Post: #1
Title: قتلوك حين سمّوك - في محو الاسم وتدجين الذاكرة كتبه خالد كودي
Author: خالد كودي
Date: 07-19-2025, 08:36 PM
08:36 PM July, 19 2025 سودانيز اون لاين خالد كودي-USA مكتبتى رابط مختصر
19/7/2025 ، بوسطن
الاستعمار الثقافي وانتج الهيمنة: ١/ حادثة "الرطّانة" في شرق السودان: اللغة الأم كجريمة دولة: تداولت وسائل التواصل الاجتماعي مقطع فيديو مؤثر لشاب من شرق السودان يتحدث بإحدى لهجات اللغة البجاوية، ويسرد من خلاله حادثة شخصية تكشف بوضوح عن عمق المأزق الثقافي والسياسي في البلاد. تبدأ القصة حين كان الشاب برفقة صديقه، وكلاهما – كما يوضح – من مؤيدي الجيش، وقد صادفا اثنين من معارفهم الشباب في نقاش محتدم مع ثلاثة جنود من الجيش السوداني. بدافع من الشعور بالمسؤولية والرغبة في التهدئة، تدخّل الشاب وصديقه لمعرفة ما يجري. غير أن اللحظة التي بادرا فيها بالكلام مع أصدقائهما، وبلغة أمّهم، تحوّلت سريعًا إلى مسرح عنف مفاجئ. أحد الجنود حضر اثناء النقاش، ولم يكن معنيًا او مهتما بالخلاف الأصلي، بدأ بالصراخ: "ما ترطنوا قدّامي!"، ثم انقضّ علي الشابين بالضرب المبرّح وهو يصرخ بانفعال هستيري: "ليه ترطنوا؟!". في هذا المشهد، لم تعد المشكلة متعلقة بسلوك الأفراد، بل أصبحت اللغة نفسها – لا المتحدثين بها – موضع الاتهام. وكأن النطق باللغة الأم بحد ذاته جريمة. اقتيد الشابان إلى قسم الشرطة، وهناك استمرّت سلسلة الإهانات والتنكيل، ليس بسبب "الواقعة الأصلية"، بل تحديدًا بسبب استخدامهما للغتهما المحلية. وحتى بعد رفع الأمر إلى قيادة الفرقة 101، لم يتوقف الاعتداء اللفظي والجسدي، في دلالة واضحة على أن ما جرى لم يكن تصرفًا فرديًا معزولًا، بل تعبيرًا مؤسسيًا عن عقلية الدولة وأجهزتها الأمنية تجاه التعدد اللغوي والثقافي. هذه الحادثة ليست مجرد واقعة اعتداء جسدي، بل نموذج صريح لما يمكن تسميته بالعنف الرمزي والمؤسسي الموجّه ضد اللغة الأم. ففي مثل هذا السياق، تصبح اللغة المحلية رمزًا للتمرد، لا للتواصل، ويجري تصنيفها ضمن ما يهدد "وحدة الدولة المتخيلة" المبنية على التعريب القسري وأسلمة الهوية. إن "الرطّانة" هنا لا تُدان فقط كلغة، بل تُجرّم كعلامة على الانتماء الثقافي المختلف، ويُعامل المتحدث بها كما لو أنه أخلّ بولائه للدولة، لا لمجرد ما قال، بل لما هو ومن يكون. في هذا الإطار، تتحوّل اللغة من حق طبيعي إلى مؤشر على الخيانة، ومن أداة تعبير إلى ذريعة للعقاب، بما يعكس استمرار إرث الاستعمار الداخلي، حيث لا يُعترف بالتعدد إلا بوصفه تهديدًا، ولا تُسمع إلا الأصوات التي تُردد الرواية الرسمية للدولة.
