في خضم جدل التشكيل الوزاري لحكومة الدكتور كامل إدريس، طفحت على السطح موجة من الاستياء والمغاضبة من بعض الحركات المسلحة، لا سيما حركات دارفور التي ظلت حاضرة في مسرح الانتقال السياسي منذ توقيع اتفاق جوبا. ومن المهم أن نقف عند هذه اللحظة بكثير من التعقّل، فالسودان، الذي لم يضمد بعد جراحه المفتوحة، لا يحتمل شروخا جديدة في لحمه الوطني.
من الطبيعي أن تُثار الهواجس عند الحديث عن دور الحركات المسلحة في المشهد السياسي، خاصة حين تستبقي هذه الحركات سلاحها خارج إطار القوات المسلحة الرسمية. وليس في ذلك تنكّر لتضحياتها، بل محاولة لفهم مشروع من قِبل قطاعات واسعة من الشعب، ترى في مستقبل السلاح غير المنضبط تهديدا كامنا. فالتجربة الدامية لمليشيا الدعم السريع لا تزال ماثلة أمام الأعين، وقد صارت مرآة تحذّر من مغبّة تكرار الخطأ ذاته، وإن اختلفت اليافطات.
ليس خافيا أن هناك توجسا شعبيا من أي كيان مسلح خارج منظومة الجيش، لا لأن الشعب نسي مظالم الماضي، بل لأن تجارب الحاضر أشد وطأة من كل ذاكرة. لقد رأينا كيف حوّلت مليشيا الدعم السريع الخرطوم إلى ركام، وبلاد النيلين إلى نشرة أحزان. فهل من العدل أن يُطلب من الناس ألّا يرتابوا، وأن يفتحوا قلوبهم لكل بندقية “تقول” إنها وطنية؟ التوجّس إذًا ليس تجنّيا، بل حصيلة خذلان طويل. والمؤسف أن بعض قيادات الحركات لم تلتقط هذه الإشارة، فسارعت إلى إطلاق اتهامات تزيد حالة التوتر، وكأننا عدنا إلى مربّع الصفر. إن من حمل السلاح يوما لأجل الحقوق، يجدر به ألّا يسقط في فخ المزايدات حين يضع السلاح، فالوطن ليس مزادا سياسيا.
لقد كان لانخراط بعض حركات دارفور في القتال إلى جانب القوات المسلحة والمستنفرين ضد مليشيا الدعم السريع أثر بالغ في تعزيز الثقة، وفتح نافذة للأمل. هذه المشاركة لم تكن عسكرية فقط، بل وطنية بامتياز. فلأول مرة، نجد هذه القوى، التي كانت في يوم ما على الطرف الآخر من المواجهة، تقف اليوم دفاعا عن الدولة ذاتها التي كانت تطالب بإصلاحها، لتؤكد أن الخندق الوطني أوسع من الانتماءات الجهوية أو المظالم التاريخية. وهي لحظة ثمينة لا ينبغي التفريط في رمزيتها، كما لا يصح اختزالها في مقاعد وزارية أو مطالب مرحلية. فحين يُرفع السلاح لأجل الوطن، لا ينبغي أن يُوظف لاحقًا كورقة ضغط في دهاليز السياسة. فالدولة لا تُبنى بمنطق الغنائم، بل بمنطق المؤسسات.
بذات روحهم الوطنية التي لمسناها منهم نخاطب أخوتنا في حركات دارفور، بأننا نعلم أنكم دفعتم أثمانا باهظة، ولكن تذكّروا أن الكرسي ليس كل شيء. وأن الوطن، حين يسقط، لا تنفع فيه لا وزارة ولا سلطة. من أراد أن يكون جزءًا من المستقبل، فليتحلَّ بالحكمة لا بالغضب، وبالمرونة لا بالعناد. فالذي يقاتل من أجل الكرسي فقط، لا يلبث أن يكتشف أنه يجلس على ركام وطن لا يُسند حتى ذاته. السلاح الذي وُجِّه ضد المليشيا، لا ينبغي أن يُعاد توجيهه ضد الدولة، ولو بالكلمات. والمشاركة الحقيقية ليست ما يُعلن في المؤتمرات، بل ما يُبنى في صمت، داخل مؤسسات الدولة التي نرجو أن تعود قوية، عاقلة، وعادلة.
