القادة الشجعان يصنعون التاريخ: او عندما يتحدث الكبار كتبه خالد كودي

القادة الشجعان يصنعون التاريخ: او عندما يتحدث الكبار كتبه خالد كودي


07-03-2025, 06:51 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1751565067&rn=0


Post: #1
Title: القادة الشجعان يصنعون التاريخ: او عندما يتحدث الكبار كتبه خالد كودي
Author: خالد كودي
Date: 07-03-2025, 06:51 PM

06:51 PM July, 03 2025

سودانيز اون لاين
خالد كودي-USA
مكتبتى
رابط مختصر




2/7/2025 ، بوسطن

في الثاني من يوليو 2025، صدر عن الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال، وعلى لسان رئيسها الرفيق عبد العزيز آدم الحلو، خطابٌ بالغ الأهمية، يُعد بكل المقاييس وثيقة سياسية في سياق التأسيس لمرحلة مفصلية في تاريخ السودان الحديث. لم يكن الخطاب مجرد إعلان موقف أو رد فعل آنٍ، بل كان بيانًا استراتيجيًا مشحونًا بوضوح نظري وشجاعة سياسية، يستند إلى قراءة نقدية واضحة لجذور المأزق السوداني منذ تشكّل الدولة الحديثة عقب الغزو التركي المصري في 1821، مرورًا بالاستعمار الإنجليزي المصري، ثم فشل الدولة الوطنية بعد الاستقلال في 1956، والتي أعادت إنتاج التهميش البنيوي والتمييز المنهجي في أبشع صوره.

هذا الخطاب جاء ليعلن – دون مواربة – أن السودان القديم قد بلغ نهايته التاريخية، وأن إعادة بناء الدولة لا يمكن أن تتم إلا عبر مشروع جذري جديد، يقوم على العلمانية، والديمقراطية، واللامركزية، والمواطنة المتساوية، والعدالة التاريخية. كما أكّد الحلو أن تحالف "تأسيس" ليس تحالفًا تكتيكيًا، بل هو تعاقد سياسي اجتماعي بين قوى المهمشين لصياغة عقد اجتماعي جديد، يعيد تعريف ماهية الدولة السودانية ومركزها ووظيفتها، ويؤسس لقطيعة معرفية وسياسية مع دولة الامتيازات القديمة التي احتكرتها نخب المركز لعقود طويلة.
وفي مواجهة المناورات السياسية الرامية إلى احتواء الحركة الشعبية عبر تعيين رموز من جبال النوبة في مواقع سيادية داخل النظام القائم، أو للنيل من قاعدتها الشعبية، شدّد الخطاب على أن الحركة لا تسعى إلى سلطة شكلية ولا إلى مناصب رمزية، بل تناضل من أجل تحرّر وطني شامل، يضمن لكل السودانيين، لا سيما المهمشين، كرامة العيش والمشاركة المتساوية في وطن موحّد طوعيًا، لا بالإكراه ولا بالابتزاز القومي أو الديني.
السودان اليوم يقف على حافة الانهيار الكامل. الدولة مفككة، والنظام الاجتماعي يتآكل، وأقاليم بأكملها تشتعل بالحرب والدمار والتشظي. لم تعد الحرب مجرّد أزمة أمنية، بل باتت التعبير العنيف عن عطبٍ هيكلي عميق في طبيعة الدولة السودانية نفسها: في هويتها، وعلاقتها بمواطنيها، وشكل الحكم وتوزيع الموارد والسلطة. أمام هذا المشهد المنهار، فإن التاريخ لا يرحم الانتظار ولا يُكافئ الحذر. المرحلة تتطلب قيادة تملك الجرأة الفكرية، وتنظيمات تحمل مشروعًا، وجماهير تمتلك وعيًا يتجاوز الولاءات الضيقة إلى أفق وطني عادل ومتكافئ.

