Post: #1
Title: عبقرية التناقض.. قراءة في نبوءات الدكتور النور حمد المتأخرة! كتبه عبدالغني بريش فيوف
Author: عبدالغني بريش فيوف
Date: 07-18-2025, 00:26 AM
00:26 AM July, 17 2025 سودانيز اون لاين عبدالغني بريش فيوف -USA مكتبتى رابط مختصر
يُتحفنا من حين لآخر، مُنظّرنا الكبير وفيلسوف زمانه، الدكتور النور حمد، بمقالات تُشبه إلى حد كبير نشرات الأرصاد الجوية التي تأتي بعد العاصفة، فهي تصف بدقة ما حدث بالفعل، ثم تتنبأ بحدوثه بثقةٍ يحسدها عليها العرّافون. في مقاله الأخير المعنون بـ(على أعتاب الحقبةِ الكارثيةِ للمليشيات)، يواصل الدكتور مسيرته التنويرية، كاشفا لنا عن حقائق صادمة، لم يكن ليدركها المواطن البسيط لولا بصيرة مثقفنا الثاقبة. لكن، قبل أن ننحني إجلالا لهذه العبقرية الفذة، دعونا نرتدي نظارات كشف التناقض، ونقلّب هذا المقال قطعة قطعة، لا لنبحث عن الحقيقة فحسب، بل لنستمتع بالبهلوانيات الفكرية التي يقدمها لنا الدكتور، وهو يقفز برشاقة بين المواقف، كأنه في سيرك سياسي لا ساحة فكرية. 1. اكتشاف أن الجيش ليس جيشا ..يا لها من مفاجأة! يقول الدكتور النور حمد.. لقد اتضح منذ الشهور الأولى من الحرب، أنه لا يوجد هناك جيشٌ يستحق اسمه وإنما رجال مال وأعمال يرفلون في البِزَّات العسكرية. يا إلهي، ويا له من كشف يهز أركان الدولة. بعد ثلاثين عاما من حكم الإنقاذ الذي تعايش معه الدكتور، بل وأشاد ببعض إنجازاته التنموية في كتاباته السابقة -وبعد سنوات من الشراكة بين هذا الجيش وقوى الثورة التي ينتمي إليها الدكتور نظريا، وبعد أن كان هذا الجيش، هو حامي حمى الفترة الانتقالية ..الآن فقط، في عام 2025، يكتشف فيلسوفنا أن الجيش ليس جيشا! هذا الاكتشاف يُشبه تماما، أن تكتشف فجأة بعد ثلاثين عاما من الزواج، أن شريك حياتك لديها شارب، تماما كشارب الرجال، إذ أين كانت هذه البصيرة النافذة للدكتور حمد، عندما كان هذا النادي الاجتماعي لرجال الأعمال، يمسك بخناق السلطة لعقود؟ هل كانت بزاتهم العسكرية أكثر إقناعا في الماضي، أم أن النياشين كانت تلمع بطريقة مختلفة حجبت عنكم الرؤية؟ الحقيقة التي يتجاهلها الدكتور بوجاهة، هي أن هذا الجيش الذي يصفه اليوم بمليشيا الكيزان، هو نفسه الجيش الذي كان جزءا من السلطة التي قبل بها، وتعامل معها، وصمت عن تجاوزاتها حين كان الصمت مصلحة. لكن عندما اختلفت المصالح، تحول الجيش فجأة في قاموس الدكتور من مؤسسة وطنية (ولو شكلا) إلى مجرد عصابة. هذا ليس تحليلا سياسيا، بل هو تصفية حسابات متأخرة جدا، مغلفة بلغة أكاديمية رصينة. ثم ينتقل الدكتور حمد، ليسخر من سيطرة الناجي مصطفى والناجي عبد الله على قرار الحرب، ويصف كيف يجلس الضباط أمامهما "منكسرين مطأطئي الرؤوس. لكن يا دكتور، هل تظن أننا نسينا أن هؤلاء الكيزان الذين تسخر منهم اليوم، هم أنفسهم من كان لهم مشروع حضاري تغنى به البعض، وتغاضى عن ديكتاتوريته البعض الآخر، طمعا في فتات سلطة أو منصب؟ أنت لا تنتقد ظاهرة جديدة، بل تنتقد نتيجة طبيعية لتزاوج السلطة العسكرية بالإيدولوجيا الإسلاموية، وهو تزاوج تم تحت سمع وبصر النخبة السودانية بأكملها، بما فيها حضرتك يا دكتور. ابتزاز حركات دارفور ..أو دموع التماسيح على الثورة المغدورة.. يقول الدكتور النور حمد، ان حركات دارفور تمارس ابتزازاً للبرهان، وقد أثبت جبريل ومناوي أنهما مجرد لوردات حرب، غدرا بالثورة التي جاءت بهما من البدو. هنا عزيزي القارئ، يصل بنا الدكتور إلى ذروة الدراما التراجيدية، فجبريل ومناوي، اللذان كانا بالأمس القريب مناضلين وشركاء سلام في اتفاقية جوبا التي هللت لها الدنيا بأسرها، أصبحا اليوم، لوردات حرب، يمارسان ابتزازا للدولة.. ويا سبحان مغير الأحوال والمواقف! دعونا نعيد شريط الذاكرة الذي يبدو أن الدكتور يعاني من خلل فيه: 1/ اتفاقية جوبا: من الذي فاوض هذه الحركات؟