Post: #1
Title: قراءة سيميائية وثقافية وتفكيكية وتلقيّية في رواية "البحث عن مصطفى سعيد" لعماد البليك
Author: زهير ابو الزهراء
Date: 06-21-2025, 03:35 PM
03:35 PM June, 21 2025 سودانيز اون لاين زهير ابو الزهراء-السودان مكتبتى رابط مختصر
تمهيد- من الزومبي إلى الذات الضائعة
ليست "البحث عن مصطفى سعيد" رواية تُقرأ على مهل فحسب، بل نصّ يُستعاد، يُفكّك، ثم يُبنى في الوجدان مرّة بعد مرّة. إنها ليست بحثًا عن رجل مضى، بل عن زمن انقرض، وذاتٍ أُجهضت، وأفقٍ تُرك للنواح دون عزاء. هنا لا يستدعي عماد البليك شخصية الطيب صالح في مجازها القديم، بل يبتكر منها شبحًا تائهًا، غائبًا/حاضرًا، يُحاور العدم والخراب، ويَلفّها بهالةٍ من السرد الكابوسي، حيث تتراكم الكوابيس على مصير البلاد كما تتراكم الغيوم على خرائط المرايا المهشّمة. أولًا: السيمياء المراوغة – العلامة ككائن حي يتكلم
العنوان: "البحث عن مصطفى سعيد" عنوان الرواية ليس علامة لغوية وحسب، بل علامة تأملية استعارية، تحيل إلى غيابٍ حاضر، ومركزٍ بلا مركز. إنه ليس "مصطفى سعيد" الرجل، بل "سعيد" الزمن السوداني المفقود، والحلم الذي يُقارب الحقيقة ثم يتبخر. العلامة هنا تُضمر دلالة وجودية وتُراوغ القارئ منذ أول وهلة، فـ"البحث" ليس رحلة، بل هو تيهٌ مقيم. الزومبي: دال الخراب في استدعاءه لشخصيات الزومبي، لا ينقل البليك لنا كائنات الهالوين الغربية، بل يُحوّلها إلى رمز لفقدان المعنى، لضمور الإرادة الجمعية، ولبعث الذاكرة بوصفها كابوسًا سياسيًا دائمًا. الزومبي هنا هو الآخر القاتل في الداخل: هو السياسي، المثقف المتواطئ اللغة المستنزفة، الوطن الذي يغدو فجوة. الزومبي ليس إلا ظلّك حين لا تعترف بنفسك، ودمك حين لا تعرف لمن يُسفك. السياق التاريخي للزومبي- يكتسب الزومبي في الرواية بعدًا تاريخيًا يتجاوز الكابوس الفردي، إذ يُستعاد بوصفه نتاجًا لتاريخ الجراح السودانية العميقة: حرب الجنوب، محرقة دارفور، نُظم القمع المتوالية. يتجلى الزومبي كاستعارة لجيل مشوّه، مفرغ من المعنى، يسير فوق أنقاض سرديات فشلت في النجاة. المكان كعلامة: الخرطوم... مطار... قرية - الفضاء المكاني يمور بالرمزية , الخرطوم: مدينة تصرخ من الداخل، تحترق وتُطفئ نفسها. ليس لها حنين، بل عبء. المطار- رمز العبور المقموعة، اللحظة التي يتوقف فيها الزمن. القرى كاذبة في عزلتها، تنقل الخراب لا تنجو منه. الزمن اللولب المحطم زمن الرواية ليس زمنيًا، بل زمن ذهني تراكبي، يدور في لولب لا نهائي: كل محاولة للمضيّ قُدمًا تُفضي إلى عودة، لا للأصل، بل للبداية المجهضة, فالزمن ليس سيرورة، بل عودة دائمة إلى الخيبة. تفكيك الحضور الرمزي الكثيف عندما يصبح مصطفى سعيد علامة غائبة في بنية الرواية، مصطفى سعيد لا يظهر، لكنه يحضر في كل موضع كـ ظلٍ وجوديٍّ فاضحٍ للهشاشة. ما يظهر كبحث عن رمز، يتحول إلى تفكيك لهذا الرمز. هنا يتحول "مصطفى سعيد" من كيان نصي إلى "نقص في النص" إلى فراغ يتموضع فيه البطل فحسب ليواجه هشاشته. ثانيًا هنا اعود من ناحية النقد الثقافي – الخراب بوصفه هوية المثقف كممثل تعيس بطل الرواية – محمود – ليس مثقفًا متمردًا ولا تابعًا، بل كائن يُؤدي دوره رغم مقتِه له. هو الوجه الآخر لمصطفى سعيد: منفي بلا منفًى، ثائر بلا ثورة، محبط بلا حيلة. يقف بين بُنيتين: المنفى الخارجي والداخل الميت، ليُكتشف أخيرًا أن الاثنين وجهان لعتمة واحدة. التمرد المغشوش عند عودته للوطن بعد الثورة، يبدو البطل وكأنه سيمارس دوره التغييري، لكنه يُستدرج إلى اللجنة... ثم المنصب... ثم المنع من السفر... ثم العدم. كأن الرواية تصرخ: لا مكان للمثقف في زمن المأساة، ولا للمأساة في زمن البلاهة السياسية. السياسة ككاريكاتير مكرر كل الأحزاب تمر في خلفية الرواية بوصفها أشباحًا ناطقة بلا تأثير: يساريون، جمهوريون، بعثيون، إسلاميون...، الكل يتكلم، الكل يفشل، الكل يعود ليعيد إنتاج العبث ذاته. هنا الخرطوم ليست عاصمة وطن، بل عاصمة خراب رمزي طويل الأمد. تفكيك الأسطورة الوطنية
لا تعيد الرواية فقط النظر في أسطورة المثقف المنقذ، بل تُقوّض البنية الرمزية لكل ما بدا سابقًا مركزًا وطنيًا. الثورة تتحول إلى غولٍ سياسي، والوطن يتحول إلى سردابٍ للتيه، والانتماء لم يعد إلا خدعة لغوية. عبر هذه التفكيكات المتتالية، ينهار تصور الوطن كهوية مستقرة، ليُعاد إنتاجه ككابوس دائم. كأن الزمن السوداني، منذ الاستقلال، يُدار من قبوٍ رمزي عنوانه: "الوهم مشروع دولة". تعميق التفكيك الجسدي - ما يمكن ان نجده هنا جسد الأمّ الميت وهو كما يظهر في المشهد الافتتاحي (ص 9)، يتجاوز دوره الرمزي كمجرد حزن شخصي، ليحيل إلى انقطاع النسب الوجودي بين الأجيال. إنها جثة الأم/الوطن التي تُغسَّل دون إرثٍ روحي حقيقي. جسد فيوليتا (البنفسج) العلاقة مع الروسية تمثّل استعارة للاستعمار المعكوس؛ جسدها الأبيض هو صورة للغرب المُستلب، الذي لا يمنح اللذة بل يستنزفها من روح الشخصية الشرقية. ثالثًا نظرية التلقي – القارئ في مواجهة العبث القارئ الضمني , الرواية تفترض قارئًا مثقفًا، يُدرك البناء المرجعي للرواية السودانية، يفهم الإحالة إلى "موسم الهجرة"، ويتتبع تكرار الأشكال الرمزية، كما يقرأ ما بين الصمت والسطر. القارئ المقاوم , لكن الرواية لا تترك القارئ مرتاحًا، بل تُجبِره على طرح الأسئلة. لا أجوبة جاهزة، لا خلاص، لا بطل منتصر، لا مدينة تُغني. إنّها نصٌّ يُشبه ذلك الذي يُروى عن كابوس لم ينتهِ، ولم يُبدأ قط. القارئ إذًا ليس شريكًا في الحكاية، بل سجينًا لها. عليه أن يعبر النص كما يعبر البطل الخراب: دون مصباح. القارئ في مواجهة العبث لا تضع الرواية القارئ في موقع الراحة، بل تدفعه إلى قاع التيه ذاته. حين تنهار الثنائيات، وتُمحى الحدود بين الحلم واليقظة، فإن القارئ يُصبح شاهدًا لا يملك سوى الغثيان، أو كما تقول الرواية ذاتها "ما الذي يجعل إنسانًا يقرر أن يُنهيَني؟". التلقي والنقد ما بعد الكولونيالي , تُثير الرواية تساؤلات حول كيفية قراءة القارئ الغربي لشخصية "مصطفى سعيد" الجديدة: هل يراه الضحية؟ أم انعكاسًا للمستعمِر الذي يعيد استدراج العنف؟ في بنية "الهجرة المعكوسة"، يصبح محمود صورة مُقلوبة للاستعمار ذاته مُحطَّم في أرض الغير، وعاجز في أرضه. رابعًا اللغة بوصفها غبارًا على المرايا , ازدواجية اللغة اللغة في الرواية تحضر بوجهين , سرد مباشر شفاف، يحمل المشهد بأبعاده. ونبرة رمزية متوترة، توغل في الباطن، وتنحت في العمق. البليك يُشحن لغته بـ"المحو"، "النسيان"، "الزومبي"، "اللعنة"، "الدرويش"، "الأمل المتبخر"، ليبني قاموسًا روائيًا قائمًا على انهيار الذات والعالم. بلاغة التكرار والكوابيس تكرار الصور تعالوا نري هي -- الزومبي، المطار، العجوز، الطفل الباكي، الطائرة، الموتى الأحياء… هو تكرار لإحباطات سردية متراكبة. كل مشهد يُفضي إلى لا شيء. وهذا اللاشيء هو لبّ التجربة السردية. المقارنة مع نهايات عربية مشابهة يمكن النظر إلى نهاية الرواية ضمن سياق عبثية النهايات في الرواية العربية المعاصرة، كما في "الكوميديا السوداء" لأحمد خالد توفيق، أو "فسوق" لعبده خال. هذه النهايات لا تُقدّم خلاصًا بل تُرسّخ السقوط بوصفه الحقيقة الوحيدة.
*إذ نقرأ "البحث عن مصطفى سعيد" في ضوء التفكيك والسيمياء والنقد الثقافي، نُدرك أن كل مركزٍ قابلٌ للانهيار، وكل يقينٍ مرهونٌ بالهشاشة. لكنها، وبكل تناقضها وتيهها، ليست فقط رواية انهيار، بل نصٌّ يُصر على أن يُبقي السؤال حيًّا لأن في السؤال وحده تكمن إمكانية النجاة الرمزية.
# ليست "مصطفى سعيد" الذي نبحث عنه إلا الآخر الذي نسيناه فينا، والذي حين نقترب منه، لا نجد إلا صدى أصواتنا القديمة وهي ترتجف بين الضياع والرغبة في أن نبقى.
|
|