شطرنجُ السياسةِ ورهانُ السودانِ: هندسةُ الواقعِ وصوتُ الأملِ كتبه أدم أبكر عيسى

شطرنجُ السياسةِ ورهانُ السودانِ: هندسةُ الواقعِ وصوتُ الأملِ كتبه أدم أبكر عيسى


07-19-2025, 01:45 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1752929109&rn=0


Post: #1
Title: شطرنجُ السياسةِ ورهانُ السودانِ: هندسةُ الواقعِ وصوتُ الأملِ كتبه أدم أبكر عيسى
Author: ادم ابكر عيسي
Date: 07-19-2025, 01:45 PM

01:45 PM July, 19 2025

سودانيز اون لاين
ادم ابكر عيسي-السودان
مكتبتى
رابط مختصر



● ●

صدى الوطن ..أدم أبكر عيسى .

في قلبِ السودانِ، حيثُ تتشابكُ الأزماتُ وتتداخلُ المساراتُ، يلوحُ في الأفقِ ما يُعرفُ بـِ "حكومةِ الأملِ"، التي جاءَ ميلادها متعثراً بعدَ انتظارٍ طالَ شهرينِ منذُ تكليفِ دولةِ رئيسِ الوزراءِ الدكتورِ كاملِ إدريسَ. إنَّ هذا التأخيرَ، وما سبقهُ من جدلٍ حولَ الحصصِ والمقاعدِ، ليسَ مجردَ عقباتٍ إجرائيةٍ، بل هو انعكاسٌ لمشهدٍ فلسفيٍّ-استخباريٍّ معقدٍ، تُهندسُ فيهِ القوى الفاعلةُ واقعاً سياسياً جديداً على حسابِ اتفاقاتٍ سابقةٍ، وتُمزجُ فيهِ الأيديولوجياتُ بالبراغماتيةِ، والوطنيةُ بالضغوطِ الإقليميةِ والدوليةِ.

رؤيةٌ في مهبِّ التجاذباتِ:

لقد طرحَ الدكتورُ كاملُ إدريسَ رؤيةً متقدمةً لحكومتهِ، تتأسسُ على خمسةِ أهدافٍ رئيسيةٍ تحملُ معانيَ ومضامينَ عميقةً: البناءُ وإعادةُ الإعمارِ، دعمُ القواتِ المسلحةِ وكافةِ القوى المساندةِ لها في "معركةِ الكرامةِ"، الاهتمامُ بمعاشِ الناسِ، إعادةُ السودانِ إلى محيطهِ الإقليميِّ والدوليِّ، ونبذُ خطابِ الكراهيةِ. هذهِ الرؤيةُ، وإن بدتْ شاملةً وطموحةً، إلا أنها واجهتْ اختباراً صعباً في المواءمةِ بينَ واقعٍ سياسيٍّ هشٍّ وتوازناتٍ دقيقةٍ.

كانَ على رئيسِ الوزراءِ أن يُحدِثَ توازناً شائكاً بينَ مكوناتِ التشكيلِ الحكوميِّ: حركاتُ الكفاحِ المسلحِ التي تتمسكُ بنسبتها البالغةِ 25% من مقاعدِ الحكومةِ وفقاً لاتفاقيةِ جوبا للسلامِ، وبينَ رؤيتهِ لتشكيلِ حكومةِ كفاءاتٍ وطنيةٍ حقيقيةٍ تهدفُ إلى العبورِ بالوضعِ نحو انتقالٍ ديمقراطيٍّ وتهيئةِ مناخٍ للحوارِ السودانيِّ-السودانيِّ. ولم يغبْ عن هذهِ المعادلةِ المعقدةِ المكونُ السياديُّ كطرفٍ أساسيٍّ. هذهِ الموازناتُ، في ظلِّ التعددِ العرقيِّ والإثنيِّ، لا تُمثلُ مجردَ مساومةٍ سياسيةٍ، بل هي تجسيدٌ لصراعِ الإراداتِ حولَ طبيعةِ الدولةِ ومستقبلِها.

"الهندسةُ الناعمةُ" وتغييرُ قواعدِ اللعبةِ:

إنَّ التأخيرَ في إعلانِ "حكومةِ (نيالا (أو ما يُشارُ إليهِ بـِ "حكومةِ التأسيسِ" في بعضِ السياقاتِ)، لا يُمكنُ تفسيرهُ بمعزلٍ عن يدٍ خارجيةٍ خفيةٍ، أنها "هندسةٌ ناعمةٌ" تُحيكها "مطابخُ أعدتْ الخطةَ بعنايةٍ فائقةٍ لعرضها على اجتماعاتِ الرباعيةِ والإجازةِ هناكَ مباركةٌ تمتْ". هذهِ "الهندسةُ الناعمةُ" هي مقاربةٌ استخباراتيةٌ تُحدثُ تغييراتٍ في المشهدِ السياسيِّ، ليستْ بالضرورةِ عبرَ القوةِ الصلبةِ المباشرةِ، بل من خلالِ التأثيرِ في الرأيِ العامِّ، وتشكيلِ التحالفاتِ، وتقديمِ الحوافزِ أو الضغوطِ التي تُغيّرُ من ديناميكيةِ القوى الداخليةِ...الهدفُ المعلنُ لهذهِ "الهندسةِ" هو "إيقافُ الحربِ وتهيئةُ المشهدِ عبرَ حكومةِ أملٍ" لـِ "قبولِ الأوضاعِ القادمةِ" وتجاوزِ الانشطارِ ووقفِ تنامي النفوذِ الروسيِّ والإيرانيِّ. هنا يبرزُ مصطلحُ "تسويةِ لأرضِ المعلبِ"، مما يُشيرُ إلى أنَّ هذهِ الحكومةَ تُعدُّ جزءاً من استراتيجيةٍ أكبرَ تهدفُ إلى إعادةِ تموضعِ السودانِ جيوسياسياً، بما يتوافقُ معَ مصالحِ قوى إقليميةٍ ودوليةٍ تسعى لضمانِ "عدمِ انقسامِ السودانِ" وفقَ رؤاها الخاصةِ. ويُشارُ إلى وجودِ علاقاتٍ بينَ بعضِ عناصرِ حكومةِ الأملِ ودولٍ يُصنفُها البعضُ كـ "دولٍ مصنّعةٍ للعدوِ"، مما يُضيفُ بعداً استخباراتياً للتحليلِ، ويُثيرُ تساؤلاتٍ حولَ مدى استقلاليةِ القرارِ الوطنيِّ.

