جعفر شيخ إدريس- وداعًا أيها السَّاري في درب الحكمة #

جعفر شيخ إدريس- وداعًا أيها السَّاري في درب الحكمة #


07-19-2025, 09:50 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1752958247&rn=0


Post: #1
Title: جعفر شيخ إدريس- وداعًا أيها السَّاري في درب الحكمة #
Author: زهير ابو الزهراء
Date: 07-19-2025, 09:50 PM

09:50 PM July, 19 2025

سودانيز اون لاين
زهير ابو الزهراء-السودان
مكتبتى
رابط مختصر





لم يبقَ في الصباح سوى صَمْتٍ ثقيل، يُعلن رحيلَ رَجُلٍ كانَ للعقلِ ضياءٌ، وللضميرِ مرجعٌ، وللكلمةِ وقارُ الحكمةِ الخالدة. غادرنا اليومَ الدكتور جعفر شيخ إدريس، الفيلسوفُ الذي صاغَ حياتَه مشروعًا متواصلًا للبحثِ
عن المعنى، في زمنٍ تاهتْ فيه البوصلةُ بينَ صخبِ الأيديولوجياتِ وصرخاتِ السلاطين.
وُلِدَ في بورتسودانَ عامَ 1931، وحملَ معه إلى جامعة الخرطومَ عطشًا فلسفيًا لم يُطفئه غبارُ التنظيرِ الجافّ.
ثم امتشقَ قلمَه سفينةً تعبرُ محيطاتِ الفكرِ من لندنَ إلى نيجيريا، راسيةً أخيرًا في موانئِ العالمِ العربي والإسلامي، ليُلقِيَ دررَ المعرفةِ من فوقِ منابرِ الإصلاحِ، محاربًا بالحجةِ الواضحةِ وبالعقلِ المستنيرِ غلوَّ المتعصّبينَ وانغلاقَ الجاهلين.
عقلٌ يبني جسورًا بينَ الحضارات
في عصرِ القطيعةِ بينَ الشرقِ والغرب، كانَ جعفرُ شيخَ إدريسَ حارسًا للتوازنِ النادر: فلم يُغرِه بريقُ الفلسفاتِ الوافدةِ، ولم يقعَدْ بهِ الجمودُ عن سبرِ أغوارِ التراثِ.
أسّسَ منهجًا عقلانيًا رصينًا، يُحاورُ ديكارتَ وكانطَ بلغةِ الغزالي وابن رشدَ، مؤمنًا أن الإسلامَ ليسَ هويةً تُعلَّقُ في الصدورِ فحسب، بل نظامٌ كونيٌّ يُجيبُ عن سؤالِ الوجودِ
ويُصلحُ شأنَ الإنسانِ في المجتمعِ. ظلَّ صوتهُ — كندىً على نارِ التطرّفِ — يُذكّرُ بأنَّ الحقيقةَ لا تُختَزَلُ في أطرافٍ متعاكسةٍ.
الجامعةُ الأمريكيةُ: منفى يُثمرُ وطنًا فكريًا
وفي غربتهِ، لم ينكسرْ قلبهُ على شواطئِ المحيطِ، بل نبتَ بينَ يديهِ حلمٌ: الجامعةُ الأمريكيةُ المفتوحةُ. تلك الصرحَ الذي أرادهُ جسرًا بينَ الأصالةِ والحداثةِ، ومنارةً للجيلِ الثاني من المسلمينَ في الغربِ
لئلاّ يضيعوا بينَ ثقافتينِ. كانَ مشروعًا يُعلّمُ أنَّ الهويةَ ليستْ سجنًا، بل فضاءٌ تتلاقحُ فيهِ الحضاراتُ.

*مؤلفاتٌ - كلماتٌ تُشبهُ السُّيوفَ المصلتةَ على الباطل
على قلّةِ مؤلفاتهِ، فإنَّ كلَّ كتابٍ له كانَ حدثًا يُهزُّ أركانَ الفكرِ:
"الفكر الإسلامي وتحديات الحداثة": مرافعةٌ ضدَّ القطيعةِ مع التراثِ.

"العلمانية تحت المجهر": نقدٌ أنيقٌ لأسطورةِ الحيادِ.

"الإيمان بين العقل والنقل": مصالحةٌ بينَ الوحيِ والحكمةِ.
كُتبُه لم تكن حبرًا على ورقٍ، بل شموعٌ أضاءتْ دروبَ الباحثينَ عن اليقينِ في عصرِ الشكِّ.
السودانُ جرحٌ لا يندمل
ظلَّ الوطنُ — رغمَ البعدِ — نبضًا في شرايينهِ. كتبَ عنهُ بألمِ الغريبِ الذي يرى وطنَهُ يُنهشُ باسمِ الدينِ والسياسةِ. حذّرَ من استبدادٍ يتخفّى برداءِ الشريعةِ، ومن جهلٍ يُلبسُهُ الأتباعُ تاجَ القداسةِ.
كانَ صوتًا صادحًا بأنَّ الحريةَ والإيمانَ توأمانِ، لا يُفرَّقُ بينهما.

في وداعِ الحكيم
اليوم، حينَ تطوي الأرضُ جسدَ جعفرٍ، فإنَّ سماءَ الفكرِ تودّعُ نجمًا من كبارِها. رحلَ الفيلسوفُ الذي لم تَفتنهُ السلطةُ، ولم تُقعدهُ المنافي، ولم تُثنهِ الصعابُ عن قولِ كلمةِ الحقِّ.
نمْ قريرَ العينِ يا شيخَ السودانِ---
فقد علَّمتَ فأوضحتَ الطريقَ،
وكتبتَ فأزلتَ الغشاوةَ عن العيونِ،
وعشْتَ فكانَ وجودُكَ درسًا في العزّةِ والاستقامةِ.
ها هوَ نورُكَ — مثلَ نهر النيلِ — يَسري في عروقِ جيلٍ كاملٍ،
يُضيءُ لهُ دربَ الحريةِ والحكمةِ.