اتفاق جوبا من فخّ السلام إلى أتون الحرب- كيف سُخِّرت الثورة؟#

اتفاق جوبا من فخّ السلام إلى أتون الحرب- كيف سُخِّرت الثورة؟#


06-22-2025, 02:59 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1750600788&rn=0


Post: #1
Title: اتفاق جوبا من فخّ السلام إلى أتون الحرب- كيف سُخِّرت الثورة؟#
Author: زهير ابو الزهراء
Date: 06-22-2025, 02:59 PM

02:59 PM June, 22 2025

سودانيز اون لاين
زهير ابو الزهراء-السودان
مكتبتى
رابط مختصر






وصف الدكتور عبد الله علي إبراهيم اتفاق جوبا بأنه "طائر الشؤم"، وكان هذا الوصف في محله. إذ لم يكن الاتفاق مدخلاً للسلام كما صُوّر، بل فخاً نُصب بعناية ليعيد إنتاج السلطة القمعية، عبر تحييد الحركات المسلحة
وإعادة توظيفها داخل بنية النظام الذي كانت تزعم محاربته. ما بدا لحظة توافق تاريخي كان في حقيقته لحظة انكسار للمشروع الثوري، حين اختارت بعض النخب طريق التسوية السريعة، على حساب العدل والمساءلة والتمثيل الحقيقي للهامش.
منذ اللحظة الأولى كان واضحًا أن الاتفاق جاء في سياق مختل. فالحركات المسلحة لم تأتِ إلى طاولة التفاوض من موقع مقاومة فعلية للنظام المخلوع، بل من موقع تفاوض سياسي بعد أن ضعفت ميدانيًا، ووجدت في قوى الحرية والتغيير بوابة للعودة إلى الواجهة.
وقد بارك بعض أطراف القوى المدنية هذه المشاركة، إما طمعًا في التوسّع السياسي، أو مراهنة على دعم دولي. وهكذا نشأ الاتفاق كتحالف مصالح لا كعقد سياسي جامع.
بعد توقيع الاتفاق، سارعت الحركات المسلحة إلى الاندماج في أجهزة الدولة كأنها في سباق مع الزمن. فقد كانت بنود السلطة والموارد أول ما نُفّذ، بينما تُركت ملفات الترتيبات الأمنية والعدالة الانتقالية وعودة النازحين معلّقة في هوامش الإهمال المتعمد.
تحوّلت الحركات التي لطالما بشّرت بخطاب "التحرير" إلى جماعات تمكين مسلح، دخلت الحكومة لا لتُصلحها، بل لتتقاسمها.
جبريل إبراهيم، الذي تولّى وزارة المالية، قدّم مثالاً صارخًا على هذا التحوّل. فبدلاً من معالجة الأزمة الاقتصادية التي خنقت المواطنين، انشغل بترتيب المشهد المالي بما يخدم حركته ومحيطه، مغلقًا الباب أمام أي سياسات إصلاحية جادة.
أما مني أركو مناوي، فقد نُصّب حاكمًا لإقليم دارفور دون رؤية واضحة، فكان وجوده امتدادًا لصراع السلطة أكثر مما هو حلّ لقضايا الإقليم.
الاتفاق، في جوهره، لم يكن سلامًا، بل صفقة. المليشيات لم تُفكك، بل أُعيد ترتيب مواقعها. ولم تكن العدالة الانتقالية يومًا أولوية للحكومة التي تشكّلت بموجب الاتفاق، بل كانت عبئًا ينبغي التخلص منه. أما الضحايا والنازحون
فظلوا في معسكراتهم كأن شيئًا لم يحدث، بينما انهمكت القيادات الجديدة في اقتسام غنائم السلطة.
المأساة بلغت ذروتها حين تحوّلت بعض هذه الحركات إلى أدوات عسكرية في يد السلطة الانقلابية.
برّرت مشاركتها في انقلاب أكتوبر بحجة "ضمان تنفيذ الاتفاق"، ثم ما لبثت أن شاركت في الحرب الجارية، كأنها لم تأتِ أصلاً إلا لتكون ميليشيات احتياطية تُستدعى عند الحاجة.
وانقسم بعضها داخليًا كما حدث في حركة العدل والمساواة، بعد انحياز جبريل المطلق للجيش، ورفضه أي نقاش جماعي في قرارات مصيرية.

من جهة أخرى، فإن تجربة الحركات في إدارة الوزارات كشفت فشلًا ذريعًا، سواء على مستوى الرؤية أو التنفيذ. لم تُقدَّم أي خطة متماسكة، بل بدت الوزارات وكأنها فُتحت على عهدة الغنيمة.
وما لبثت منابر هذه الحركات أن تحوّلت إلى أدوات دعائية للعسكر، تهاجم القوى الديمقراطية وتُبرر الحرب وتحرض على الخصوم، غير آبهة بما تبقى من أمل في التحول المدني.
ولم تكن الكوارث محصورة في المركز، بل انتقلت إلى الأطراف التي زُعم أنها استفادت من الاتفاق. فمسار شرق السودان فجّر صراعًا أهليًا بين المكونات الاجتماعية، خصوصًا بين الهدندوة والبني عامر، نتيجة تمثيل انتقائي فرضته "صحبة المسلح"
لا الإرادة الشعبية. أما النيل الأزرق، فقد شهد واحدة من أفظع الفتن المجتمعية في يوليو 2022، بين الفونج والهوسا، كانت نتيجتها مئات القتلى وآلاف المهجرين، وكل ذلك في ظل حكومة إقليمية شكّلتها الحركات الموقعة على الاتفاق.
إن اتفاق جوبا، في مآلاته، لم يُفشل عملية السلام فقط، بل أجهز على ما تبقّى من ثقة في فكرة التسويات السياسية كمدخل للتحول. لقد جرى تسليع قضية دارفور والمناطق المهمشة، وتحوّلت مأساة الضحايا إلى أوراق تفاوضية في لعبة سلطوية عارية من المبادئ.
أصبحت الحركات التي نشأت من معاناة المهمشين، أداة في يد المركز لشرعنة العسكرة، وتقويض حلم الدولة المدنية.

أن ما جرى في جوبا لم يكن خطأً عابرًا، بل مشروعًا مضادًا لروح الثورة. دفعت فيه نخب الحركات ثمنًا باهظًا من مصداقيتها، ودفعت فيه الجماهير ثمنًا أفدح من دمائها ووطنها.

*والمساءلة هنا ليست خيارًا أخلاقيًا، بل شرطٌ وجوديّ لأي سلام حقيقي. فبدون الاعتراف بهذا الفشل، ومحاسبة من تاجروا بالسلام وحوّلوه إلى صفقة سلطة، لن يكون لأي اتفاق قادم معنى.
لا سلام يُبنى على المحاصصة، ولا دولة تنشأ من رحم الخديعة.