معضلة التوزير في السودان-انهيار الدولة بين سطوة السلاح وخذلان النخبة#

معضلة التوزير في السودان-انهيار الدولة بين سطوة السلاح وخذلان النخبة#


07-17-2025, 04:26 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1752722784&rn=0


Post: #1
Title: معضلة التوزير في السودان-انهيار الدولة بين سطوة السلاح وخذلان النخبة#
Author: زهير ابو الزهراء
Date: 07-17-2025, 04:26 AM

04:26 AM July, 16 2025

سودانيز اون لاين
زهير ابو الزهراء-السودان
مكتبتى
رابط مختصر




في كتاب التاريخ السوداني، لطالما كانت الدولة مرآة لمأزق الإنسان السوداني، في بحثه الأبدي عن العدل والكرامة والهوية. وحين نكتب اليوم عن "الوزير"، لا نكتب عن وظيفة إدارية، بل عن تجلٍ لجوهر السلطة نفسها، وما إذا كانت تُدار بفكرة الدولة
أم تُنهش بعقلية الغنيمة.
كان عبد الخالق محجوب، في أحلك عصور الاستبداد، يدعو لأن تكون الدولة أداة في يد الجماهير، لا سوطًا عليهم، وكان يرى أن الإدارة هي فعل وعي، وأن من يتصدر لمواقعها بغير فهم يسهم في هدمها أكثر مما يبني. أما الصادق المهدي، فكان يؤمن أن السياسة أخلاق
وأن الوزارة تكليف لا تشريف، وأن غياب المشروع الوطني هو ما يُفسد التمثيل، ويحوّل التنوع إلى لعنة، والانتماء إلى فخ.
وحين نتأمل مشهد التوزير في السودان اليوم، نجد أنفسنا في قاع لا قرار له: تُوزّع الوزارات كما تُوزّع عطايا الملوك في البلاط، لا وفق معيار تخصص أو أهلية، بل على أساس ولاء قبلي، أو ضغط سلاح، أو محاصصة جهوية عمياء. ليس ثمة سؤال عن الكفاءة أو الرؤية
بل سؤال عن "من يملك القدرة على إفساد المعادلة إذا تم تجاهله؟"، وهذا، ببساطة، نفي كامل لمفهوم الدولة الحديثة.
لقد صرخ عبد الله علي إبراهيم مرارًا في وجه هذا الخراب، حين رأى أن أكبر مأساة في السياسة السودانية هي حين لا يعود أحد يميّز بين المشروع الوطني والتكتيك الحزبي، بين الدولة بوصفها فكرة كبرى، والسلطة بوصفها ساحة مناورة.
هذا هو المشهد اليوم: نُسمي حكومة "أمل"، وهي في جوهرها امتداد لتقاسم الخراب، تتصارع فيها جهات لا مشروع لها سوى البقاء، ومليشيات لا سلاح لها إلا السلاح، وكفاءات مهمّشة لا تجد منبرًا إلا في هوامش المقالات والندوات.
\ يُفرض على رئيس الوزراء أسماء لا يعرفها، تُمنح وزارات لجهات لم تُسهم إلا في تمزيق الجغرافيا ونسف الاجتماع الوطني. ويُدار الوطن، لا ككائن عضوي يحتاج إلى عناية دقيقة، بل كجثة تُقتسم على طاولة لا ضمير لها.

لقد نبّه عمر الدقير، مرارًا، إلى خطورة التواطؤ مع الرداءة، وإلى أن تبرير الخطأ السياسي باسم "الواقعية" هو أكبر خيانة لفكرة الإصلاح.
وحين كتبت رشا عوض عن المؤسسات، لم تكن تتحدث عن بيروقراطية عمياء، بل عن معنى العدالة حين تصبح الدولة مرئية، تحكمها قوانين لا الأهواء، ويتقدم صفوفها ذوو الكفاءة لا حَمَلة البندقية.

أما الوليد مادبو، فقد وضع إصبعه على الجرح حين فكك وهم "التمثيل الهوياتي"، مؤكداً أن لا نهضة تُبنى على تصنيف الناس، بل على تحرير الوعي، وإعادة تعريف الذات الوطنية بعيداً عن أنساق القبلية والطائفة، التي تختطف مؤسسات الدولة باسم تمثيلها.

وما يجري في مشهد التوزير اليوم ليس إلا تجليًا لانفجار الأسئلة التي طالما أُجلت، وتهربت النخب من مواجهتها: من يُدير هذا البلد؟ بأي عقل؟ لأي غاية؟ وكيف نُنهي سطوة الزيف المستمر باسم الشراكة أو السلام أو العدالة الانتقالية، وهي مفردات نُهكت حتى فقدت معناها؟

السودان لا ينهار فقط لأن سلاحًا رفع في الأطراف، بل لأنه في المركز يُكافأ حَمَلة السلاح بالوزارة، وتُجمد العقول في العراء، وتُستبعد النخبة القادرة لأنها بلا جهة تحميها. والمؤلم أن الثورة، التي كانت وعدًا بتحرير الفضاء العام، عادت بعد أعوام فقط لتشهد
عودة الوجوه ذاتها، والأمراض ذاتها، ولكن في لباس مختلف.
الدولة، كما فهمها ابن خلدون، تنهار حين يدخلها جيل الرفاه الفارغ، ثم جيل الهدم، حيث لا يُسأل عن "ما الصالح؟"، بل "ما المكسب؟". وما يجري في حكومة الأمل ليس إلا قمة جبل الجليد
حيث تقف الدولة على حافة الانتحار الذاتي، كما قال توينبي، لأن قواها الحية سُحقت تحت ثقل الانتماءات الزائفة، وسُلبت منها قدرة الاستجابة الخلاقة.

إن الأزمة ليست في أن الوزارات تُدار بغير أهلها، بل أن هذه الحقيقة أصبحت "مقبولة"، بل مبررة أحيانًا باسم "التوازن" أو "إسكات البندقية"، بينما الحقيقة أن كل وزارة تُمنح بلا استحقاق، هي رصاصة في جسد الدولة، وطلقة في صدر الثورة.

فما المخرج؟
ليس بالسلاح، ولا بالترضيات، بل باستعادة المعنى-- أن تكون الدولة فكرة، وأن تكون الوزارة وظيفة لخدمة الناس، لا مكافأة لخرابيها.
و الأن علينا نعيد الاعتبار للعقل، للتخصص، للضمير، وللجرأة في قول: كفى.

*فلن يُبنى السودان من خلال تسوية بين الحاكم والمليشيا، بل عبر مشروع بين الدولة والمجتمع، تقوده نخبة خلاقة، تُشبه هذا البلد في صبره، وعمقه، وتاريخه، وتطلعه إلى وطن لا يُدار بعقل الغنيمة، بل يُصان بعقل الأمة.