٢/ بين مدير المدرسة عضو مجلس سيادة بورتسودان: حكاية الاسم المُعطى كأداة لمحو الذات: في مقابلة تلفزيونية حديثة، سرد الفريق أول مالك عقار إير، عضو مجلس سيادة سلطة بورتسودان، واقعة شخصية تكشف بجلاء عن عمق الهيمنة الرمزية في مؤسسات الدولة السودانية. يروي عقار أن اسمه الأصلي قد أُلغي واستُبدل باسم "مالك" على يد أحد الإداريين أو المعلمين أثناء تسجيله في الصف الأول من المرحلة الابتدائية. عندما سُئل الطفل مالك عن اسمه، أجاب باسمه الحقيقي، لكن المدرّس لم يُعجبه الاسم، فقرر من تلقاء نفسه: "اسمك الآن مالك." قد تبدو هذه الواقعة، في ظاهرها، مجرد تصرف فردي أو إجراء إداري عابر، لكنها في حقيقتها لحظة تأسيسية عميقة الدلالة. فالمدرسة، بوصفها المؤسسة المفترض أن ترعى التنوع وتنمّي الهوية، مارست هنا أولى عمليات "الهندسة الرمزية"، حيث يتحوّل الطفل الهامشي إلى مادة قابلة للتشكيل وفق هوية الدولة المركزية، بدءًا من اسمه. هذا النمط من التسمية القسرية لم يكن استثناءً، بل سياسة متكرّرة في مناطق الهامش السوداني، حيث كان يُمنح الأطفال في بداية رحلتهم التعليمية أسماء عربية–إسلامية، غالبًا ما لا تمتّ بأي صلة لهويتهم الأسرية أو الثقافية. لم يكن ذلك بدافع التنظيم الإداري أو التبسيط البيروقراطي، بل كان فعلًا رمزيًا مقصودًا: إعادة تعريف الذات لتتناسب مع شروط "المواطنة المقبولة". فالاسم هنا لم يكن مجرد دال لغوي، بل "بطاقة عبور" نحو فضاء الوطن المتخيّل، بشرط إذابة الاختلاف في قوالب العروبة والإسلام. والمفارقة المؤلمة أن مالك عقار، الذي جُرّد من اسمه الأصلي عند أول عتبة للمدرسة، يعود اليوم ليشغل أحد أعلى المناصب في الدولة، ممثلاً لمؤسسة لا تزال تكرّس ذات منطق الهيمنة الرمزية الذي بدأ معه منذ طفولته. يشغل هذا المنصب لا بصفته كاسرًا لذلك المنطق، بل وفق شروطه، وبالاسم الذي فُرض عليه يومًا ما دون مشورة أو قبول. وهكذا، يصبح عقار – عن وعي أو بدونه – جزءًا من ماكينة السلطة التي صاغت اسمه وهويته الأولى، ويتحول إلى ترس جديد في منظومة تستمر في تعريف الانتماء بناءً على التطابق مع هوية الدولة المركزية المفروضة. إنها دائرة مغلقة من الاستيعاب تبدأ من المعلم في الصف الأول، ولا تنتهي حتى في القصر الجمهوري… حيث تتبدل الأدوار، لكن تظل القاعدة كما هي: السلطة تُشكّل، والمهمّش يُعاد تشكيله.
٣/ المدارس الداخلية الكندية: من قمع الاسم واللغة إلى طمس الروح الجماعية: "نريد أن نقتل الهندي في الطفل لننقذ الإنسان" — هكذا صرّح "دنكان كامبل سكوت"، أحد أبرز رموز الهندسة الثقافية الكولونيالية في كندا، ومهندس سياسات المدارس الداخلية المخصصة لـ"استيعاب" الأطفال من السكان الأصليين. بين أواخر القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين، شهدت كندا تجربة مريرة وموثقة لما يزيد عن 150 ألف طفل من السكان الأصليين، تم اقتلاعهم قسرًا من أسرهم ومجتمعاتهم، وأُرسلوا إلى مدارس داخلية تدار غالبًا من قبل الكنائس الكاثوليكية والبروتستانتية. كانت هذه المدارس تُدار باسم التقدم، لكنها في الواقع كانت مختبرات لمحو الهوية الثقافية واللغوية والدينية. كان أول ما يُجبر عليه