Post: #1
Title: أحلام مُجهضة وثورات منزوعة الشعب- الحزب الشيوعي في مرآة 19 يوليو
Author: زهير ابو الزهراء
Date: 07-20-2025, 07:46 PM
07:46 PM July, 20 2025 سودانيز اون لاين زهير ابو الزهراء-السودان مكتبتى رابط مختصر
تمر الذكرى الرابعة والخمسون لانقلاب 19 يوليو 1971 حاملة معها ثقل إرث دموي وإخفاق سياسي شكل نقطة تحول مصيرية للحزب الشيوعي السوداني ولمسار السودان الحديث، هذا الحدث الذي بدا لحظة انبعاث سريعة لحلم ديمقراطي تقدمي سرعان ما تحول إلى نكسة كارثية كشفت هشاشة المشروع وأسست لعقود من التهميش، حيث ارتد السلاح على من حملوه وتحول طموح الخلاص الوطني إلى مأساة مكتملة الأركان لم يكن انقلاب 19 يوليو مجرد مغامرة عسكرية قام بها ضباط شيوعيون بقيادة المقدم هاشم العطا، بل جاء في سياق صراع على شرعية ما بعد ثورة مايو التي شارك الحزب في صنعها ثم تآكل دوره داخلها لصالح تحالف البيروقراطية العسكرية وقوى البرجوازية الصغيرة، فكان الانقلاب محاولة لتصحيح المسار وفتح أفق ديمقراطي، طرح برنامجاً سياسياً متقدماً شمل إلغاء القوانين المقيدة للحريات، تصفية أجهزة الأمن، استقلال القضاء، وتشكيل جبهة وطنية ديمقراطية كبديل للاتحاد الاشتراكي، غير أن هذا المشروع وقع في فخ التقدير الخاطئ، حيث اعتمد على مجموعة ضيقة من الضباط دون امتداد فعلي داخل الجيش أو تحضير شعبي واسع، وهو ما جعل الانتصار الخاطف هشاً وقابلاً للانهيار مع أول ردة عسكرية مضادة
كان الانقلاب محفوفاً بعوامل خارجية معقدة، إذ سارعت أنظمة إقليمية كليبيا ومصر إلى الوقوف ضد السلطة الجديدة، وجرى اختطاف الطائرة التي كانت تقل بابكر النور وفاروق حمد الله في عمل استباقي قطع رأس الانقلاب قبل استقراره مما دل على حجم التحسس الإقليمي والدولي من أية مغامرة يسارية صريحة في السودان، وهو ما عزز عزلة السلطة الوليدة ومهد الطريق للانقضاض الدموي الذي تلاها
جاءت مجزرة بيت الضيافة لتشكل نقطة تحول إعلامية وسياسية استخدمها نظام نميري لتأليب الرأي العام ضد الحزب الشيوعي وتصويره كمنظمة دموية لا أخلاقية، رغم ما تكشف لاحقاً من أن المذبحة تمت تحت قصف قوات 22 يوليو وليس بأوامر من قادة 19 يوليو، إلا أن حملة التشويه كانت قد بلغت مداها واستخدمت المجزرة لتبرير إعدامات قادة الحزب وفي مقدمتهم عبد الخالق محجوب والشفيع أحمد الشيخ، وإطلاق موجة تطهير واسعة داخل أجهزة الدولة والخدمة المدنية والجيش
في غمرة هذه الردة العنيفة عقدت اللجنة المركزية للحزب اجتماعي سبتمبر ونوفمبر 1971 في ظروف قمع استثنائية، ركزت على حفظ الحد الأدنى من التنظيم، وتوثيق ما جرى، والتصدي لحملة الأكاذيب وخلصت إلى أن الحزب رغم المحنة باقٍ ويواصل نضاله في سبيل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، كما جرى إصدار كتاب الدورات لتوثيق تلك المرحلة، وشكلت تلك الجهود محاولة بطولية لبقاء الحزب على قيد الحياة السياسية في وجه التصفية
