ارتباك النخب السودانية أمام الثورة: بين التغيير الشكلي ومطلب التأسيس الجذري كتبه خالد كودي

ارتباك النخب السودانية أمام الثورة: بين التغيير الشكلي ومطلب التأسيس الجذري كتبه خالد كودي


07-11-2025, 05:13 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1752207191&rn=0


Post: #1
Title: ارتباك النخب السودانية أمام الثورة: بين التغيير الشكلي ومطلب التأسيس الجذري كتبه خالد كودي
Author: خالد كودي
Date: 07-11-2025, 05:13 AM

05:13 AM July, 11 2025

سودانيز اون لاين
خالد كودي-USA
مكتبتى
رابط مختصر







10/7/2025 ، بوسطن

يتابع المراقب لتطور الأحداث السودانية خلال العقود الماضية كيف ظلّت النخب السياسية – سواء كانت إسلامية أو مدنية – تُغنّي بأمجاد انتفاضة أكتوبر 1964، ثم انتفاضة أبريل 1985، وصولاً إلى انتفاضة ديسمبر 2018. ورغم اختلاف السياقات وتبدّل الوجوه والخطابات، إلا أنّ قاسماً مشتركاً ظلّ يتكرر: توق النخب إلى تغيير محسوب، محدود، لا يتجاوز السقف الذي يضمن لها البقاء في مركز السلطة، من خلال حكومات انتقالية تُكرّس لمنطق الوراثة السياسية، وتُبقي على مراكز القوى وعلى بنية الدولة المركزية كما هي، تضمن التراتبية الاجتماعية، وتكرّس التفاوت في التعليم، والسلطة، والثروة.
هذه النخب كثيراً ما حاولت أن تُظهر نفسها بوصفها حاملة لمشروع الحداثة والتغيير، لكنها في واقع الأمر لم تكن سوى وكلاء للماضي، يسعون إلى تجميله، لا تجاوزه. إذ بقي مشروعهم السياسي محصوراً في حدود المركز، لا يشمل الهامش، وفي حدود التوافق مع القوى التقليدية، لا مجابهتها. وفي كثير من الأحيان، كان خطاب هذه النخب يتبنى مفردات الثورة، دون أن يتبنى منطقها الجذري. ولعل أبرز مظاهر هذا التناقض أن تلك النخب كانت تحتفل بالتغيير متى جاء على مقاس مصالحها، لكنها تتوجس من كل مطلب يعيد تعريف الدولة والمواطنة.
إن هذا التواطؤ الممنهج جعل من كل انتفاضة مجرد إعادة إنتاج للسلطة، وليس انتقالاً نوعياً في بنيتها أو وظيفتها. فكل انتفاضة كانت تنتهي إلى ترتيبات مرحلية، تُعيد تدوير النخب ذاتها، وتمنحها فرصة جديدة للظهور بمظهر المنقذ. ولكنها لم تضع أسساً جديدة لعقد اجتماعي يؤسس للمواطنة والمساواة والعدالة التاريخية، بل ظلت تُناور داخل بنية استبدادية موروثة، تراهن على الزمن أكثر مما تراهن على التحول.

الثورة التي أربكتهم:
ما حدث في ديسمبر 2018 لم يكن مجرّد تكرار لانتفاضات سابقة، بل شكّل انقطاعاً نوعياً مع ما قبلها. للمرة الأولى، جاءت الثورة من قاع الهامش، لا من نُخب المركز أو طبقاته الوسطى وحدها. لم تكتفِ بتغيير الرأس، بل طرحت سؤال الجذر: ما هي الدولة؟ ولمن؟ وعلى أي أسس؟ لم تكن شعاراتها مجرّد تكرار للمطالبة بالحريات التقليدية، بل امتد خطابها ليشمل مبادئ فوق دستورية غير قابلة للتفاوض، كالعلمانية، والمواطنة المتساوية، والعدالة التاريخية، واللامركزية، وحق تقرير المصير. هذا التصعيد النوعي في سقف المطالب أعاد تعريف مفهوم الثورة في المخيال السوداني: من إسقاط النظام إلى تأسيس وطن جديد
في مواجهة هذا التحول، لم تجد النخب القديمة مناصاً سوى مناورات سياسية غايتها احتواء هذه الموجة الجذرية. فتم اللجوء إلى اتفاق سلام جوبا، الذي مهّد لتحالفات محاصصة مع حركات كفاح مسلح ذات خطاب إصلاحي محدود، لفرملة مسار الثورة وإعادة هندسته ضمن حدود الممكن القديم. وهكذا أُنتج سلام يُقصي القضايا البنيوية، ويتجاوز المطالب التأسيسية، ويعيد السلطة إلى ذات الأيدي التي أسهمت في مراكمة التهميش والعنف.

مع استمرار الحراك الثوري واتساع رقعة الوعي السياسي، تقدّمت قوى الهامش بمطالب أكثر وضوحاً وجذرية، تتجاوز الخطابات الإصلاحية القديمة. في هذا السياق، بدأت ملامح الارتباك داخل بنية النخب التقليدية تتعمق، حيث صدرت عن شخصيات مثل خالد سلك وبابكر فيصل، وأيضاً من أمين حسن عمر، وعلي كرتي، الي جعفر حسن وغيرهم، تصريحات متناقضة ومضطربة، تراوحت بين إنكار المطالب التأسيسية بحجة عدم واقعيتها، واتهامها بالاستيراد والغربة عن الثقافة السودانية. في المقابل، اتخذت بعض التيارات مثل "تحالف صمود" موقفاً ملتبساً، يقوم على تبني خطابات مزدوجة تحاول التوفيق بين الخط الثوري والمهادنة السياسية، من خلال تجنّب استخدام مصطلحات حاسمة كـ"العلمانية" و"حق تقرير المصير"، بل وتجريم استخدامها بذريعة أنها تثير الحساسيات أو قد تُستخدم من قبل خصوم الثورة لتقويض مسارها
غير أن هذا الحذر لم يكن تعبيراً عن حكمة سياسية، بقدر ما كان تجلياً لبنية ذهنية مأزومة، غير قادرة على استيعاب التحول النوعي في وعي الجماهير، والذي تجاوز النقاشات القديمة حول الشكل، ليركّز على جوهر السلطة وعلاقتها بالمواطنة والعدالة. لقد ظلّت هذه النخب، يميناً ووسطاً ويساراً، حبيسة منطق الهيمنة المركزية، رافضة الاعتراف بأن الأزمة الحقيقية في السودان ليست أزمة حكومة، بل أزمة بنية كاملة أنتجت التهميش والتفاوت والتمييز لعقود طويلة. والميل إلى إعادة إنتاج منظومة الدولة دون المساس بجوهرها المركزي الإقصائي.

وقد زاد من تعقيد الموقف للنخب التقليدية، مدنية كانت أو إسلامية، التحوّل لقوات الدعم السريع، والتي كانت حتى الأمس القريب أداة من أدوات الجيش في قمع الهامش، إلى فاعل عسكري - سياسي يتحالف مع مشروع تأسيسي جذري. فخروج الدعم السريع عن طاعة القوى التي أنشأته، واصطفافه – ولو تدريجياً – مع تحالف سياسي ينادي بعلمانية الدولة والعدالة التاريخية وحق تقرير المصير، أربك معادلات النخب التي كانت تعتمد عليه ضمن ترتيبات التوازن القديم.
إن تحوّل أحد أذرع الدولة العسكرية القديمة إلى حليف في مشروع السودان الجديد، ليس دلالة على براءة تامة، بل هو تعبير عن اهتزاز مركز القوة لصالح وعي جديد، وتحوّل الجغرافيا السياسية للصراع من معادلة "الجيش في مواجهة الشعب" إلى صراع حول من يملك شرعية تمثيل الشعوب السودانية. هذا ما لم تفهمه النخب، ولم تتجاوب معه، بل قاومته عبر إنكار الواقع.
هذا الارتباك لم يكن مجرد تذبذب في المواقف، بل إفلاس بنيوي في التخيل السياسي وقراءة الواقع في المتحرك. إن النخب، بكل أطيافها، لم تكن قادرة على تخيل وطن لا تكون فيه في مركز الامتياز. ولم تستطع أن تتصور عقداً اجتماعياً جديداً تكون فيه الشعوب السودانية مصدراً للسلطة، لا الميراث، ولا النفوذ الجهوي او الاثني أو العقائدي.
إن الأزمة هنا ليست سياسية فقط، بل أخلاقية وفكرية. فقد رفضت هذه النخب الاعتراف بالظلم التاريخي الواقع على شعوب الهامش كما هو، وتجاهلت ديناميات التغيير الصاعدة من العمق السوداني، واختارت المراوغة والاحتيال على الاعتراف بالمطالب الواضحة التي عبّرت عنها قوى التغيير الثوري الحقيقي. والنتيجة أن الثورة واجهت – وما زالت – مقاومة مزدوجة: من بنية القمع، ومن بنية التواطؤ باسم التحضّر والاعتدال.
لقد كشفت الثورة السودانية بشكل ساطع أن النخب المهيمنة، بمختلف أيديولوجياتها، لا تزال سجينة مخاوفها القديمة: من الديمقراطية الجذرية، من الاعتراف بالتعدد القومي والديني والثقافي، من تقاسم السلطة والثروة، ومن تحويل الدولة إلى فضاء عام يخضع للرقابة والمساءلة. وتمظهرت هذه المخاوف في خطاباتهم، في تحالفاتهم، في محاولاتهم المستميتة لاستيعاب الثورة داخل قوالب فارغة من المضمون.
وهنا تتجلى الحقيقة الأعمق: أن هذه النخب لم تكن مستعدة، لا نفسياً ولا سياسياً، لمواجهة اللحظة التأسيسية. فالثورة لا تطلب منهم دوراً قيادياً فقط، بل تطلب منهم التنازل عن امتيازاتهم، عن رؤيتهم الحصرية للسودان، عن إيمانهم بأنهم أوصياء على مستقبل البلاد.