اتفاقيةُ جوبا: رهانٌ في مهبِّ التغييرِ:

يبقى وضعُ اتفاقيةِ جوبا للسلامِ مهدداً في حالِ التوافقِ على تسويةٍ سياسيةٍ شاملةٍ للانتقالِ الديمقراطيِّ وإيقافِ الحربِ، يكونُ أحدُ أطرافها مليشياتُ الدعمِ السريعِ (التي يُشارُ إليها ضمنَ "تحالفِ التأسيسِ" مقابلَ "تحالفِ الصمودِ"). إنَّ دخولَ طرفٍ جديدٍ بقوةِ الدعمِ السريعِ إلى معادلةِ السلطةِ، ضمنَ تسويةٍ تُوقِفُ الحربَ، قد يُلغي أو يُضعفُ حصةَ حركاتِ الكفاحِ المسلحِ التي تمَّ تحديدها في جوبا، مما يُبرزُ كيفَ يمكنُ لـِ "المؤامرةِ اللحظيةِ" أن تُغيّرَ المقاعدَ والأدواتِ، وتمحو "الخطوطَ الحمراءَ إلى ما لا نهايةَ". هذهِ ديناميةٌ تُظهرُ كيفَ أنَّ "القوى الصلبةَ قابلةٌ للذوبانِ وتُحلُّ محلها القوى الناعمةُ".

مرحلةُ "التوافقاتِ الزائفةِ" وثمنُها:

إنَّ ما يجري الآنَ هو آخرُ فصلٍ من فصولِ "المؤامرةِ اللحظيةِ" (أو المواءمةِ الوقتيةِ)، حيثُ تتغيرُ المقاعدُ والأدواتُ، وتُمحى الخطوطُ الحمراءُ إلى ما لا نهايةَ. القوى التي كانتْ تُعتبرُ "صلبةً" وثابتةً، تُصبحُ اليومَ "قابلةً للذوبانِ" لتُحلَّ محلها "القوى الناعمةُ"، أيْ تلكَ التي تعملُ من خلفِ الكواليسِ وتُؤثرُ باللينِ والإغراءِ لا بالقوةِ الصريحةِ.
أنَّ "الناعمينَ على العسلِ قريباً سوفَيعلمونَ بأنَّ الخداعَ كانتْ كبيرةً". أنَّ التسوياتِ السطحيةَ، التي تُبنى على مصالحَ ضيقةٍ وتجاهلِ للمبادئِ، سرعانَ ما تكشفُ عن وجهها الحقيقيِّ كخدعةٍ كبرى، وأنَّ مَن يظنُّ أنهُ استفادَ من هذهِ التوافقاتِ الزائفةِ، سيدفعُ الثمنَ لاحقاً. إنها دعوةٌ للتأملِ في عواقبِ التنازلِ عن السيادةِ الوطنيةِ لصالحِ ترتيباتٍ خارجيةٍ، وتساؤلٌ حولَ ما إذا كانتْ "حكومةُ الأملِ" هذهِ تُبشرُ بـِ "بدايةٍ جديدةٍ للانتقالِ" حقاً، أم أنها مجردُ مرحلةٍ انتقاليةٍ لهندسةِ واقعٍ جديدٍ تفرضهُ أجنداتٌ أوسعُ.

إنَّ المشهدَ السودانيَّ الراهنَ هو مختبرٌ حيٌّ للتفاعلِ بينَ الإرادةِ الوطنيةِ والتدخلاتِ الخارجيةِ، بينَ الصلابةِ واللينِ، بينَ الرؤى الطموحةِ ومُرارةِ التوافقاتِ الضروريةِ. وبينما يسعى الدكتورُ كاملُ إدريسَ لوضعِ "إطارٍ صحيحٍ للانتقالِ" بمزيجٍ من "روحِ الشبابِ وخبرةِ العلماءِ"، يبقى السؤالُ الفلسفيُّ الأكبرُ: هل ستُفضي هذهِ الهندسةُ السياسيةُ إلى استقرارٍ دائمٍ ومصلحةٍ وطنيةٍ حقيقيةٍ، أم أنها مجردُ تمهيدٍ لفصولٍ جديدةٍ من الصراعِ في شطرنجِ السياسةِ الإقليميةِ والدوليةِ، حيثُ تُرهنُ مصائرُ الأممِ على أرضِ معلبٍ تُحددُ قواعدهُ قوىً خفيةٌ؟ إنَّ ما تبقى قليلٌ، لكنَّ نتائجَهُ ستُحددُ مستقبلَ السودانِ لسنواتٍ قادمةٍ.