الطفل هو التخلي عن اسمه الأصلي – المرتبط غالبًا برمزية عشيرته، حيوانات الطوطم، والروابط الطبيعية – ليتلقى بدلاً عنه اسماً إنجليزياً أو فرنسياً. يُحلق شعره، تُصادر ملابسه التقليدية، يُمنع من الحديث بلغته الأم، ويُعاقب بالجلد أو الحبس الانفرادي إن تجرأ على نطق كلمة بلغة الأوجيبوي أو الكري أو أي لغة أخرى من لغات "الهمج"، كما كانت تُصنّف في أدبيات المستعمر. لم يكن الهدف من هذه المدارس تعليم الأطفال، بل تفكيك الذاكرة الجمعية وتحويل الأفراد إلى أدوات طيعة للاندماج القسري داخل دولة استعمارية. وقد أدت هذه السياسات إلى أجيال كاملة عانت من فقدان اللغة، الانفصال عن الجذور، والعزلة الثقافية. توفي المئات – إن لم يكن الآلاف – من الأطفال نتيجة الإهمال وسوء المعاملة، وما تزال المقابر الجماعية تُكتشف حتى اليوم، شاهدة على عنف لم يكن ماديًا فحسب، بل وجوديًا. ما فعله سكوت كان استعمارًا ناعمًا بوسائل خشنة، يراد منه ليس فقط "تهذيب" الآخر، بل إلغاؤه بالكامل. وهو المشروع ذاته الذي يتكرر بصيَغ محلية في السودان، حيث يصبح الاسم الأول، اللغة الأم، واللباس التقليدي، مواقع اشتباك لا تقل خطورة عن جبهات القتال المسلحة.
يمكن قراءة هذه اللحظة التكوينية لمحو الاسم الأصلي ضمن منظور أوسع من التصفية الرمزية، وهو ما يجعل المقارنة ممكنة مع تجربة المفكر والثائر الأمريكي من أصل إفريقي مالكوم إكس، الذي كتب بإصرار عن رفضه حمل الاسم العائلي الذي "Xورثه عن المستعبِدين البيض، معتبراً ذلك "اسم العبد"، واستعاض عنه بالحرف " رمزاً لاسم أُنتزع منه قسرًا، ولجذور أُخفيت، ولهوية طُمست عمدًا. وفي حين اختار مالكوم إكس أن يقاوم هذا المسار حتى استشهاده، بقي مالك عقار حاملًا للاسم الذي مُنح له في سياق سلطوي تعليمي، وتطور لاحقًا ليخدم تحت ذات الدولة التي مارست ذلك التقييد الرمزي في حقه وغيره بشروطها. هذه المقاربة لا تهدف إلى إصدار حكم أخلاقي على الشخصيتين، بل تسعى إلى الكشف البنيوي عن الدور السياسي للاسم داخل مشاريع الاستيعاب الثقافي. فالاسم هنا ليس مجرد اختيار فردي أو معطى عائلي، بل يمثل أداة رمزية تُستخدم لتحديد الموقع الاجتماعي، ورسم حدود الانتماء، وضبط شروط القبول داخل منظومة الدولة. ومن هذا المنطلق، تُطرح أسئلة وجودية ومعرفية معقدة: هل نقبل بالاسم المفروض ونعيد امتلاكه؟ هل نرفضه ونسعى إلى تحطيمه؟ أم نحاوره ونُعيد تعريفه من داخل الهامش؟ في هذا الإطار، سلط عدد من الباحثين الضوء على آليات محو الهوية الثقافية في السودان، ومنهم الدكتور عمر شركيان، قدّم هؤلاء الباحثين تحليلاً عميقًا للعلاقة بين السياسات التعليمية للدولة وممارسات الاستيعاب القسري بحق شعوب النيل الأزرق وجبال النوبة وغيرها من المجموعات المهمشة. يشير عدد منهم إلى أن المدرسة – في هذه السياقات – لم تكن مؤسسة للمعرفة بقدر ما كانت أداة لإعادة تشكيل الوعي الطفولي، عبر التحكم في اللغة، وتوجيه الرموز، وإعادة إنتاج الذاكرة الفردية ضمن أطر ثقافية مفروضة من المركز. إن الاسم، في هذا السياق، ليس علامة هوية فحسب، بل مدخل إلى فهم شامل للعلاقة بين السلطة والذات، بين التعليم والإخضاع، وبين الهوية والمقاومة.