النخب الإسلامية وخطاب "الأصالة" المزيف:
يتذرع الإسلاميون بأن العلمانية فكرة دخيلة، ولا تليق بالسودان، لأنها مستوردة من الغرب. لكن هذا المنطق ينهار عند أول مساءلة فلسفية وتاريخية. إذا كان المعيار هو "الدخيل" و"الأصيل"، فإن الإسلام ذاته ديانة دخيلة على السودان. جاء من الجزيرة العربية، وانتشر عبر الغزو والتجارة والدعوة، ولم يكن من مكونات السودان الثقافية الأصلية. وحتى الإسلام السوداني كما نعرفه اليوم قد تَشكّل من خلال مؤسسات تعليمية وصوفية وافدة، ولا يمكن نسبه إلى أصالة محلية خالصة.
كما أن الفقه الإسلامي السني السائد اليوم لم يتطوّر في السودان، بل في بيئات مدينية في العراق والشام والحجاز. وإذا نظرنا للأفكار: فإن كل الأديان، بما فيها المسيحية، واليهودية، والإسلام، والفلسفات الكبرى كالماركسية، والليبرالية، والعلمانية، هي أفكار ونتاجات بشرية ظهرت في لحظات تاريخية معينة واستجابت لظروف اجتماعية واقتصادية محددة. ولا يمكن لأي مجتمع أن ينغلق على ذاته باسم الأصالة دون أن يتحول إلى كيان انعزالي، متخشب.
وقد قال المفكر الفرنسي إرنست رينان: "الدين الحقيقي هو ذاك الذي يحقق الكرامة الإنسانية". أما محمد أركون فقد حذر من تحويل الإسلام إلى هوية مغلقة تُقصي الآخر بدل أن تكون منظومة قيم. وقال عبد الله العروي في نقده لخطاب الأصالة: "الرجوع إلى الأصل وهم، لأن الأصل نفسه نتاج تفاعل مع الآخر". وتبنى اخرون أطروحاة مماثلة حين فرّقوا بين الروحانية الدينية والانغلاق السياسي باسم الدين.
الدين، إذًا، ليس حكراً على جهة جغرافية أو زمنية. والعبرة ليست بأصل الفكرة، بل بمآلاتها. فإن كانت العلمانية تضمن للمواطن السوداني المسلم والمسيحي والملحد، والأفريقي والنوبي والدارفوري والشرقاوي الحق في المواطنة المتساوية، فإنها أجدر بالقبول من أي فقه يكرّس الهيمنة. وهنا نعيد التذكير بما قاله المفكر الهندي أمارتيا سن: "الهوية الدينية لا يجب أن تكون سيفًا يُشهر ضد التعدد، بل وسيلة لتعزيز الكرامة الإنسانية ضمن نظام ديمقراطي". كما أكد فولتير على أن "حرية الدين تعني ألا يُجبر أحد على اعتناق ما لا يعتقده، ولا يُمنع من التعبير عن قناعته"
الإسلام السياسي في السودان استثمر الدين كأداة للشرعنة، لا كمنظومة أخلاقية. ولم يكن مشروعه يتجاوز الحفاظ على بنية الدولة القديمة باسم الإسلام. وهو ما يجعل من نقد هذا المشروع ضرورة سياسية، وأخلاقية، وتاريخية.

