Post: #1
Title: عبيد الجلابة وعبيد آل دقلو.. الصراع النوبي في دوامة الحرب وعبودية الانتماء كتبه عبدالغني بريش فيوف
Author: عبدالغني بريش فيوف
Date: 06-22-2025, 06:52 PM
06:52 PM June, 22 2025 سودانيز اون لاين عبدالغني بريش فيوف -USA مكتبتى رابط مختصر
في قلب السودان المليء بالتناقضات، حيث تتشابك خيوط التاريخ والسياسة والحروب، يعيش أبناء النوبة مأساة ليست من نوع المآسي التقليدية التي تُروى أو تُكتب. مأساة لا تتجلى فقط في المعارك والساحات، بل في أكثر من ذلك، في انقساماتهم الداخلية، في صراعاتهم التي تشبه صراعات الأطفال على لعبتهم المكسورة، في التشاتم والسخرية التي لا تهدأ. يتشاجرون، يتناحرون، يتبادلون الشتائم كما لو أن كل طرف يمتلك مفتاح الخلاص والمجد، بينما الحقيقة المحرجة، هي أن العبد عبد، ولو طالت عمامته، والكلب كلب، ولو خف نباحه. كلاهما أسرى نظام أكبر، عالقون في دوامة الولاءات التي لم تصنع لهم، لكنهم اختاروا الانغماس فيها بكل حماسة. يتنافسون على لقب المخلص، وكأنهم لا يدركون أن ما يجمعهم أكثر بكثير مما يفرقهم، لأنهم، في جوهر الأمر، عبيد مكررين، عبيد الانتماءات السياسية، عبيد المصالح، وعبيد حكايات القادة التي تحولت إلى أصفاد تكبلهم أكثر مما تحررهم. الأمر الساخر والمُبكي حقا في نفس الوقت، أن كثيراً منهم، يحاول أن يلبس عبوديته رداء الحرية، ويتحدث عن الاستقلالية والكرامة، بينما هم أسيرون في أقبية الجهل السياسي والحسابات الضيقة، ويزيد الطين بلة أن كل طرف يحاول أن يثبت تفوقه الأخلاقي والسياسي بإهانة الآخر، متناسيا أن كلاهما في نفس الزورق الغارق. نحن، نتحدث هنا عن انقسام أبناء النوبة، بين من يعتنقون الولاء للجلابة، أي السلطة المركزية، ومن يقفون إلى جانب آل دقلو. هذا الانقسام ليس مجرد صراع على السلطة، بل هو انشطار عميق في الهوية والتاريخ، جعل من النوبة ساحة لتجاذبات سياسية وميدانية لا فائدة لهم فيها. هكذا نرى اليوم مشهدا سرياليا نُوباويا، حيث يمدح النُوباوي ميليشيا الجنجويد، ويقاتل إلى جانبها، تلك الميليشيا التي هي الامتداد الطبيعي والتاريخي لمشروع إبادة النوبة ومسحهم من الودود. كيف، وبأي منطق أو وعي، يقف اليوم ابن النوبة إلى جانب الجنجويدي الذي قتل أهله، وكيف يختار أن يُدين بدمه وذاكرته وألمه، لمن ظل أداة في يد المركز لذبحه وإزاحته من أرضه؟ عزيزي النوباوي.. علينا أن نُذكر هنا، مؤيدو الجنجا من أبناء النوبة، بحقائق لا تقبل الجدل، وهي أن ميليشيا الدعم السريع، ليست مجرد فصيل مسلح خرج على الدولة، بل هي امتداد عضوي وتاريخي لمشروع عربي، يعود جذوره إلى بداية 1970، وظهر بقوة في دارفور مطلع الألفية الثالثة، عبر ميليشيا الجنجويد، ثم أعادت تشكيل نفسها وشرعنتها في كنف نظام البشير، وتحولت لاحقا إلى قوة وطنية، وفقا لدعاية المركز (الخرطوم). لكن جوهر الجنجويد، لم يتغير أبداً، مشروع عربي-إسلاموي مسلح، هدفه السيطرة على الأرض والثروة، وتطهير من لا يشبههم لا في الملامح، ولا في اللغة، ولا في التاريخ. إذن، ميليشيا الجنجويد، تنتمي لأبناء الحواضن الاجتماعية التي طالما استخدمتها الأنظمة المركزية في الخرطوم، كأدوات قمع، وتلك الحواضن هي: المسيرية بنوعيها (الزُرق والحُمر)، الحوازمة، والرزيقات، وغيرها