لكن ما خسره الحزب كان يتجاوز التنظيم إلى الشرعية، فقد جرى تجريده من رموزه ومواقعه في النقابات والجامعات، وابتعد عن قاعدته الاجتماعية، وأصبحت عودته إلى الساحة العامة مسألة صعبة امتدت لسنوات، وقد عاد بعد ذلك \بشكل تدريجي في أواخر السبعينيات، وشارك في انتفاضة أبريل 1985، لكنه لم يعد إلى موقعه الطليعي، بل أضحى أحد مكونات الطيف المدني، دون امتلاك القدرة على المبادرة أو إعادة إنتاج قيادة فكرية واسعة
على مدى العقود اللاحقة ظل الحزب يعاني من أزمة بنيوية لم تفلح بياناته في تجاوزها، تمسكه بنظرية "الثورة الوطنية الديمقراطية" والاشتراكية العلمية لم يواكب التحولات السياسية والاجتماعية في السودان خاصة بعد صعود الإسلاميين وتآكل الدولة المركزية وعودة الهويات الإثنية والجهوية، كما فشل في اجتذاب الجيل الجديد الذي انفصل عن مفاهيم اليسار الكلاسيكي، وعبّر عن تطلعاته في أدوات تنظيمية مرنة كما ظهر في لجان المقاومة بعد 2018، فيما بقي الحزب قابعا في بيروقراطيته التنظيمية وهيمنة جيل ما قبل 71 على مفاصله
وفي لحظة الحرب الحالية التي اندلعت في أبريل 2023 بين الجيش والدعم السريع، لم يغب صوت الحزب الشيوعي عن الساحة تماماً، لكنه بدا باهتاً، اكتفى بموقف أخلاقي صحيح برفض الحرب لكنه فشل في صياغة مبادرة سياسية متماسكة أو في بناء تحالفات واسعة مع القوى المدنية والمجتمعية الأخرى، كما غاب عن مبادرات الوساطة، وبات حضوره محدود التأثير على رغم تاريخه الثقيل
وفي ذكرى 19 يوليو تبقى الأسئلة المؤجلة أكثر إلحاحاً: هل يستطيع الحزب الشيوعي اليوم تجاوز ماضيه الطويل وثقله الأيديولوجي الجامد ليدخل في حوار مع الحاضر؟ هل يمكنه أن يتحول إلى قوة فكرية متجددة تتفاعل مع تحديات البلاد المعقدة من هجرة وبطالة وهويات مُمزقة، أم أن تاريخه الطويل سيكون عبئاً عليه أكثر من كونه رصيداً؟ هل الحزب اليوم قادر على البقاء كتشكيل سياسي حي أم أن إرثه سيتحول إلى مرجعية ثقافية وسياسية تنبعث في كيانات جديدة لا تحمل اسمه ولكن تحمل روحه التحررية؟
إن ذكرى 19 يوليو لا يجب أن تكون مجرد مناسبة للرثاء أو التمجيد، بل فرصة لمساءلة الماضي وتفكيك سردياته، واستيعاب الدروس المريرة حول مخاطر الانعزال التنظيمي، والتقدير الخاطئ لقوة الذات والافتقار للسند الشعبي، كما أنها مناسبة للتفكر في مستقبل الفكر اليساري في السودان، ليس بوصفه تمجيداً للأدبيات القديمة، بل بوصفه ضرورة لتجديد المشروع الوطني على أسس العدالة الاجتماعية والحرية والسيادة في ظل واقع جديد يحتاج إلى أدوات أكثر ذكاء ومرونة تظل ذكرى 19 يوليو علامة فارقة، تُجسِّد لحظة كانت فيها الشعارات الثورية أقوى من الواقع، والاندفاع أكبر من الحكمة، وتبقى دماء القادة والمقاتلين الذين مضوا في تلك الأيام عنواناً لتضحيات ضخمة لم تُستثمر سياسياً وتذكيراً بأن الثورة لا تُبنى على السلاح وحده، بل على صلة حية بالشعب، وتجديد دائم في الفكر والتنظيم، وأن البقاء الحقيقي لا يكون بشعارات الماضي، بل بالقدرة على قراءته والعبور منه إلى المستقبل.
|
|