النخب المدنية: التواطؤ باسم "الواقعية"
أما النخب المدنية التي تدّعي معارضة الإسلاميين، فإنها في كثير من الأحيان تسعى إلى التغيير الذي لا يهدد امتيازاتها. ولهذا، فإنها ترفض تبني خطاب يؤسس لوطن جديد، وتخشى من المفردات الجذرية: من العلمانية إلى تقرير المصير إلى العدالة التاريخية. إن كثيرًا من تلك النخب لا ترى في الثورة فرصة للتحول، بل معركة أخرى لإعادة تموضعها داخل المشهد، بحيث تبقى ممسكة بخيوط اللعبة، فهي محتالة وتزيف الوعي.
إن الثورة، كما يقول كارل ماركس، لا تعني فقط تغيير السلطة، بل "تحطيم الآلة القديمة للدولة". ولذلك فإن ثورة الهامش ليست تمرينًا في التفاوض مع المركز، بل إعلان قطيعة معرفية وسياسية مع الدولة الاستعمارية والعسكرية التي تأسست منذ 1956. ولا يمكن لمن يعيش على امتيازات تلك الدولة أن يكون صادقًا في سعيه لتفكيكها.
وهنا تظهر مشكلة ما يسمى "الاعتدال/الحياد" عند النخب المدنية، وهو اعتدال وحياد انتهازي، يتجنب الصدام مع الإسلاميين، ويتبنى شعارات عامة حول التغيير دون مساس بجذور السلطة. لقد بات واضحًا أن هذه النخب تمارس نوعاً من النفاق السياسي، فهي تتحدث عن الثورة، لكنها تُمسك العصا من المنتصف عندما يتعلق الأمر بالعلمانية، وحقوق الهامش، وتقرير المصير، بل وحتى بالمحاسبة التاريخية الجنائية. وهذا ما يجعلها اليوم تقف في منطقة وسطى لا أرضية لها، تائهة بين شعارات التغيير ومصالح الواقع.
إن الصمت عن المطالب الثورية الجذرية ليس حكمة، بل تهرّب من المسؤولية التاريخية. وقد علّمنا التاريخ أن كل محاولة لإعادة بناء القديم، تؤدي إلى انفجار جديد. وهذا ما يجب أن تدركه هذه النخب قبل فوات الأوان.

العلمانية وشرط المواطنة:
العلمانية في السياق السوداني ليست ضد الدين، بل ضد توظيف الدين في السياسة. هي شرط أساسي لضمان المساواة في الحقوق، ورفع التمييز بين المواطنين على أساس الانتماء الديني أو الجهوي أو العرقي. يقول جون لوك: "لا يمكن للدولة أن تضمن حرية المواطنين إذا ما ارتبطت بدين واحد". وتؤكد تجارب جنوب أفريقيا والهند، وامريكا، وتركيا ولبنان...الخ... على أن التعدد لا يمكن إدارته دون علمانية حقيقية تحمي التنوع وتحترم اختلافات المجتمع.
إن التجربة السودانية مليئة بالأمثلة التي تُظهر كيف أن توظيف الدين في السياسة أدى إلى حرب أهلية، وإقصاء، وتمييز، بل وإبادة وانفصال. ومن ثم فإن العلمانية ليست مطلباً نخبوياً غير ناضج، بل هي ضرورة لضمان وحدة السودان على أسس جديدة. وقد شدد الكثير من المفكرين المسلمين على أن "الدين يجب أن يُترك للضمير، وأن السياسة شأن جماعي يُدار بالعقل لا بالعقيدة
كما أكد مفكرين مثل نصر حامد أبو زيد أن الحداثة الدينية لا تعني التخلي عن الإيمان، بل تعني إعادة ترتيب العلاقة بين الإيمان والسلطة. وبالتالي فإن العلمانية ليست ضد الإسلام، بل ضد استغلال الإسلام لتبرير السلطة.
العلمانية هي الشرط الأول لبناء دولة المواطنة، حيث لا يُعامل أحد على أساس ما يؤمن به، بل على أساس كونه إنسانًا مواطنًا. وهي ضرورة لتحقيق العدالة التاريخية والعدالة الانتقالية، لأنها وحدها تضمن محاسبة الجلاد بغض النظر عن خلفيته الدينية.