، أليست الحكومة الانتقالية التي كان المدنيون جزءا أصيلا منها؟ من الذي منحهم مناصب سيادية وزارية ومالية؟، ألم تكن تلك الثورة التي يتحدث عنها الدكتور؟ 2/ طبيعة الحركات: هل كان جبريل ومناوي يديران جمعيات خيرية قبل الحرب؟، أم أنهما كانا قادة حركات مسلحة منذ مطلع الألفية؟ ألم يأتوا إلى طاولة المفاوضات ببندقيتهم، وغادروها بالمنصب والبندقية؟، أم كنتم تتوقعون منهم أن يسلموا أسلحتهم ويذهبوا إلى بيوتهم؟ إن بكاء الدكتور على غدر جبريل ومناوي بالثورة، يشبه بكاء من أدخل ثعلبا إلى حظيرة الدجاج، ثم تفاجأ باختفاء الدجاج!. لقد كانت صفقة واضحة المعالم: السلطة والمال، مقابل التوقيع على السلام، والآن، عندما استخدموا نفس أدواتهم (القوة والابتزاز) لتعظيم مكاسبهم في حرب جديدة، يصرخ الدكتور -غدر وخيانة!. يا دكتور النور حمد، هؤلاء لم يغدروا بالثورة، بل كانوا أوفياء لمنطقهم الوحيد، منطق القوة والمصلحة. الغدر الحقيقي، هو غدر النخبة التي صورت للشعب أن مجرد توقيع على ورق في فندق فخم، يمكن أن يحول لورد الحرب إلى رجال دولة. مناوي الذي هرب من الفاشر -كما تقول، لم يهرب، بل ذهب حيث توجد كعكة السلطة الأكبر في بورتسودان، متبعا نفس المنطق الذي جاء به إلى الخرطوم أول مرة. إنه ببساطة، يمارس السياسة على طريقة البقاء للأقوى والأكثر دهاءا، وهي اللعبة التي كنتم تصفقون لها حين كانت تخدم أجندتكم. ثم يدهشنا الدكتور بتحليله الرقمي الدقيق، حين يقول إن قبيلة جبريل إبراهيم لا تشكل سوى 0.4% من سكان السودان، ويتعجب كيف يطمح لحكم البلاد!. يا دكتورنا العزيز، منذ متى كانت الديموغرافيا والتعداد السكاني معيارا للسلطة في السودان؟ هل كانت الإنقاذ تحكم بأغلبية ديموغرافية؟، هل البرهان يحكم لأنه يمثل الأغلبية؟ أنت نفسك، كجمهوري إسلامي، تنتمي إلى تيار فكري يمثل نسبة ضئيلة جدا من المجتمع، لكن هذا لم يمنعكم من محاولة التأثير وقيادة الفكر في البلاد. لقد أسقطت بنفسك أهم مبدأ في السياسة السودانية، وهو البندقية أهم من الصندوق، والصوت العالي أهم من عدد الأصوات. 3/ نبوءة حقبة المليشيات ..أو من حفر حفرة لأخيه وقع فيها.. يقول الدكتور النور حمد: يظن البرهان وكيزانه، أنهم الأكثر خبرة، فقد واصلوا بإسراف غير مسبوق في صناعة المليشيات، والآن توجد في أقاليم الشرق والوسط والشمال ..المليشيات التالية: يبدأ الدكتور في سرد قائمة المليشيات بفزع مصطنع، كأنه يكتشف للتو أن الدولة السودانية منذ عقود ليست إلا حاضنة مليشيات رسمية وغير رسمية، بدءاً من قوات الدفاع الشعبي، إلى حرس الحدود، إلى الجنجويد، ثم الدعم السريع، والآن الأورطة الشرقية ورفاقها. هذه ليست ظاهرة جديدة يا دكتور، بل هي تطور طبيعي لمرض قديم كنتم جزءا من الجسم الذي يحتضنه، فلماذا الكذب والتدليس؟ إن إسراف البرهان في صناعة المليشيات، ليس خطة عبقرية كما يصوره الدكتور، بل هو فعل اليائس الغريق الذي يتعلق بكل قشة. إنه يعالج النار بإلقاء المزيد من الوقود عليها، لكن المضحك المبكي هو أن الدكتور يقدم هذا التحليل وكأنه يكشف عن مؤامرة سرية، بينما هي النتيجة الحتمية لانهيار مشروع الدولة الذي شاركت فيه كل النخب، إما بالصمت أو بالتواطؤ أو بالمشاركة الفعلية. والأطرف من ذلك هو ذكره لتدريب الأورطة الشرقية في إريتريا.. هل اكتشفتم الآن فقط أن دول الجوار لديها أذرع ومصالح داخل السودان؟ أين كنتم عندما كانت مخابرات دول أخرى ترعى وتسلح وتدرب أطرافا مختلفة في دارفور والشرق وولخ؟ ويصل الدكتور النور حمد في التحليل إلى ذروة الكوميديا السوداء حين، يقول إن أخطر هذه المليشيات هي المشتركة (قوات جبريل ومناوي). لماذا هي الأخطر يا دكتور؟، هل لأنها تسيطر على المال، وهنا وبدون قصد، يفضح الدكتور النور حمد بنفسه جوهر المأساة السودانية كلها.. المعركة ليست على الهوية أو الدين أو المشروع الوطني، بل على الخزنة والمال. جبريل، الذي تربى في كنف الكيزان كما تذكرنا، تعلم الدرس جيدا، على ان، المال، يشتري السلاح، والسلاح يشتري السلطة، هو ليس استثناءا، بل هو التلميذ النجيب في مدرسة السياسة السودانية. 4/ الهجرة العكسية إلى الغرب ..أو عندما يكتب المثقف سيناريو فيلم خيال علمي يقول الدكتور النور حمد: عقب سقوط الفاشر وسقوط الأبيض، سيصبح مجمل الإقليم الغربي من السودان، الأكثر أمنا واستقرارا، وحينها سيبدأ موسم الهجرة إلى الغرب. وهنا نصل إلى خاتمة المقال، واللكمة القاضية التي تكشف عن انفصال تام عن الواقع، في لحظة تجل نبوية، يرى الدكتور النور حمد مستقبلا ورديا في الغرب السوداني الذي يكتوي بنار الحرب منذ أكثر من عشرين عاما! دعونا نتخيل المشهد السينمائي الذي يقترحه الدكتور: المواطن من مروي أو بورتسودان أو مدني، سيحزم حقائبه، ويودع النيل، ويقول لأسرته.. هيا بنا يا أولاد إلى أرض الأمن والأمان، هيا بنا إلى نيالا والفاشر!. سيهاجر الناس من المناطق التي لم تصلها الحرب (حتى الآن) إلى بؤرة الصراع المشتعلة، فقط لأن الدكتور حمد رسم لهم خريطة طوباوية في مقاله! هذه النبوءة ليست مجرد تحليل خاطئ، بل هي إهانة لذكاء القارئ ومعاناة أهل السودان في كل بقاعه. كيف يمكن لدارفور وكردفان، تحت سيطرة الدعم السريع (الذي لم يذكره الدكتور بالاسم في هذه الفقرة في مفارقة عجيبة)، أن تصبح فجأة سويسرا السودان؟ هل ستقوم قوات الدعم السريع، بعد أن دمرت مدنا بأكملها، بتوزيع الورود وبناء المنتجعات السياحية لاستقبال المهاجرين من الشمال والشرق؟ هذا التوقع الكارثي في تفاؤله يكشف عن أمرين: 1. رغبة دفينة في رؤية انهيار (المركز)، بأي شكل، لطالما انتقدته أدبيات معينة، حتى لو كان ذلك على حساب المنطق والواقع. 2. محاولة يائسة من دكتور بائس، لتقديم أي سردية بديلة، حتى لو كانت خيالية، للوضع القائم. إنها نبوءة لا تستند إلى تحليل، بل إلى أمنيات ورغبات أيديولوجية. في النهاية، مقال الدكتور النور حمد، ليس تحليلا سياسيا بقدر ما هو شهادة وفاة لدور المثقف الموضوعي في السودان. إنه مثال صارخ على المثقف الذي يركب الموجة، ويطلق النبوءات المتأخرة، ويمارس النقد الانتقائي، وينسى تاريخه ومواقفه السابقة ببراعة يحسد عليها. ينتقد المليشيات اليوم، بعد أن صمت عن جذورها لعقود. ينتقد الجيش اليوم، بعد أن تعايش معه وكان جزءا من منظومته. يبكي على الثورة المغدورة، بعد أن شارك في الصفقة التي قدمتها قربانا للوردات الحرب والبرهان. يتنبأ بمستقبل باهر لمناطق الصراع، في انفصال تام عن الجحيم الذي يعيشه أهلها. يا دكتور النور، المشكلة ليست في البرهان وكيزانه فقط، وليست في جبريل ومناوي فقط. المشكلة تكمن في الذاكرة المثقوبة والعقلية التبريرية للنخبة التي تنتمي إليها، النخبة التي تتنقل بين المواقف كما يتنقل المشاهد بين القنوات، تبحث دائما عن البطل والشرير في حكاية اليوم، متناسية أنها كانت بالأمس تصفق للشرير وتشكك في البطل. إن الحقبة الكارثية القادمة، إن حدثت، لن تكون من صنع المليشيات المسلحة وحدها، بل ستكون أيضا من صنع المليشيات الفكرية التي تطلق نيران الكلمات بلا ذاكرة ولا مسؤولية، وتترك المواطن السوداني وحيدا في مواجهة مصيره، يتساءل: من نصدق، ومن نتبع، وكيف ننجو من هذا الضجيج؟
|
|