Post: #1
Title: هوج الرياح! كتبه احمد الملك
Author: أحمد الملك
Date: 07-04-2025, 02:26 PM
02:26 PM July, 04 2025 سودانيز اون لاين أحمد الملك-هولندا مكتبتى رابط مختصر
وحيدا حزينا أواجه عينيكِ إذ تسألان الفرح وإذ ترفعان إلى مقلتيّ حباب الشجى واخضرار القدح. صلاح عبد الصبور
النصف الثاني ثمانينات القرن المنصرم: آخر الأزمنة الجميلة: زمان الانتفاضة. لم يكن تتار العصر قد وصلوا بعد الى السلطة، لكنهم كانوا يتأهبون للانقضاض على النظام الديمقراطي الوليد. وكانت صحفهم تبشّر بقرب ظهور القوي الأمين الذي سيملأ الأرض عدلا وقسطا. صباح قائظ من صباحات زمان الانتفاضة، مشحون بغبار نوّار النيم والليمون، وغبار معلّق في الفضاء البعيد، ينبئ عن أول إشارات الخريف: كنت أعاني من نوبة فرح، صوّرت لي العالم مثل جنة أرضية لا مكان فيها الا للمحبة، لو أنّ حمارا نهق لملت طربا، ورغم ذلك شعرت بالشؤم حين سمعت صوت الزين المليء شجنا كأنه يتنبأ بالكارثة الوشيكة. وجدته (يترنّح) وهو يقطع الشارع الرئيسي في المدينة، كان ثملا كعادته، قلت محذّرا من العواقب الوخيمة لبهجته (الشوارعية) المعلنة: انت ناسي البلد فيها شريعة! أعلن: والله لو ربطوا لي الترابي قدام بيتي ما بقيف! سيعرف بعد أيام قليلة (بعد أن طارت السكرة، وجاءت الفكرة).. أنّ الترابي (إتربط) (قدّام) الوطن كله! كرّرت تحذيري: انت ناسي البلد فيها شريعة؟ ما خائف من الجلد! قال نفس العبارة التي سمعتها منه قبل سنوات: نحن في الرقيص قاعدين ننجلد! من كثرة ما تعرض للجلد أيام قوانين نميري السبتمبرية، أصبح قاضي الطوارئ صديقه، حذّره مرة بعد تنفيذ الجلد: انت زول طيب يا الزين، وكت تشرب اشرب في بيتكم، مافي داعي تشرب وتطلع الشارع! سَكَر دة ولا ثورة! أنا خايف مرة يجيبوك لي قاضي غيري يبهدلك! استغلّ الزين الصداقة، ورفع ما تبقى من الكُلفة، أعلن للقاضي مفرغا الصداقة الوليدة مع القاضي من مضمونها المصالحي: أنا اصلا داير اجيك كاتل الرقبة؟ ما اربعين سوط كان منك ولا من غيرك! كأنّه كان يعرف أنّ تلك كانت آخر مواسم الفرح، لم يكن مستعدا ولا حتى لإضاعة ثانية واحدة من زمن كان يمضي صوب المجهول، صوب زمان التمكين والنهب المصلّح، صوب العهد الذي بدأ بكذبة وتناسلت أكاذيبه حتى غطت سماء الوطن وشطرته الى نصفين، عهد لا يساوي فيه الانسان سوى طلقة رصاص يدفع ثمنها من عرقه ودمه! كأنه كان يشعر بدنو أجل زمان الفرح، لا وقت ولا حتى ليتوقف، ولا حتى ليستريح قليلا من عناء البهجة، الشارع الرئيسي ينتهي في نهر النيل، حين اعترضه النهر مضى فوق النهر كأنه يسير فوق الاسفلت، دون حتى ان تهتز شعرة من صوت غنائه: هات يا زمن.. جيب كل احزانك تعال.. جيب المحن. كان يتوقف عند كلمة تعال، يفرغ فيها كل مخزونه من الخوف: تعال... كأنه ينادي على شخص في الضفة الاخرى من الحياة. لحسن الحظ كان