Post: #1
Title: تقسيم السودان: مشروع صهيوني–غربي أم إسلاموي–سوداني؟ كتبه عاطِف عبدالله قسم السيد
Author: عاطِف عبدالله قسم السيد
Date: 07-21-2025, 01:37 PM
01:37 PM July, 21 2025 سودانيز اون لاين عاطِف عبدالله قسم السيد-UAE مكتبتى رابط مختصر
تقسيم السودان: مشروع صهيوني–غربي أم إسلاموي–سوداني؟
من "المليون ميل مربع" إلى حلم دولة النهر والبحر
بقلم : عاطف عبدالله
كان السودان يُعرف بـ"بلد المليون ميل مربع"، وكان واحداً من أكبر الدول في إفريقيا مساحة، وأكثرها تنوعاً وغنىً بالموارد. وفي مارس 1972، شهد انفراجة سياسية نادرة حين وضعت الحرب الأهلية أوزارها باتفاقية أديس أبابا، التي منحت الجنوب حكماً ذاتياً في إطار سودان موحد. تلك الاتفاقية جاءت ثمرة لتحول نوعي في خطاب الدولة، بعد أن أعلن الرئيس جعفر نميري في يونيو 1969 عن اعتراف حكومته بالتباين الثقافي والعرقي بين الشمال والجنوب، مؤكداً على حق الجنوب في تطوير ثقافاته وتقاليده ضمن سودان اشتراكي موحّد.
وقد شكّل ذلك الإعلان لحظة فارقة، أرست دعائم تعايشٍ سلمي نادر في تاريخ البلاد، حيث أُدرجت لاحقاً بنود اتفاقية أديس أبابا في دستور السودان، مما أسهم في خلق أجواء من الاستقرار والطمأنينة. في تلك الحقبة، كان السودان يمتلك كل مقومات النهوض: أرضاً شاسعة، وثروات طبيعية متنوعة، وتعدداً ثقافياً ثرياً، وسلاماً نسبياً، وانفتاحاً واعداً على المستقبل. وبينما كانت إفريقيا والعالم تمور بالاضطرابات والانقلابات والحروب، كنا نحن على مشارف بناء دولة مختلفة، نتمتع بالأمن والاستقرار وموارد لا تُعد، والأهم من ذلك، بنسيج اجتماعي متسامح قبل أن تفتك به سموم خطاب الكراهية لاحقاً.
كنا، بالفعل، أقرب من أي وقت مضى إلى تحقيق نهضة حقيقية؛ لم يكن ينقصنا سوى قليل من الديمقراطية ومقدار من الحريات، حتى تنطلق الطاقات الكامنة في المجتمع، وتُبنى دولة عادلة حديثة، تحترم تنوعها وتوظفه في خدمة التنمية والإنسان.
لكن الرئيس جعفر نميري، الذي عُرف بتقلباته السياسية، سرعان ما انقلب على المسار السلمي، بعد تحالفه مع التيار الإسلاموي مطلع الثمانينيات. وبإيعاز من شركائه الجدد، الذين ألبسوه عباءة "الخليفة الراشد" ونصّبوه "إماماً للمسلمين" و"حكيماً لأفريقيا"، أعلن في عام 1983 تطبيق ما سُمّي بـ"الشريعة الإسلامية"، في خطوة أنهت عملياً اتفاقية أديس أبابا، ونسفت أسس الحكم الذاتي الجنوبي، وأعادت تقسيم الجنوب. كانت تلك الخطوة بمثابة الصاعق الذي فجّر الحرب الأهلية من جديد، وفتح الباب واسعاً أمام دوامة طويلة من العنف والتمزق، لم تنتهِ إلا بانفصال الجنوب بعد عقود، وما زالت آثارها تضرب البلاد حتى اليوم.
الإسلاميون ومشروع "دولة النهر والبحر"
منذ ذلك الوقت، تحولت الحركة الإسلامية في السودان من شريك سياسي إلى قوة مهيمنة، تعمل على هندسة الدولة وفق مشروع أيديولوجي واضح: تقسيم السودان إلى كيانات متجانسة عرقياً ودينياً، يخدم في نهاية المطاف رؤيتها في إقامة دولة "النهر والبحر"، التي طرحها عبد الرحيم حمدي، أحد أبرز منظّري المشروع الإسلامي السوداني.
وقد نصّ "مشروع حمدي" صراحة على تقليص السودان إلى "مثلث" يضم مناطق الشمال النيلي والشرق والوسط، باعتبارها المناطق "الآمنة" ثقافياً ودينياً واقتصادياً، متجاهلاً باقي الأقاليم بوصفها هامشاً غير منضبط.
هذا المشروع الإسلاموي الداخلي سعى إلى تصفية التنوع العرقي والديني واللغوي، وإعادة هندسة السودان على أساس التماثل، بدلاً من الاعتراف بالاختلاف. وبدلاً من الحفاظ على وحدة السودان، قسّمه الإسلاميون فعلياً: فُصل الجنوب في 2011، والآن تتصاعد الدعوات لانفصال دارفور، والشرق، وجنوب النيل الأزرق، في تكرار مدروس لنموذج "الخلاص من الهامش".
المؤامرة الغربية: مشروع برنارد لويس في الخلفية
وبينما كان المشروع الإسلاموي يُنفّذ فعلياً على الأرض، كانت هناك في الأفق رؤية استراتيجية غربية أوسع لتفتيت المنطقة، برزت في "مشروع برنارد لويس"، الذي طرحه المستشرق البريطاني–الأمريكي الشهير، صاحب النفوذ الواسع في دوائر القرار الأمريكي.