وسط هذا الركام، تبرز رسالة الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال وتحالف "تأسيس"، ليس بوصفها طرحًا سياسياً تقليديًا، بل كمشروع تحوّلي ثوري، يعيد سؤال الدولة إلى منصة التأسيس لا الترميم، وينطلق من قناعات راسخة بأن السودان لا يمكن أن يستمر إلّا إذا أُعيد بناؤه على أسس جديدة تعترف بالتعدد، وتؤمن بالعلمانية، وتقرّ باللامركزية، وتتبنّى العدالة التاريخية منهجًا لإنصاف المظلومين.
إنها لحظة استثنائية في التاريخ السياسي السوداني، تتقدّم فيها قوى الهامش لا لتلتمس الشرعية من الخرطوم، بل لتصوغ ، لأول مرة أجندة التغيير من خارجها. هذا هو السودان الجديد، ليس شعاراً، بل مشروعًا سياسيًا أخلاقيًا، يُعيد تعريف الوطن، ويمنح كل السودانيين – لا بعضهم – حق الانتماء الكامل، وكرامة المواطن المتساوي.

أولًا: التاريخ لا يُبنى بالخوف... بل بالشجاعة:
تاريخ الشعوب الحية يُصنع عندما يتقدم القادة الكبار نحو أعدائهم السابقين، ليس طلبًا للغفران، بل لصناعة المستقبل. وقد علمتنا التجارب الكبرى أن السلام لا يصنعه المرجفون، ولا العدالة يجلبها الجبناء. ففي لحظات التحول، لا بد من قرارات كبرى تجرح المُخيّلة القديمة، وتصطدم بالتقاليد المتكلسة.

مانديلا: عندما اختار أن يتسامى لا أن يتكلس ويتقوقع لينتقم:
في جنوب إفريقيا، كان نلسون مانديلا قد قضى 27 عامًا في السجن، عانى فيها من الإذلال والعزل، على يد نظام الفصل العنصري. وعندما خرج، لم يسع إلى الثأر، بل إلى بناء وطن يتسع للجميع. واجه انتقادات لاذعة من بعض قوى التحرر، ومن داخل المؤتمر الوطني الإفريقي، وُصِمَ بالتساهل، بل وُنعِتَ بالضعف، والتفريط في القضية لكنه كان مدفوعًا برؤية استراتيجية، تدرك أن مصير البلاد أهم من غضب اللحظة. واليوم، ورغم كل التحديات، فإن تجربة جنوب إفريقيا لا تزال نموذجًا لانتقال سياسي جريء تحقق عبر القيادة الشجاعة لا الخطابات الراديكالية الفارغة الصادرة عن من لاحول ولاقوة لهم وأصحاب التاريخ الموثق من العجز والفشل.

: غاندي: اللا عنف في وجه العنف الإمبراطوري
في الهند، واجه المهاتما غاندي إمبراطورية لا تعرف الرحمة، وقاد شعبه نحو التحرر عبر فلسفة اللاعنف. اتُّهِمَ بالسذاجة، وسُخِرَ منه من قبل متطرفي الطرفين، لكنه أدرك أن التغيير الحقيقي لا يكون بردّ الفعل، بل بالفعل التاريخي المبدع. فحرية الهند لم تكن فقط نهاية حقبة استعمار، بل تأسيس لهوية وطنية على مبدأ الكرامة الإنسانية والاختلاف المنفتح.