أولاً: فلسفة الإبادة الثقافية كأداة استعمارية: (Cultural Genocide) يقوم مفهوم الإبادة الثقافية على افتراض جوهري أن الشعوب لا تُباد فقط عبر السلاح، بل يمكن استئصال وجودها التاريخي والمعنوي عبر محو لغاتها وطقوسها وأساطيرها وشبكة علاقاتها الرمزية. هو قتل غير مرئي، لكنه أشد فتكًا لأنه يصيب الذاكرة الجماعية، ويزرع شعورًا بالذنب أو الخجل من الانتماء الثقافي. ويتحول بذلك إلى جريمة عميقة الأثر، تُعاد إنتاجها عبر الأجيال. يُعد دنكان كامبل سكوت، أحد مهندسي سياسة التعليم القسري في كندا، من أوائل من عبروا عن هذا التوجه بصراحة حين قال: "نريد أن نقتل الهندي في الطفل لننقذ الإنسان". العبارة هنا لا تعني إنقاذًا فعليًا بل تعني إعادة التشكيل القسري، وتحويل الطفل إلى مرآة للهوية البيضاء الأوروبية، بكل ما تحمله من قيم وتصورات عن العالم. وقد قُتل فعليًا آلاف الأطفال في تلك المدارس أو اختفوا إلى الأبد، ولم تُعرف أماكن دفنهم إلا بعد مرور أكثر من قرن. كانت تلك المدارس مشاريع لإعادة صناعة الإنسان وفق نموذج عنصري، يرى في الاختلاف شذوذاً يجب استئصاله. وفي السودان، بعد الاستقلال، انتقلت الدولة من مشروع المواطنة الجامعة إلى مشروع قائم على العروبة والإسلام كأحادية تعريفية، ترسخت في الدساتير، والخطاب السياسي، والمناهج، والتمثيلات الإعلامية. تأسس هذا المشروع على رؤية تقصي التنوع وتُحيله إلى هامش خارج تعريف الوطن، وتحول بذلك إلى ما يشبه الاستعمار الداخلي، حيث تحتكر فئة ثقافية–دينية تمثيل الدولة وتفرضه على الآخرين بوصفه طبيعياً ومفروغاً منه. وهو ما دفع لاحقًا إلى موجات مقاومة ثقافية وسياسية، بلغت ذروتها في الحروب الأهلية والانقسامات الجغرافية.
ثانياً: الاستراتيجيات المشتركة في طمس الهوية ١/ اللغة بوصفها مجالًا للهيمنة الرمزية - اللغة ليست فقط أداة للتخاطب، بل هي خزان الرموز والتجارب الجمعية. ولذلك كان استهداف اللغة الأم عند الأطفال الأصليين في كندا محورياً. تم حظر التحدث بها في المدارس، واعتُبرت علامة على التخلف أو العصيان، وتم استبدالها بالإنجليزية أو الفرنسية بوصفها لغات الحضارة. أُجبر الأطفال على نسيان أسماء الأشياء بلغتهم، حتى صارت معانيهم معلقة بلغة المستعمر. - في السودان، حُظرت لغات المجموعات غير العربية من التداول الرسمي، واختُزلت إلى مجرد لهجات محلية. لم تُستخدم في التعليم، ولم تُرسم لها مكانة في الدستور، رغم أنها لغات لأمم تاريخية عريقة مثل النوبة والزغاوة والفور والدينكا. وتم ترميز العربية لا فقط كلغة، بل كرمز للحداثة والانتماء، وجسر للترقي الاجتماعي. ٢/ تغيير الأسماء وطمس الرموز: - في المدارس الداخلية، جرى منح الأطفال أسماء مسيحية أوروبية، وشُطبت أسماؤهم الأصلية من السجلات. هذا الإجراء كان إعلان قطيعة مع الأصول الثقافية، ومع الأهل، ومع الطقوس التي ترتبط بتسمية الأطفال في مجتمعاتهم. الاسم لم يكن مجرد بطاقة هوية بل حاملاً لذاكرة الجماعة. - في السودان، شجعت المؤسسات على تعريب الأسماء، ونُظر إلى من يحملون أسماء إفريقية على أنهم أقل حظًا في الاندماج. كما أن هناك توجهاً نحو طمس أسماء القرى والأحياء بأسماء دينية أو عربية. هذه الممارسات لم تكن رمزية فقط، بل كانت تترافق مع سياسات تمييز عملي في التوظيف والخدمات. ٣/ المدرسة كمصنع لإنتاج الإنسان المطيع: - المدرسة في كندا لم تكن فضاءً معرفياً بل مركزًا تأديبيًا. كانت تُستخدم فيها العقوبة الجسدية والنفسية لترويض الطفل. لم تُدرّس فيها ثقافة السكان الأصليين، بل تم إقناع التلاميذ أن تراثهم هو سبب تخلفهم. كانت كل حصة وكل صلاة أداة لغرس الشعور بالدونية. - في السودان، شكلت المناهج التعليمية حقلًا لإعادة إنتاج خطاب العروبة والإسلام بوصفه التاريخ الوحيد الممكن. لم يُذكر تاريخ ممالك مثل كوش أو الفونج أو الفور إلا بوصفها بدايات متخلفة، وتم تقديم التاريخ الإسلامي والعربي على أنه الأصل. كل ذلك في ظل غياب تام للرؤية الإفريقية والسودانية التعددية. ٤/ الدين كأداة لإعادة البرمجة الثقافية: - فرضت المسيحية في مدارس كندا، ودُمّرت الرموز الروحية الأصلية. لم يُسمح للأطفال بممارسة طقوسهم، واعتُبرت معتقداتهم ضربًا من الوثنية. طُلب منهم أن يصلّوا لإله غريب بلغة غريبة في طقس لا يشبه حياتهم. - في السودان، فُرض الإسلام في التعليم والمؤسسات العامة، حتى على غير المسلمين، بل وأُجبروا على تعلم مواد إسلامية في المدارس. وتم القضاء على التنوع الروحي الديني بوصفه تهديدًا للعقيدة القومية. لم يُعترف بالمعتقدات الإفريقية، ولا بالحق في الاختلاف الديني. ٥/ العنف كسلوك ممنهج: - لم يكن العنف في كندا مجرد انحراف، بل جزء من بنية النظام. الآلاف من الأطفال تعرضوا لانتهاكات جسدية وجنسية مروعة. وقد تم الكشف عن مقابر جماعية لاحقاً في حرم المدارس. -في السودان، ارتبط مشروع التعريب والأسلمة بعنف سياسي مباشر، لا سيما في مناطق الجنوب والنيل الأزرق ودارفور. كان من يرفض الخضوع الثقافي يُتهم بالتمرد أو الخيانة أو الردة، وغالبًا ما كان الرد أمنياً أو عسكرياً.
ثالثاً: مقارنات عالمية – خطاب واحد بأقنعة متعددة ما حدث في كندا والسودان له سوابق كثيرة عبر العالم: - في الجزائر، استخدمت فرنسا المدارس لتفرنيس الجزائريين، واعتُبرت العربية لغة غريبة رغم كونها أقدم من الوجود الاستعماري. ولم يُسمح للجزائريين بنيل المواطنة الكاملة إلا بنبذ لغتهم ودينهم. - في أستراليا، تعرض الأطفال من السكان الأصليين لما سُمي بالأجيال المسروقة، حيث انتُزعوا من أسرهم وأُجبروا على الاندماج القسري. ولا تزال آثار هذا التهجير الروحي والسياسي قائمة حتى اليوم. "Carlisle" في الولايات المتحدة، أنشئت مدارس لإعادة تأهيل الأطفال الأصليين، مثل مدرسة التي رفع مديرها شعار "اقتل الهندي، أنقذ الإنسان". شعار يتطابق بنيويًا مع سرديات التعريب والأسلمة القسري في السودان. كل هذه التجارب تلتقي عند فرض ثقافة مهيمنة عبر أدوات الدولة والتعليم والدين، وتجعل من الآخر مسخًا بلا جذور. وتنتج عنها مجتمعات ممزقة، أفرادها مشوشو الهوية، يسكنهم الحنين إلى ما حُرموا من تسميته.