النهر العجوز في موسم التحاريق، يمضي في الرحلة الأبدية بطيئا حزينا دون هدف، كأنه يحاول الاختباء من عدو خفي يطارده، يشبه شخصا يسير اثناء نومه، كأنّه كان يرى (فيما يرى النائم) هوج الرياح التي كانت على وشك ان تكتسح الوطن كله. لحسن الحظ كان النهر يكاد يمضي تقريبا دون ماء في موسم تحاريقه، يستطيع طفل عبوره، دون أن يبتلّ وجهه، وليس سكيرا طويل الساقين له من على البعد هيئة طائر البلشون. سكرة لم يفق منها الا بعد أن (اتربط) الترابي (قدام) الوطن كله! كان يغني هوج الرياح، صوته كان خشنا ورمليا قليلا (كأنه ابتلع جدارا) ضمن ما تعاطى من مكروه عمدا! شعرت بحزن خارق، لم يكن يغني بصوته الجميل كعادته، كان يوّزع مخزون خوفه من الزمن الآتي على العالم! حتى صبية المدرسة توقفوا في صمت حين عبر بجانبهم، حتى طيور(القيردون) التي كانت تتقافز فوق رمال الشاطئ، وقفت في صفين طويلين مثل حرس الشرف، فيما عبر هو بينها ينثر في أحزانه الرملية في صمت الضحى، دون أن يكترث حتى للرحلة الطويلة التي قطعتها طيور القيردون المهاجرة بحثا عن مواسم الدفء والحَبْ والفرح! طول يا أسى وكتّر ينابيع الشجن! كأنّه كان يتنبأ بهوج الرياح التي كانت على وشك الهبوب، تجلب الأحزان والمحن، لتذر الوطن كله قاعا صفصفا، كل شيء فيه معروض للبيع السريع. شرح لي من داخل الاغنية، وكأنه يؤدي إحدى مقاطعها، حتى أنني لم أشعر بأنه خرج عن النص: منذ أيام لا أشعر برغبة الا في أداء هذه الأغنية! (جرعني كاس من لوعة من آلامي ما المحبوب خلاص خلاني ليك الليلة راح) لم أكن بحاجة لنبوءة مغني شارع، سكير، لأتبين نُذر الكارثة التي كانت تنسج في رحم الغيب، فالمؤامرة كانت معلنة في الصحف الصفراء وفي الشائعات التي تملأ المدينة. كأنني شعرت أنه لم يكن يغني، بل يتنبأ بالعاصفة الوشيكة، حاولت حمله على تجاوز مرحلة هوج الرياح، اقترحت عليه أغنية خفيفة، كنت أحب الاستماع اليها، كانت بإيقاعها السريع وعتاب كلماتها الطيّب، تصلح لوضع حواجز في الذاكرة حتى لا تختلط أزمنة الفرح والحزن، أغنية كانت تضع هديل الحمام حواجز في مواجهة هوج الرياح. يا الغاريك جمالك .. الزينا نحن ما بستاهل.. تغريه بدلالك! حاولت أن أفرض الأغنية لتطغى على بركان صوته، الذي يلوّن كل شيء حتى الذكريات برماد أحزانه: في دربك كم شقينا.. بدمع العين بكينا! لكنه كان يصر على السير في الدرب الموازي، الدرب الذي يكاد يضيع في متاهة كلمات لحنه الحزين: خلاني وحدي جناح كسير وانا والدموع والشكوى والليل والشجن رماني ليك راح يا زمن وخلى الشجن! وقفت أمام صفوف عصافير القيردون الحزينة أرقبه يعبر النهر، مع هوج رياحه، وكأنّ وصوله الى الضفة الاخرى كان ايذانا ببدء هبوب العاصفة، التي اقتلعت الأشجار ورمال الصحراء، العاصفة الهوجاء التي سُتفضي بوطننا الى تاريخ الشؤم: الثلاثين من يونيو العام 1989!
|
|