خزنة الذاكرة: من توريت إلى الجنينة… من جراح الدولة إلى جيل التأسيس كتبه د. أحمد التيجاني سيد أحمد

خزنة الذاكرة: من توريت إلى الجنينة… من جراح الدولة إلى جيل التأسيس كتبه د. أحمد التيجاني سيد أحمد


07-04-2025, 02:21 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1751635288&rn=0


Post: #1
Title: خزنة الذاكرة: من توريت إلى الجنينة… من جراح الدولة إلى جيل التأسيس كتبه د. أحمد التيجاني سيد أحمد
Author: احمد التيجاني سيد احمد
Date: 07-04-2025, 02:21 PM

02:21 PM July, 04 2025

سودانيز اون لاين
احمد التيجاني سيد احمد-ايطاليا
مكتبتى
رابط مختصر







مقدمة: من ينسى يُؤسّس للجريمة التالية
ليس في السودان نقص في الذاكرة، بل فائض. كل مدينة تحمل دمها في شوارعها، وكل أسرة تعرف شهيدًا أو مفقودًا أو مغتصبًا أو مَن لم يعد.
لكن الدولة، منذ استقلالها، لم تُبْنَ على التذكّر، بل على النسيان المتعمَّد.
من توريت إلى جودة، من بيوت الأشباح إلى القيادة العامة، ومن الجنينة إلى كجبار، كانت الجرائم تُرتكب، ثم تُطوى كما تُطوى أوراق المذكرات في أدراج الأجهزة.
في كل مرة، نغلق الباب قبل المحاسبة، وندخل في صفقة، أو انتخابات، أو مصالحة شكلية. لكن الذاكرة لا تنام.
تعود دائمًا، لا لتؤلمنا فقط، بل لتذكّرنا أن الدولة التي لا تحمي مواطنيها، لا تستحق البقاء.

1. توريت: ولادة مبكرة للحرب
في أغسطس 1955، وقبل أن يُعلن استقلال السودان بأشهر، صرخ جنود جنوبيون في توريت احتجاجًا على سياسات التمييز والتهميش، فواجههم الجيش بالسلاح.
قُتل الضباط الشماليون، وقُتل الجنوبيون، وقُمعت التمردات بوحشية، وأُغلقت الملفات باسم "الوحدة الوطنية".
لكن الحقيقة كانت أن الوطن أُسس منذ البداية على دم أهله. لم تكن توريت حادثة، بل نبوءة: أن الحرب آتية.
توريت ليست تمرّدًا، بل أول صرخة ضد دولة التمركز النيلي–العربي، وهي شهادة مبكرة على خيانة مشروع "الوطن الجامع".

2. جودة: حين خُنق الجنوب في زريبة
في 10 فبراير 1956، أضرب عمال جنوبيون في مشروع زراعي في قرية جودة مطالبين بتحسين أجورهم. قامت السلطات باعتقالهم وحشرهم في زريبة ضيقة بلا ماء ولا تهوية.
مات أكثر من 180 منهم اختناقًا. لم يُحاسب أحد، ولم يُعزِّهم أحد. قيل إنها "سوء تقدير أمني"، ثم سقطت في بئر الصمت.
كانت تلك أول مذبحة مؤسسية بعد الاستقلال — رسالة واضحة أن الجنوب لا يُعامل كمواطنين متساوين.

3. دولة الشفشفة: حين صار القمع نظامًا
في 1989، انقلبت الحركة الإسلامية على الديمقراطية، لكنها لم تُخضع فقط المؤسسات، بل أخضعت المعنى.
حوّلت الدولة إلى جهاز قمع باسم الدين. أنشأت بيوت الأشباح، شرّعت الشفشفة، نظّمت الجهاد، وأباحت الاغتصاب وبقر البطون في دارفور وجبال النوبة باسم الفتح.
تم تأسيس أجهزة أمنية موازية، واعتمدت سياسة السيطرة على الإعلام، الجامعات، العمل النقابي، والتعبئة الدينية.
أُنتجت النيقرز لترويع الشوارع، والرباطة لتخريب الجامعات، والأمن الشعبي للتجسس داخل البيوت.
حتى الموتى كانوا يُرهبون الأحياء بصمتهم المدفون.

4. ديسمبر: حين نطقت الذاكرة وخرجت إلى الشارع
في ديسمبر 2018، خرج أبناء الذين سُحِقوا، حاملين ذاكرة أمهاتهم، وصور الشهداء، وأناشيد مدارس لم تعد موجودة.
قالها أحدهم في بث حيّ: "الزيت! الزيت!"، ليُصبح رمزًا للثبات أمام الرصاص.
رفعت فتاة حذاءها وصرخت: "أنا كنداكة!"، فارتجّت الخرطوم. وأصبحت ساحة القيادة العامة أول "وطن" حقيقي.
في 3 يونيو 2019، تم فضّ الاعتصام بالرصاص والسواطير والاغتصاب. لم يُحاسب أحد، بل تمّت ترقية القتلة.
فُتح الباب مجددًا للدم.

5. الجنينة: سقوط الفكرة نفسها
في 2023–2024، قُتل الآلاف في الجنينة، ودُفن بعضهم جماعيًا، واغتُصبت النساء علنًا، وهُجّرت أسر إلى تشاد.
لم تكن حربًا بين جيشين، بل إبادة متعمدة ضد شعب بأكمله بسبب هويته.
الجنينة ليست مجزرة فقط، بل قبرٌ مفتوح لسؤال: من نحن؟ هل نُقيم الصلاة وننسى المقابر؟ هل نفاوض من يحرق المدارس ويغتصب النساء؟
إن ما جرى في الجنينة ليس مجرد مأساة، بل نداء أن السودان القديم مات، ولا مجال لإصلاحه، بل لا بد من تأسيس جديد.

6. تأسيس السودان الجديد: ليس شعارًا، بل ضرورة أخلاقية
لهذا، لا بد من القطع لا الإصلاح. من المجازر لا نخرج إلى الانتخابات، بل إلى العقد الجديد.
جيل تأسيس ليس طارئًا، بل استجابة روحية وتاريخية. جيل لا يبحث عن الكراسي، بل عن كرامة الإنسان.
جيل لا ينسى توريت، ولا يُسكت على جودة، ولا ينسى زيت القيادة، ولا يغفر للسكوت على الجنينة.
هو الضامن الحقيقي لئلا ندفن ذاكرتنا مرة أخرى.

خاتمة: لا يمكن أن يكون إلا في السودان… ولا يُكسر إلا من السودان
ما حدث لا يمكن أن يحدث إلا في السودان: أن تُقمع الثورات ثم تُستوعب رموزها، أن يُحاكم القتيل، ويُعفى عن القاتل.
لكن من السودان فقط يمكن أن يولد جيل لا يساوم على الدم، ولا ينسى الجرائم.
من توريت إلى الجنينة، سقطت الدولة، لكن لم تسقط الذاكرة.
ومن رحمها، ستقوم دولة أخرى… دولة يُبنى فيها الدستور من دم الشهداء لا من محاضر اللجان.


د. أحمد التيجاني سيد أحمد
عضو تحالف تأسيس السودان

٤ يوليو ٢٠٢٥ قرية نوكيا فنلندا