رابعاً: التأويل الفلسفي والسوسيولوجي - فرانتز فانون: اعتبر أن الاستعمار يصنع نسخة من المستعمَر تجعله يكره ذاته ويحتقر ثقافته. يُزرع داخله شعور بالدونية يسهّل إخضاعه. يشبه ما يحدث في المدارس حين يصبح الطفل سجينًا لهوية فرضت عليه بالقوة. - أنطونيو غرامشي: رأى أن الهيمنة الثقافية هي التي تجعل الجماهير تتقبل خطاب النخبة كحقيقة طبيعية. المدرسة هي ساحة الصراع بين الثقافة المهيمنة والثقافات المقموعة. - غاياتري سبيفاك: ساءلت إمكانية أن يتكلم التابع، في نظام صُمم أساسًا لمنعه من الكلام. في المدارس الداخلية أو مدارس السودان، لم يُسمح للتابع أن يسرد روايته، بل طُلب منه تكرار الرواية الرسمية. - بول ريكور: ربط بين فقدان السردية الجماعية وفقدان الكرامة التاريخية، مما يجعل الاعتراف شرطًا أوليًا للعدالة. من لا يملك قصته لا يملك حقه.
خامساً: نحو عدالة معرفية تعترف بالاختلاف تقتضي العدالة تفكيك منظومة الهيمنة الرمزية، والاعتراف بأن التعدد ليس انقساماً، بل هو شرط الثراء الثقافي. لا بد من: - الاعتراف والاقرار الدستوري باللغات الأصلية بوصفها لغات قومية. - إعادة بناء المناهج بمنظور يعترف بجميع الثقافات والمرويات. - تعويض المجتمعات المتضررة مادياً ومعنوياً. - إعادة سرد التاريخ من وجهة نظر المهمشين. - إصلاح المؤسسات التعليمية والإعلامية لتكون شاملة وتعددية. - إدراج الطقوس والرموز المحلية في الحياة العامة. - إنتاج فنون، آداب، ومناهج تكرّم الاختلاف وتحتفل بالتنوع.
خاتمة: إن ما يجمع بين تجريم اللغة المحلية، ومحو الاسم الأصلي، والمدارس الداخلية في كندا، ومشروع التعريب والأسلمة في السودان، يتجاوز الجانب القسري الظاهر إلى جوهر أعمق، يتمثل في بنية ذهنية سلطوية تنظر إلى التعدد الثقافي واللغوي لا كثراء، بل كخلل ينبغي إصلاحه، وتهديد يجب احتواؤه أو قمعه. في جميع هذه الحالات، لم تكن اللغة، أو الاسم، أو المدرسة، أو الدين أدوات لبناء الإنسان، بل أدوات لإعادة تشكيله في صورة السلطة، لا في صورته الأصيلة، لتنتج ذاتًا مُروّضة، مبتورة الجذور. ففي كندا، جُرّمت لغات السكان الأصليين، وحُظرت في المدارس، وقُدّمت الإنجليزية والفرنسية كرمز للحضارة، بينما صُنّفت اللغة الأم علامة على التخلف أو التمرد. لم يكن ذلك قرارًا إداريًا فحسب، بل فعل إبادة رمزية مقصودة تهدف إلى سلخ الطفل عن تاريخه ومجتمعه وذاكرته الجماعية. أما في السودان، فقد مُنعت لغات المجموعات غير العربية من التداول الرسمي، واختُزلت إلى "لهجات/ رطانة"، وأُقصيت من المناهج، والدساتير، والمنابر، بينما رُفعت اللغة العربية إلى مقام الرمز الحصري للحداثة والمواطنة، وربطت بالإسلام كإطار قيمي وتعريفي شامل للدولة. أما الاسم، فهو التجلي الأكثر صمتًا والأشد إيلامًا لسلطة الاستيعاب. فحين يُنتزع الاسم الأصلي ويُستبدل باسم مفروض لا يمتّ إلى الثقافة الأم بصلة، فإن ذلك لا يمحو دلالةً فردية فقط، بل يُجرد الإنسان من رابط عضوي بالجماعة والطقس والرمز. وهذا ما حدث في المدارس الداخلية الكندية، كما في كثير من تجارب السودانيين الذين حُمّلوا أسماء لا تشبههم، بوصفها تأشيرة للقبول داخل الدولة. وقد عبّر مالكوم إكس عن هذه الجراح الرمزية بوضوح حين رفض أن يحمل "اسم العبد"، وفضّل أن يترك مكانه فارغًا بحرف (اكس) كعلامة على تاريخ مقموع وجذور مسروقة. وفي السودان، لم يكن مشروع التعريب والأسلمة مجرد سياسة تعليمية، بل مشروع دولة ما بعد الاستعمار، تأسّس على إنكار التعدد، وتحويله إلى خطر داخلي. المدرسة، المناهج، الإعلام، وحتى أسماء المدن والقرى، والطرق جميعها كانت أدوات لتكريس هوية واحدة باعتبارها "الهوية الصحيحة"، بينما صُوّرت كل هوية مغايرة كمصدر للشذوذ، والانقسام، بل والتمرد الذي يستوجب العقاب، ولايجب ان ننسي ان للنخاس الزبير باشا رحمة شارع باسمه في قلب العاصمة الخرطوم.. ومن المفارقات السودانية المؤلمة – والمضحكة في آن – أن النخب التعليمية والثقافية عندنا لا تكتفي بتجاهل دروس التاريخ، بل تبدو وكأنها تُصرّ على إعادة ارتكاب الأخطاء المجربة التي أثبت العلم والممارسة والتجربة فشلها التام. ففي زمن تعترف فيه كندا – بكل مؤسساتها الراسخة – بجرائمها التعليمية، وتعيد الاعتبار للغات الأصلية، وتعتذر عن سياسات محو الهوية، ما تزال نخبنا تمضي في تكرار مشاريع استيعابية مهترئة، وكأنها تكتشف العجلة من جديد... ولكن عجلة مربعة هذه المرة! ما زال بعضهم يؤمن أن تعميم اللغة، وتوحيد المناهج، وطمس الرموز الثقافية، هو السبيل إلى بناء الدولة، متجاهلين أن هذا السبيل نفسه هو الذي أدى إلى الانقسام، والتمرد، والانفجار الوطني. وكأن قدرنا أن نتعلم من العالم عبر تجاهله، وأن نعيد إنتاج الاستعمار بأنفسنا، ولكن بلا حذق المستعمِر… فقط بكامل عُرينا الرمزي والسياسي! هذه الحالات، وإن اختلفت في سياقاتها الجغرافية والتاريخية، إلا أنها تتشارك بنيويًا في منطق واحد: قتل الرموز المؤسسة للهوية، سواء كانت لغة، أو اسمًا، أو سرديةً جمعية، وتحويل الإنسان إلى مرآة للهيمنة لا كائنًا حرًا متعدّدًا. وبهذا، تُنتج مجتمعات مأزومة، وأفرادًا مشوشين، يسكنهم الحنين إلى ما حُرموا من تسميته، ويُجبرون على ترديد روايات لم يكتبوها بأنفسهم. لذلك، فإن التحرر لا يكون بإسقاط الأنظمة السلطوية وحدها، بل يبدأ من تفكيك البنى الرمزية التي تنتج التبعية وتُكرّسها عبر المدرسة، واللغة، والدين. لن يكون المستقبل عادلًا ما لم يتمكن المهمّشين ليس فقط بالبقاء، بل بالعيش بلغاتهم، والسرد بأسمائهم، والتعليم برموزهم، والتخيّل خارج قوالب الهيمنة. إن العدالة لا تبدأ بإعادة تأهيل الدولة فقط، بل بإعادة الاعتبار لما حاولت الدولة طمسه: اللغة الأم، الاسم الأصلي، الذاكرة الجمعية وفقا لتعليم حديث يستصحب هذه الاحتياجات الثقافية. فقط عندما يُقال الاسم الحقيقي، وتُروى القصة المخفية، وتُعاش الهوية من دون خوف أو خجل، يمكن أن يولد مجتمع جديد، لا يخجل من تعدده، بل يحتفل به، ويسمح لأبنائه أن يكونوا أنفسهم… لا مجرد صور باهتة عن غيرهم.
النضال مستمر والنصر اكيد.
(أدوات البحث والتحرير التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)
|
|