء الأنثوي الصامت، المتمثل في أولئك السيدات النبيلات اللواتي كنّ يطبخن لنا المحبة قبل أن يقدّمن الطعام. (عشاية)، (حسينة بت الشايب) وعشوشة وفاطمة شمو، وأخريات لم تسعفني الذاكرة بأسمائهن، لكنّ أرواحهن باقية في الذاكرة كعطرٍ في قميصٍ قديم، لا يبهت مهما غاب. كنّ يهمسن بالحنان في القدور، ويُلقين في الأطباق شيئاً من الرحمة والاهتمام، ويعرفن بالفطرة أنّ الطفل الجائع لا يفهم الدرس، وأن القلب المشبع بالمودة أقدر على الحفظ من البطن الخاوي. لم يحملن شهادات تعليم، لكنّهن حملن روح المربّية، وحدس الأم، وعين المجتمع كلها. كُنّ حارساتٍ خفيات لذاكرتنا الأولى، يرفعن الطناجر كما تُرفع الأناشيد، ويقمن إلى مهامهن كأنهن يقمن إلى صلاة، مطمئنات أن ما يُغرس في الصغار من حب، سيُنبت رجولة ومسؤولية ذات يوم.
رحم الله من انتقلوا إلى دار الخلود، وأطال في عمر من بقوا في رحابنا، وكتب لنا أن نُبقي شعلة الوفاء مشتعلةً في قلوبنا لأولئك الذين زرعوا فينا بذور الحرف، وسقونا من نهر القيم الصافية، وحملوا إلى أرواحنا رسالة الحياة الصادقة، بلا منّة أو انتظار مقابل.
[email protected]
|
|