من القبائل العربية التي تم زرعها أو زحفها نحو مناطق جبال النوبة ودارفور عبر سنوات. هذه القبائل، لم تدخل المنطقة بصيغة التعايش، بل كقوة اقتلاع واستيطان، تحت غطاء الدين تارة، وتحت عباءة العُروبة تارة أخرى. عندما هاجمت قوات الدعم السريع، جبال النوبة في 2013 والسنوات التالية، لم تكن تفعل ذلك منفصلة عن تاريخها الوحشي، بل كانت تُنفذ نفس ما فعله أجدادهم، من إحراق القرى، اغتصاب النساء، منع المساعدات الإنسانية، اختطاف الأطفال وولخ. هذه ليست مزاعم، إنها وقائع موثّقة، ومن لا يصدق، فليُراجع تقارير هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية وغيرها من التقارير المستقلة حول هذا الموضوع. من معسكرات الرق إلى خنادق القتل!! في وثائق أرشيفية، تعود لفترة الحكم التركي المصري، يتكرر ذكر (رق النوبة)، أي النوبة الذين تم أسرهم في الجبال وتسليمهم كعبيد إلى الحكومة المركزية في الخرطوم، بمساعدة تلك القبائل العربية، ولم يكن ذلك صدفة، بل كان نمطا متكررا من التعاون القذر بين هذه الحواضن والمستعمر، ضد الإنسان النوباوي. ثم جاء الحكم الإنجليزي المصري، فاستُخدمت نفس الحواضن لإخماد ثورات النوبة في جبالهم، كما فعلت في ثورة السلطان عجبنا ورفاقه وغيرها من ثورات جبال النُوبة. وفي ظل ما يسمى بالدولة الوطنية، تحولت هذه القبائل إلى أذرع عسكرية للمركز، تُستخدم كلما أراد لفرض سيطرته على مناطق الجبال، أو معاقبة النوبة على عصيانهم أو مطالبتهم بحقوقهم المشروعة. في الثمانينيات القرن الماضي، قادت المسيرية والحوازمة، حملات دموية على قرى النوبة في الجبال الغربية، بحجة تغلغل الحركة الشعبية فيها، وحصدت عشرات الآلاف من أبناء النوبة. وفي التسعينيات من القرن الماضي، كان الجهاد ضد النوبة، يُبشر به في مساجد الأبيض والدلنج وكادوقلي وغيرها، والميليشيات العربية، تُجند وتُسلح تحت لافتة (حماية الإسلام من الوثنية)، وكل هذا موثّق، ليس في كتب المعارضة فحسب، بل في تقارير الأمم المتحدة، ومذكرات الضباط الذين فرّوا من الجيش وفضحوا جرائمها. لكن لماذا يؤيد بعض أبناء النوبة، الجنجويد اليوم؟ حين نرى بعض أبناء النوبة، يؤيدون الجنجويد، بل ويقاتلون معهم أو يبررون لهم، نشعر بأن التاريخ يبكي. فهؤلاء، دون أن يدروا، يطعنون شعبهم في الظهر، ويخونون ذاكرة أمهاتهم، ويصفقون للمجرم بينما لا تزال الجثث في المقابر الجماعية لم تجف. تراهم يتفلسفون ويتفاصحون بالقول، إن قوات الدعم السريع (الجنجويد)، تقاتل دولة 56 والجلابة والإسلاميين، لكنهم ببساطة، يبدّلون سيدا بآخر، يستبدلون (الجلابة)، بميليشيا أكثر وحشية، وينخدعون بإدعاءات زعيم الجنجويد، الذي لم يقرأ في حياته قط، سطرا واحدا عن النوبة، ولا يؤمن بأي مشروع وطني سوداني. وإذا كان هؤلاء، يدعمون الجنجويد، نكاية في الجيش، فلابد أن فيهم شئ من الطفولة السياسية. أما إذا كانوا يؤمنون فعلا، أن قوات الدعم السريع، ستحرر لهم البلاد والعباد، فلابد أن فيهم مس من عمى الذاكرة، وإن كانوا يعرفون كل هذا، ومع ذلك يؤيدونهم، فهم يخونون الدم النوباوي، وسيذكرهم الأجيال، كأحد أدوات الذبح الذاتي. الجنجويد اليوم، بعد أن تمردوا على أسيادهم في الخرطوم، لم يصبحوا ثوارا، بل سينشئون دولة عنصرية جديدة، قائمة على النهب والقتل