الآباء المؤسسون في أمريكا: البناء رغم الانقسام:
في التاريخ السياسي للولايات المتحدة، شكّلت لحظة التأسيس بين عامي 1776 و1789 نموذجاً فريداً في تجاوز الخلافات الداخلية والتناقضات الإيديولوجية من أجل بناء دولة حديثة. الآباء المؤسسون – من أمثال جورج واشنطن، ألكسندر هاملتون، توماس جيفرسون، وجيمس ماديسون – لم يكونوا على اتفاق تام، بل انقسموا بشدة حول قضايا محورية مثل مركزية الحكومة، العلاقة بين الكنيسة والدولة، والعبودية، ونطاق الحريات المدنية.
على سبيل المثال، واجه الدستور الأميركي ذاته، الذي أُقرّ عام 1787 في مؤتمر فيلادلفيا، معارضة شديدة من قبل من عُرفوا بـ"مناهضي الفدرالية"
(Anti-Federalists)
الذين اعتبروا أن الدستور يمنح الحكومة الفدرالية صلاحيات واسعة على حساب الولايات، ويهدد حقوق الأفراد. وقد أدّى هذا الاعتراض إلى تضمين وثيقة الحقوق
Bill of Rights)
عام 1791، والتي ضمنت حرية الدين، وحرية التعبير، وحق التجمّع، وفصل السلطات، وهي اليوم من أعمدة الشرعية الدستورية في العالم.
كما أن شخصية مثل ألكسندر هاملتون – المهندس الاقتصادي والسياسي لرؤية الدولة المركزية، واجه اتهامات بالخيانة واحتُقر علنًا بسبب مواقفه، بينما توماس جيفرسون اتُهم بإضعاف الدولة حين دعا إلى الحكم المحلي اللامركزي ورفضه الدائم لتسلط الحكومة المركزية. ورغم التناقضات، اجتمع الجميع على "وثيقة العقد الاجتماعي"، ووافقوا على دولة مدنية علمانية (رغم تحفظاتهم)، ذات بنية فدرالية، لا تحتكر السلطة، بل توازنها، وتقرّ بالحريات المدنية والدينية.
هذه المبادئ، حكم القانون، التعددية، الفصل بين السلطات، اللامركزية، الحرية الدينية، ليست مجرد معالم تاريخية في التجربة الأميركية "التاسيسية" ، بل تمثّل البنية العميقة التي سمحت لأميركا أن تتطور إلى قوة عظمى، رغم التناقضات، والحروب الأهلية، والتمييز العنصري، والعبودية...
وما يطرحه اليوم "ميثاق تأسيس" ودستور السودان الانتقالي لعام 2025 من أسس فوق دستورية، لا سيما مبادئ العلمانية، والمواطنة المتساوية، والديمقراطية التعددية، واللامركزية العادلة، وحق تقرير المصير، إنما يتقاطع موضوعياً مع تلك اللحظة التأسيسية التي تجاوزت الانقسامات الحادة في الولايات المتحدة لصياغة وطن قائم على التوازن والاعتراف بالاختلاف.
إن التاريخ يعلمنا أن كل مشروع وطني كبير يواجه الرفض من حراس البنية القديمة، لكن صلابته تكمن في قدرته على الصمود، وفي استعداده لتقديم رؤية تتجاوز اللحظة الآنية نحو مستقبل تُبنى فيه الدولة لا على الولاءات والهويات القاتلة، بل على القيم الدستورية المشتركة.

ثانيًا: مشروع السودان الجديد: القطيعة كفعل تحرر وطني:
مشروع السودان الجديد، كما طرحته الحركة الشعبية لتحرير السودان منذ 1983، هو المشروع الوحيد الذي يعالج جذور الأزمة السودانية. فهو لا يسعى إلى "إصلاح النظام"، بل إلى إعادة تأسيس الدولة على أساس المواطنة المتساوية، لا على هوية ثقافية أو دينية مفروضة. يقوم على أربعة أعمدة مركزية:
العلمانية: لفصل الدين عن الدولة، وضمان المساواة بين المواطنين مهما اختلفت معتقداتهم.
الديمقراطية: لتوسيع المشاركة، ومحاسبة السلطة.
اللامركزية: لإنهاء احتكار المركز للثروة والقرار.
العدالة التاريخية: لإعادة الاعتبار للمهمشين، وجبر الضرر، وتفكيك الامتيازات البنيوية.
وهذه هي المرة الأولى التي تتجاوز فيها المجتمعات المهمشة المركز، لا لتلتحق به، بل لتصوغ مشروع الدولة من موقع المبادرة. هذا هو جوهر التحول التاريخي الذي يجب دعمه بلا تردد.

ثالثًا: من يعارض "تأسيس"؟ نخبة الفشل التي أوصلتنا للخراب:
من يعارض "تأسيس" اليوم ليسوا أصحاب مشاريع بديلة، بل نخبة العجز والفشل، أولئك الذين أعادوا تدوير الأوهام، وارتبطوا بالسلطة الفاسدة ومشروعها بدرجات متفاوتة، أو مارسوا النقاء الثوري المزيف. بعضهم يتوهم بسجن الحركة الشعبية في قفص جغرافي أو إثني، بينما هي تتقدم اليوم نحو المجتمعات التي كانت بالأمس على ضفة الصراع. إن هذا التقدم ليس ضعفًا، بل ذروة في الشجاعة السياسية الاستراتيجية، ورؤية لتفكيك تابوهات الحرب والانقسام.
ما تسعى له الحركة اليوم هو بناء تحالفات تستند على مبدأ المواطنة كما ورد في المبادئ فوق الدستورية. فكل من يقبل بهذا المبدأ هو شريك محتمل، وكل من يرفضه، مهما كانت شعاراته، لا يُعَوَّل عليه.

رابعًا: من الهامش إلى القيادة – الانقلاب الجغرافي على الدولة العتيقة:
إن ما يحدث اليوم في السودان ليس مجرد إعادة توزيع للسلطة او دعوة للعودة الي مسار ثورة ديسمبر، بل انقلاب جذري في الجغرافيا السياسية. لأول مرة منذ نشأة الدولة السودانية، لا تُفرض تصورات السلطة والدولة من المكاتب الباردة في الخرطوم، ولا من نخب المركز المتعالية التي اعتادت احتكار تعريف "الوطن" و"المصلحة القومية"، بل تُصاغ هذه التصورات من قلب الهامش، من جبال النوبة والفونج ودارفور، ومايسمي بالاحزمة السوداء ومن تجارب المعاناة والمقاومة التي نزفت لعقود دون أن يُصغى لها.
هذا هو التحوُّل الثوري الحقيقي: أن يُعاد تعريف المركز نفسه من خلال الأطراف التي طالما حوصرت في هامش النسيان. لم تعد هذه المناطق "تطلب" الاعتراف أو "تتسوّل" الإنصاف، بل باتت تمتلك القوة والجرأة الفكرية والسياسية لتكتب ميثاق السودان الجديد، وتؤسّس لرؤية جامعة تنطلق من العدالة التاريخية، لا من صفقات الخرطوم المعهودة.

أما الذين يُشوشون على هذا التحول تحت غطاء "التحالف مع الدعم السريع الذي اجرم" أو "الحرص على الوطن، وهيبة الدولة"، فهم إما مُنهارون أمام فقدان امتيازاتهم التاريخية، أو عاجزون عن رؤية السودان خارج مركزهم الضيق، أو ببساطة لا يملكون مشروعًا سوى الوقوف على الأطلال والنبش في النيات – وعدم القدرة علي تخيل وطن يشمل الجميع.

الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال، بتحالفها مع القوى المنضوية في "تأسيس"، لا تقدم شعارات عاطفية أو تكتيكات انتخابية رخيصة، بل تطرح مشروعًا تحويليًا متكاملًا لإعادة تأسيس الدولة، مشروعًا ينطلق من مبدأ أن السودان لا يُبنى بالمواءمات، بل بإعادة تعريف جذري للعقد الاجتماعي، على أساس العلمانية، والعدالة، واللامركزية، والمواطنة المتساوية
وليعلم من يهاجم هذا التحالف التاريخي، أن ما يُبنى اليوم سيكون الأساس الذي ينهض عليه وطن يسعهم، حتى لو لم يشاركوا في صناعته. وسينتفض من بينهم من ينتقدون اليوم، لا لأنهم رأوا الحقيقة، بل لأنهم أدركوا متأخرين أنهم لم يملكوا يومًا ما يتجاوز النقد الكسول.

السلام لا يبنيه المرجفون، والمواطنة لا يضمنها العاجزون، والتاريخ لا يصنعه المترددون.
إنها المرة الأولى التي يتقدم فيها الهامش ليقود، ويجب ألا تكون الأخيرة.

خاتمة: الشجاعة شرط البناء، والمستقبل لا يُنتظر:
تعيين شخصيات من جبال النوبة في مواقع صورية، لا يعني اعترافًا بالمهمشين، بل محاولة ماكرة لخلخلة الحواضن الثورية. والحركة الشعبية بفهمها لهذه المناورات، وبمواقفها المبدئية، تُثبت أنها ليست في معركة سلطة، بل في مسار تحرر وطني شامل.
ما نحتاجه اليوم هو شجاعة المبادرة، شجاعة القرار، شجاعة الإيمان بأن السودان يمكن أن يكون وطنًا للجميع. لا خيار سوى بناء وطن علماني ديمقراطي لا مركزي موحد، يقوم على العدالة التاريخية، ويحفظ كرامة كل السودانيين.
إننا نُراهن على الوعي الشعبي، على أجيال تحلم بسودان جديد، لا يُبنى بالكراهية أو الخوف، بل بالحرية والعدالة والكرامة.

النضال مستمر والنصر اكيد.

(أدوات البحث التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)