تحالف تأسيس: مشروع التغيير الجذري:
تحالف "تأسيس" يُمثّل اليوم الإطار السياسي الأكثر تماسكًا في طرح بديل حقيقي. إذ يدعو إلى:
- علمانية الدولة
- اللامركزية الحقيقية
- حق تقرير المصير للمناطق المهمشة
- الاعتراف بالعدالة التاريخية كمبدأ فوق دستوري
- إعادة هيكلة مؤسسات الدولة لتخدم الجميع
- دسترة مبدأ المواطنة المتساوية باعتباره المرجعية الوحيدة للحقوق والواجبات
- فتح المجال لتمثيل حقيقي للمجتمعات المحلية والمهمشة في صنع القرار
وقد نصّ الدستور الانتقالي لتحالف تأسيس (2025) على أن "المواطنة هي أساس الحقوق والواجبات، ولا يُسمح بقيام حزب أو حركة أو دستور على أساس ديني أو عرقي أو جهوي."
وفي ميثاق تأسيس الدولة السودانية الجديدة، اقر أن العقد الاجتماعي الجديد يجب أن يُبنى على الاعتراف الكامل بحقوق الشعوب السودانية كافة، بما في ذلك حق تقرير المصير كشكل من أشكال ممارسة السيادة الشعبية.
ويُعد هذا التحالف أول مشروع سياسي يضع فوق طاولة النقاش قضايا ظلّت تُعتبر من المحرّمات: الهوية، التهميش، العدالة التاريخية، والأسس الجديدة لبناء الدولة. وهو بذلك يطرح نفسه كرافعة لثورة حقيقية، لا مجرد تسوية انتقالية. كما أنه يقدم تصورًا متكاملًا لبنية الدولة، بما في ذلك آليات العدالة الانتقالية، ونزع السلاح، وإعادة دمج المجتمعات الخارجة من النزاع، في مقابل مشاريع مبهمة تنادي بعودة الدولة المركزية بصيغتها القديمة.

وفي الختام: لا ثورة بدون تأسيس:
الثورة السودانية اليوم أمام لحظة فارقة. لم تعد القضية قضية إسقاط نظام أو تغيير وجوه، بل قضية بناء وطن جديد على أسس جديدة. والمواجهة اليوم ليست فقط مع الإسلاميين، بل مع كل من يسعى لحماية امتيازاته عبر التمسك ببنية الدولة القديمة.
إن تأسيس وطن علماني ديمقراطي لامركزي، يضمن المساواة والعدالة التاريخية وحق الشعوب، ليس خيارًا فكريًا فحسب، بل ضرورة سياسية وأخلاقية واستراتيجية. وهذا يتطلب شجاعة في المواجهة، وجرأة في الطرح، والتزاماً لا مساومة فيه بقيم التأسيس الجديد.
وفي مواجهة هذا المشروع، تبدو النخب القديمة – بكل أطيافها – في حالة ارتباك، لأنها تعلم أن هذه الثورة لن تُبقي لهم موطئ قدم، ما لم يتحولوا إلى مواطنين في دولة مواطنة، لا أوصياء على مصير وطن. إنهم يدركون أن مشروع التأسيس لا يُبقي على الامتيازات الوراثية، بل يستبدلها بمبدأ الاستحقاق، ولا يحتكم للتاريخ بل للمستقبل.

"لا يمكننا بناء الجديد بأدوات القديم" – كما قال أنطونيو غرامشي. ولذلك فإن السودان لن يتقدم خطوة إلا إذا واجه نخبه ارتباكهم، وتخلّوا عن امتيازاتهم، وقبلوا بتأسيس حقيقي، لا انتقال مغشوش، والحديث الي صمود وغيرها من التكوينات المدنية والعسكرية بما فيها حركة تحرير السودان بقيادة الرفيق عبد الواحد محمد احمد النور.
عبّر إدوارد سعيد ذات مرة: "على المثقف أن يرفض السكون، وأن يصطف دوماً مع من لا صوت لهم". وهذا بالضبط ما تحتاجه الثورة السودانية: جبهة فكرية وسياسية ترفض التواطؤ، وتعلن بجرأة أن لا عودة للماضي، وأن التأسيس لا يُنجز إلا بالخروج على القوالب، لا بالبقاء داخلها. واللحظة الآن، بكل تناقضاتها، هي لحظة الفعل والتأسيس، لا التردد والانكماش. إنها لحظة الوعي الجذري، الذي يضع الوطن فوق الامتياز، والمستقبل فوق الماضي.

النضال مستمر والنصر اكيد.

(أدوات البحث والتحرير التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)