في تسعينيات القرن الماضي، قدم لويس خرائط لتقسيم المنطقة العربية والإسلامية إلى كيانات إثنية وطائفية صغيرة، على قاعدة "فرّق تسُد"، لضمان بقاء الهيمنة الغربية، وخلق "شرق أوسط جديد" هشّ ومتصارع.
السودان، في خرائط برنارد لويس، قُسِّم إلى أربع أو خمس دويلات: دولة جنوبية مسيحية، وأخرى دارفورية، ودولة نيلية في الشمال، وكيان شرقي، وربما كيان نوبي مستقل.
هذه الرؤية، رغم أنها طُرحت كمشروع نخبوي في دوائر السياسة الغربية، لم تجد من ينفّذها بشكل عملي إلا الأنظمة ذات النزعة الإقصائية، وعلى رأسها النظام الإسلاموي في السودان. وبذلك، فإن ما بدأ كمؤامرة محتملة، أصبح مشروعًا داخليًا سودانيًا بامتياز، يُنفّذ عبر القوانين، والتقسيم الإداري، والتمييز، والحروب.
بين بيريز ولويس: من النظرية إلى التنفيذ
في كتابه الشهير "نحو شرق أوسط جديد", تحدث شيمون بيريز عن تقسيم السودان إلى أربع دول: واحدة في الجنوب (وقد تحقق ذلك)، وأخرى في دارفور، وثالثة في الشرق، ورابعة في الشمال النيلي.
وبينما بقي بيريز ولويس في خانة التنظير، كان الإسلاميون في الخرطوم – وبأيدٍ سودانية خالصة – هم من حوّلوا السودان من دولة واحدة إلى بلد على وشك التفكك النهائي.
هكذا تلاقت مصلحة المشروع الإسلاموي مع الرؤية الصهيونية والغربية، لا عبر مؤامرة بالمعنى التقليدي، بل عبر تواطؤ موضوعي: فقد مارس الإسلاميون سياسات الفصل والتهميش والتقسيم، وخلقوا واقعًا متصدعًا، استدعى – بل برّر – التدخل الخارجي.
الخاتمة: حين تصبح المؤامرة حقيقية بأيدينا
لم يعد السؤال اليوم: "هل كان تقسيم السودان مؤامرة صهيونية؟"، بل: من الذي نفّذ هذه المؤامرة؟ ومن الذي ألبسها لبوس الدين، ورفَع شعارات "التمكين"، ووأد الحريات، وقسّم الناس على أساس العرق والدين واللغة؟
لقد مزّق المشروع الإسلاموي وثائق الوحدة الوطنية، ودمر كل فرص النهوض، وجعل من السودان دولة هشة، مفخخة بالتناقضات، ومهددة بالمزيد من التفكك.
واليوم، ومع الحرب الأهلية التي تفترس البلاد منذ انقلاب 2021، تبدو البلاد كأنها تدخل المرحلة الأخيرة من مشروع "لويس–بيريز–حمدي".
السودان لا يحتاج إلى خريطة جديدة، بل إلى وعي جديد: وعي بأن الوحدة لا تُفرض بالعنف، ولا تُبنى بالإقصاء، بل بالتنوع، والعدالة، والمواطنة المتساوية. وأن أقصر طريق إلى التقسيم هو تكرار خطاب الإسلاميين الذين هدموا السودان باسم إنقاذه، وقسّموه باسم الدفاع عنه.
طريق الخلاص: نحو مشروع وطني بديل
إن أخطر ما يواجه السودان اليوم لا يقتصر على الحروب والانقسامات، بل يتمثل في غياب المشروع الوطني البديل القادر على تجاوز صراع المركز والهامش، وتفكيك البنية التي أعادت إنتاج الأزمات لعقود.
لقد أثبتت التجربة أن المشروع الوطني السوداني، القائم على الاعتراف العميق بالتعدد، والمؤسَّس على عقد اجتماعي جديد، هو وحده القادر على إنقاذ ما تبقى من البلاد، واستعادة الأمل بوطن ممكن.
المطلوب اليوم ليس مجرد وقف الحرب، بل إعادة بناء الدولة من الجذور:
دولة تقوم على المواطنة، لا على الانتماء الديني أو الإثني. دولة تُقرّ بـ اللامركزية العادلة، دون أن تفرّط في وحدة الأرض. دولة تحترم التنوع الثقافي المحلي، وتفعّل العدالة الانتقالية، وتواجه آثار الحروب بشجاعة بدلاً من الهروب منها. دولة تقوم على الشفافية، والمساءلة، والحريات العامة، لا على الولاء العقائدي أو الجهوي. ربما لم يعد بالإمكان استرجاع "المليون ميل مربع"، لكن ما يزال في وسعنا أن نبدأ من جديد، من مشروع وطني جديد يعترف بالهزائم السابقة، ويتجاوزها، ويعيد المعنى الحقيقي لكلمة "وطن".
فالمشكلة لم تكن في الجغرافيا، بل في العقول التي خانت وعد الأرض والناس.
إن الشر القادم ليس مؤامرة خارجية فحسب، بل استحقاق داخلي لصمتنا الطويل، ونتيجة مباشرة لمشروع إسلاموي بدأ بشعار "التمكين" وانتهى إلى واقع "التقسيم".
_______________________________________________ عاطِف عبدالله قسم السيد Atif Abdalla Gassime El-Siyd أبو ظبي ص ب 129661 P.O.Box : 129661 Abu Dhabi
|
|