والاغتصاب والإبادة والتطهير العرقي، وما يحدث في نيالا وكُتم والفاشر، أكبر دليل. عار التاريخ لا يُمحى بالتحالفات!! في الأعراف الثورية، من يخون ذاكرة أهله، يخون الثورة ذاتها، ومن يتحالف مع الجنجويد اليوم، لا يمكن أن يكون جزءا من مشروع تحرير النوبة، أو مشروع السودان الجديد، بل هو يعيد إنتاج تحالفات العبودية القديمة، ولكن تحت أسماء جديدة. هؤلاء السُذج من أبناء النوبة، يبررون موقفهم، بأنهم يعادون جيش الجلابة ودولة 56، فليكن كذلك، لكن لماذا لم يبحثوا عن حل ثالث.. لماذا لم يتمسكوا بموقف مبدئي مستقل.. وهل كل من يعادي الجيش، يصبح تلقائيا حليفا للجنجويد.. أهذا هو منطقهم؟ إن بعضهم ذهب أبعد، ليصفوا من يعارض الجنجويد من أبناء النوبة، بأنه عبد للجلابة والمركز، بينما هو المؤيد للجنجويد، يُصبح حرا وثائرا. انه منطق مقلوب، وسخرية سوداء من التاريخ؟ هؤلاء لا ينقصهم العقل، بل ينقصهم الضمير، وهم لا يجهلون، بل يتجاهلون، ليسوا مُضلَّلين، بل متواطئون وفي النهاية، فإن أخطر أعداء الشعب، ليسوا من يقاتلونه علنا، بل من يطعنونه من الداخل وهم يبتسمون. أيها النوباوي المؤيد للجنجويد!! مهما بررت، ومهما خطبت، ومهما لويت عنق الحقيقة، فإن التاريخ لن يغفر لك. الجنجويد هم من قتلوا أهلك، وهم من سيواصلون قتلهم، وإن كنت تظن أن سكوتك عنهم سيمنحك الحماية، فأنت لا تعرف طبعهم، هم لا يحترمون الحلفاء، بل يحتقرونهم أكثر من أعدائهم. أن تؤيد الجنجويد، بعد كل هذا التاريخ من الدم والتطهير والنهب، هو خيانة صريحة، ولا شيء يُغفر لك سوى التراجع والاعتذار العلني، لأن الحرب ستنتهي، وستتصالح الناس، لكن ما فعلته ستبقى وصمة في جبينك، في ذاكرة النوبة، وفي صفحات التاريخ. لا تكن ساذجا، لا تكن طعما في فم الذئب، لا تسوق للجنجويد، قف في صف شعب النوبة، لا في صف من سفك دمه، لا تدافع عن تاريخك بالسلاح، وأنت تمسح دماء أهلك بمنديل الجلاد. *** الجيش السوداني، طبعت على صدره شعارات الوطنية والسيادة وحماية الأرض والعِرض، لكن الحقيقة هي أن هذا الجيش، ظلّ لعقود حارسا لسلطة المركز، لا للوطن، حاميا لعرش الجلابة، لا لحقوق المهمّشين، دخل جبال النوبة، لا ليبني مدارس أو يشق طرقا أو يحمي أهلها، بل ليمسح قرىً، ويشعل النيران في الذاكرة، ويحوّل الزرع إلى رماد. كم من مرة رأينا طائرات جيشنا الباسل، تقصف الكهوف والوديان في جبال النوبة/ جنوب كردفان.. كم من مرة رأينا ضباطه يُوزعون السلاح على الميليشيات العربية، لتخوض حربا بالوكالة ضد النوبة؟ أما قوات الدعم السريع (الجنجويد)، فهي ليست سوى نسخة مسرطنة من جهاز القمع، هذه الميليشيا لم تُصنع في معمل الثورة، بل في دهاليز النظام البائد، بأموال الفساد، وبغضب لا يُوجه إلا للضعفاء. نشأت من رحم الحرب على دارفور، لكنها سرعان ما تحوّلت إلى سرطان انتشر في الجسد السوداني كله، في جبال النوبة، كما في الخرطوم، والجزيرة والنيل الأبيض وولخ، تحمل ذات الذهنية: الحرق، النهب، الاغتصاب، التطهير العرقي، الإبادة، ثم الخروج ببيان التبرير الفاضح!! فهل يُعقل أن تؤيد من هجّر أهلك، من نهب قراك، من أهان نساءك؟. هل يمكن للنُوباوي، صاحب التأريخ والإرث النضالي العريق، أن يضع يده في يد زعيم الجنجويد، ويقول إنها يد السلام؟ عزيزي النوباوي.. في هذا الزمن المائل، أن تكون محايدا، لا يعني أنك جبان، بل قد يعني أنك الأجرأ، فالصراخ مع الجموع سهل، أما الوقوف وسط الساحة، وحيدا، صارخا بالحقيقة في وجه الجميع، فهو بطولة نادرة. أن ترفض الجيش لا يعني أنك خائن، وأن ترفض الجنجويد لا يعني أنك مع الجلابة، بل أنك تقول، لن أختار بين قاتل وقاتل. أن تكون ضد الاثنين، هو أن تكون مبدئيا، لا مرتزقا سياسيا في بازار الدم. أنت لست بحاجة لأن نُساق كالغنم، بل بحاجة لأن تكون مستقلا برأيك، وتقول، أنا لست مع الجيش لأنه سفك دمي، ولست مع الجنجويد، لأنه لوث أرضي، أنا مع مشروع وطن لا يُبنى على جماجمنا. الإستقلالية، هي أن تطرح مشروعا للسلام الحقيقي، لا ذلك المُوقّع في الفنادق، بل المكتوب على أرض الواقع، بدموع الأمهات لا بدماء الأبناء! لا تختار عبوديةً جديدة، لأن منكم من اختار أن يكون (عبدا للجيش)، يهتف باسمه وكأنه إله، رغم أنه ذاق على يديه الويل، ومنكم من اختار أن يكون (عبدا للجنجويد)، يسبح بحمدهم في المنابر، رغم أن بندقيتهم لا تفرّق بين خصم ومُحب. لقد متنا كثيرا في الحروب، في المجاعات، في الظلم المؤسسي، في التهميش المزمن، في غياب الخدمات والتنمية.. فهل نختار أن نموت مرة أخرى، دفاعا عن جيوش لا تدافع عنا، وميليشيات تطمع في أرضنا؟ كن صوتا مختلفا، مشروعا مختلفا، حلما مختلفا، وقلها بصوت عال، لا للجيش، لا للجنجويد، نعم للسلام الحقيقي، نعم لسودان جديد، يليق بالنُوباوي وأخيه من كل أقاليم الوطن. ********* في الختام، لا بُد أن نعترف وإن بمرارة، أن مشهد النوباوي العبقري، الذي يقف متشنجا في مواقع التواصل الإجتماعي أو يتلوّح ببندقيته في خندق الجنجويد، أو يزغرد لوحدات الجيش السوداني، ليس إلا لوحة سريالية مشبعة بالتراجيديا والعبث، لو عرضناها على مسرح شكسبير لانتحر الممثلون قبل نهاية المشهد. كيف وصل النوباوي، حامل جينات السلطان عجبنا والفكي الميراوي ويوسف كوة، وتاريخ الثورة على الإستعمار الأجنبي والمركز، إلى هذا المنحدر المخجل من الانتماء الأعمى ..كيف تحوّل مشروع السودان الجديد إلى عَـلـم مغسول بماء العبودية السياسية؟ إن النوبة لم تكن في يومٍ من الأيام كمالة عدد في دفتر الوطن، ولا وقودا رخيصا لحروب الآخرين، بل كانوا -وما زالوا كتف الوطن إذا انكسرت، وجبهة الثورة إذا انحرفت. لكن ما يحدث اليوم أشبه برقصة الزومبي في جنازة العقل، حيث يصفّق النوباوي للجنجويدي الذي قتل أخيه، ويهتف للضابط الذي قصف قريته، فقط لأن الطرف الآخر يبدو له أبشع قليلاً. أي عبث هذا يا قوم ..أي منطق معطوب ذاك الذي يُقسّم الناس إلى عبيد جلابة وعبيد دقلو، بينما الحرية الحقيقية تتسكع وحدها في زقاق النسيان؟ من الذي زرع فينا هذا العُرف العجيب، أن عليك أن تكون مع طرف ما، حتى وإن كان يلعق دمك ..كيف وصلنا إلى قاع الحضيض السياسي، حيث يتحول ضحايا الأمس إلى أبواق طبلية لأسياد الأمس؟ تعالوا نضحك قليلاً ضحكة كالسكين على مشهد النوباوي المحلّل السياسي، وهو يُبرّر للجنجويد بأنهم مشروع التحرير، وينعت من يرفضهم بأنه فلولي. أيها العبقري، هل قرأت يوماً في قاموس المنطق أن من يقتل شعبك ويغتصب نساءك هو مشروع تحرر؟ هل رأيت في تاريخ الثورات أن الحارق والمُغتصب يُمنح وسام الحرية؟ ومن الجهة الأخرى، يقف النوباوي الحالم الذي يرى في الجيش السوداني آخر قلاع السيادة والوطن، وكأن ذاكرته قد تم تنويمها مغناطيسياً منذ التسعينيات، حين كانت الطائرات تلقي قنابلها على المدارس، وحين كانت البنادق توزع على المسيرية، كأنها (طعام)، لا لشيء سوى لأن النوبة تجرأوا وقالوا نريد حقنا! الحقيقة المُرة يا عزيزي، هي أن الفريقين يرتديان ذات ثوب العبد، لكن أحدهم طوله قليلاً، والآخر مطرّز بشعار الثورة. وبين عبٍ للجلابة يضع على رأسه شعار القومية، وعبد لدقلو يرفع على رأسه راية التحرر، تضيع النوبة كما تضيع صرخة في كهف بلا صدى. لكن فلنتوقف هنا ونتساءل بجدية ..لماذا اختار كثير من النوبة أن يكونوا عبيد انتماءات، رغم كل التاريخ الدموي؟ الإجابة بسيطة ومريرة، لكنها صادقة، وهي أننا أدمنا الطاعة، وتربينا على ثقافة (الجماعة)، فمن يخرج عن السرب يُتهم بالخيانة، ومن يرفض الطرفين يُلعن من الطرفين، الكل يريدك إما عبدهم، أو خصمهم، لا أحد يحتمل الآخر. تأملوا قليلاً هذا المشهد الطريف حد البكاء!! نوباوي في أم درمان، يحمل كلاشنيكوفا ويصرخ الله أكبر مع ميليشيا الجنجويد، بعد أن أُعطي كرتونة تموين وخمسمائة ألف جنيه، وفي نفس الوقت، نوباوي آخر في الأبيض يهتف، قواتنا المُسلحة خطّ أحمر بعد أن وُعِد بوظيفة حارس مدرسة. ها نحن أمام مشهد مزدوج لعبودية واحدة، يتناحر فيها الإخوة، ليس على المبادئ، بل على نوع السوط الذي يُجلدون به، كأنما أصبح الخيار بين الجلاد بالسروال الأبيض أو الجلاد بالكاكي الأخضر، والنتيجة واحدة، ظهور مجرحة وذاكرة مخصية. ويا ليت عبودية اليوم كانت عن جهل فقط، بل أحياناً عن عمد وتواطؤ! نوباوي يكتب منشوراً على مواقع التواصل الإجتماعي، يُدافع فيه عن الجنجويد، لأنهم ضد الإسلاميين، وآخر يهاجم من يرفض الجيش بأنه مرتزق للتمرد، والسؤال الكبير ..هل فعلاً لا يعرفون من هو الجنجويدي، ومن هو الجيش، أم أنهم يعرفون جيداً، لكنهم فضلوا التطبيل مقابل رضا أحد الأطراف؟ وهكذا، أصبح المشهد مثل مسرحية عبثية عنوانها: (العبد يختار جلاده... ثم يشتم إخوته لأنهم رفضوا السوط). لكن ما العمل ..هل نبكي ..هل نصمت؟ كلا: حان الوقت أن نقول بصوت واضح لا لبس فيه.. كفانا عبودية مقنّعة بشعارات ثورية.. كفانا تبريرا لولاءات عمياء! كفانا نباحا في معركة لا نخوضها لصالحنا!! إن النوبة، في جوهرهم، ليسوا عبيداً لأحد، ولا صنيعة أحد، بل هم أبناء جبل وعر لا يُكسر، وتراب ممهورٍ بدماء من قاوموا الاستعمار وكل الأنظمة، فلا تُهينوا ذاكرة الجبل بمغازلة من دمّرها بالأمس، ولا تبيعوا إرث جون قرنق في سوق الخرطوم أو نيروبي! إن الحل لا يكمن في تأييد الجنجويد، ولا في التطبيل للجيش، بل في أن تكون مستقلا وتقول: لسنا عبيد أحد! لن نقاتل لأجل مشاريع الآخرين! لن نموت مجدداً في حروب لا نربح منها سوى المقابر الجماعية! وإذا رأيت نوباويا يهتف للجنجويد، فاقرأ عليه السلام من جدّته التي بكت عليه ذات يوم ..وإذا رأيت نوباوياً يصفق للجيش، فاسأله متى كانت آخر مرة رأى فيها طائرةً تنثر قنابل على قريته. أما إذا رأيت نوباويا يقول: كفانا طاعة، كفانا قتل أنفسنا بأيدينا، كفانا خيانات مكررة، لن أكون عبداً بعد اليوم، فأعلم أن النوبة بدأت تنهض. والسلامٌ على من قالها ولو مرة ..أنا لست عبد أحد، أنا ابن جبل لا يُهان!
|
|