إن الحل الناجع لاشكالية اتفاق جوبا يتمثل في المضي قدمًا بتنفيذ عملية دمج قوات الحركات الموقعة ضمن القوات النظامية. لقد أدى تأخر هذه الخطوة، نتيجة لتراكم الأحداث وتعقيداتها، إلى إبطاء مسار تنفيذ الاتفاق، وخلق حالة من السيولة العسكرية والسياسية. وللتذكير، فإن اتفاق جوبا، الموقع في 3 أكتوبر 2020، نص بوضوح على دمج قوات الحركات المسلحة ضمن المؤسسات الأمنية والعسكرية الوطنية، وفق جدول زمني محدد: بدء الدمج في دارفور خلال 90 يوما، مع بقاء القوات المدمجة في الإقليم 40 شهرا؛ وتنفيذ الدمج الكامل في المنطقتين (النيل الأزرق وجنوب كردفان) خلال 39 شهرًا؛ مع تفاهمات خاصة لبعض الفصائل تتيح فترة أقصر.
اليوم، ومع اندلاع الحرب ضد مليشيا الدعم السريع، ومشاركة الحركات المسلحة فيها، بل وأداؤها الجيد في ميادين القتال، فإن تنفيذ عملية الدمج قد يكون أكثر سلاسة مما كان عليه الوضع قبل هذه التطورات. ومن هذا المنطلق، فإن الحديث عن اتفاق جوبا يجب أن يظل منحصراً في دائرة الالتزام والتطبيق، لا التلويح أو التهديد. الاتفاق ليس مجرد وثيقة سياسية، بل خارطة طريق ذات توقيت محدد، تفضي – إذا ما تم تنفيذها كما ينبغي – إلى فتح صفحة جديدة في تاريخ السودان، تُنهي عقودا من الحروب وعدم الاستقرار، وتضع البلاد على عتبة مرحلة سياسية أكثر تماسكا وسلاما.
ولا يُخفى أن بعض الكُتّاب والمحللين، في حمى التوجس، قد وقعوا في فخ إسقاطات غير منصفة، وارتابوا من كل تحرّك لحركات دارفور، ولو كان في صالح الوطن. لكن في المقابل، وقعت بعض قيادات الحركات في فخ التسرّع، وانزلقت إلى لغة التخوين والاتهام، متناسيةً أن الظرف لا يسمح بالمهاترات، وأن ما يُكسب في السياسة بالعقل والاتزان، قد يُفقد في لحظة انفعال عابر. إن الحركات المسلحة، وقد اختارت أن تكون جزءا من عملية بناء الدولة، مطالبة اليوم بالتحلّي بنَفَسٍ سياسي طويل، يليق بمرحلة التأسيس. فلا يصح أن يُختزل مشروعها في وزارات، ولا أن يتحول الاستحقاق الوطني إلى بازار للمساومات.
أما رئيس الوزراء الدكتور كامل إدريس، فعليه أن يوازن بين حقه المشروع في تشكيل فريقه الحكومي، وبين ضرورات الواقع السياسي الذي لا يُدار بالأمنيات، بل بالتشاور والتوافق، خصوصا في هذه المرحلة الدقيقة من عمر الدولة. فليس المطلوب منه أن يُسلّم قراره لأحد، بل أن يُشرك من يلزم إشراكه، بقدر ما يتطلبه العبور الآمن نحو الاستقرار. وبين حرية رئيس الوزراء في اختيار طاقمه، وحساسية المشهد المتشظي، يمكن لحكومته أن تعبر الأمواج العاتية، لتبلغ برّ الأمان الذي ينشده الشعب السوداني، ويتلمّس ملامحه في خطاب الأمل الذي أعلنه إدريس، ونرجو ألا يُبدده سوء التقدير أو ضعف التنسيق.
وقبل أن نختم، لا بد أن نخصّ الأقلام المؤثرة بكلمة. إن الكلمة في هذا الزمن الفاجر أشدّ فتكا من الرصاص، ومن يكتب الآن لا يكتب مجرد رأي، بل قد يشعل فتنة أو يُخمدها. فليتّقِ الله أولئك الذين يتصيّدون الهفوات، ويؤجّجون الخلافات، وكأنهم وكلاء لشيطان الخراب. ليس المطلوب التطبيل، بل التبصير. وليس المطلوب الاصطفاف، بل الإنصاف. والوطن في لحظته الراهنة لا يحتاج إلى مزيد من البنزين، بل إلى عقلاء يرمّمون جدرانه قبل أن يسقط على رؤوس الجميع.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة