Post: #1
Title: الأيدي المدنية تتجه لبريتوريا لانتزاع المستقبل كتبه محمد هاشم محمد الحسن
Author: محمد هاشم محمد الحسن
Date: 06-21-2025, 02:26 PM
02:26 PM June, 21 2025 سودانيز اون لاين محمد هاشم محمد الحسن-Sudan مكتبتى رابط مختصر
في دهاليز السياسة الدولية، حيث تتشابك الخيوط المعلنة والخفية، لا يمر لقاءٌ رفيع المستوى مرور الكرام. عندما يلتقي وفد (صمود)، بقيادة رئيس الوزراء السابق الدكتور عبد الله حمدوك، برئيس جنوب أفريقيا سيريل رامافوزا في بريتوريا، فإن المشهد يتجاوز مجرد تبادل المجاملات الدبلوماسية ليصبح لوحة معقدة تحمل دلالات استراتيجية عميقة ورسائل متعددة الأوجه. هذا اللقاء، الذي يأتي في خضم أزمة سودانية طاحنة، يكشف عن محاولة جريئة لإعادة تشكيل مسار الصراع، ويسلط الضوء على تطلعات قوى مدنية تسعى لانتزاع زمام المبادرة من قبضة الرصاص والدماء.
إن أهم ما تحمله هذه الزيارة في طياتها هو محاولة إعادة تعريف الشرعية والمشروعية. فبينما يغرق الجنرالان المتناحران في صراع دموي على السلطة، يُقدم وفد صمود نفسه كبديل مدني منظم وفاعل، مدعوم بخبرة سياسية دولية سابقة. ما يتبين من هذا التحرك هو سعيٌ حثيث لـ(تأهيل) القوى المدنية دولياً كصاحبة الحق في قيادة المرحلة الانتقالية، وبناء اعتراف دولي بها يسبق أي تسوية شاملة. هذا التموضع يرسخ مكانة هذه القوى كممثلة للإرادة الحقيقية للشعب السوداني وتطلعاته الديمقراطية، ويُبرز غياب أي أساس لشرعية حكم الفصائل العسكرية التي أغرقت البلاد في الفوضى.
الخط الثاني، والأكثر إلحاحًا، يكمن في خلق نقاط ضغط خارجية على الأطراف المتحاربة. يدرك القادة المدنيون أن نفوذهم المباشر على القوات المسلحة وقوات الدعم السريع محدود للغاية. لذلك، يهدف هذا المسعى، من خلال الزيارة وامتدادها لجولات أخرى، إلى حشد قوى إقليمية ودولية ذات ثقل كجنوب أفريقيا التي تتمتع بتجربة فريدة في بناء السلام بعد الصراعات لممارسة ضغوط دبلوماسية وسياسية وأخلاقية على طرفي النزاع. إنها محاولة لاستخدام الدبلوماسية كرافعة قوية لإجبار الجنرالات على التفكير في خيارات تتجاوز الحل العسكري الذي أثبت فشله الذريع، على أمل أن يكسر ضغط من عاصمة إفريقية مرموقة مثل بريتوريا الجمود الذي يلف مسارات الوساطة التقليدية، مثل محادثات جدة التي لم تسفر عن نتائج ملموسة حتى الآن، والتي قد تعاني من تضارب في الأجندات الإقليمية لبعض الأطراف المشاركة.
كما أن هذه الزيارة تمثل تموضعًا مبكرًا لقيادة ما بعد الصراع. ففي الوقت الذي يعمل فيه وفد صمود من أجل وقف إطلاق النار، فإنه في الوقت ذاته يؤسس لنفسه دوراً محورياً في أي ترتيبات مستقبلية. إن تأمين دعم دولة بحجم جنوب أفريقيا يضع الدكتور حمدوك وفريقه في موقع متقدم كقيادة مؤهلة ومقبولة دولياً لأي حكومة انتقالية مدنية مقبلة. هذا التحرك الاستراتيجي يهدف إلى التأكيد على أحقية المدنيين في قيادة المرحلة القادمة، ويضمن وجود صوت مدني قوي على طاولة المفاوضات عند صياغة مستقبل السودان. لكن هذه الجهود لا تخلو من تحديات داخلية، فالقوى المدنية نفسها قد تواجه تحديات التشرذم، وصعوبة الوصول الفعال لجميع شرائح المجتمع السوداني داخل البلاد، ومحدودية الموارد، مما يتطلب تضافر جهود شعبية واسعة لدعم هذه المساعي الدبلوماسية.
من جانب جنوب أفريقيا، لا تخلو الاستضافة من دلالاتها الخاصة أيضاً. فهي تسعى إلى تأكيد قيادتها الإفريقية وتعزيز نفوذها الدبلوماسي. لطالما سعت بريتوريا لتكون رائدة في حل النزاعات بالقارة، وهذا اللقاء يعزز صورتها كفاعل دبلوماسي رئيسي قادر على المساهمة في تسوية أزمات القارة المعقدة. كما أنها فرصة لجنوب أفريقيا لتأكيد دورها الفاعل في مواجهة الأزمات الأفريقية الكبرى، وتظهر التزامها بالسلام والاستقرار. ولا يمكن إغفال المصالح الاقتصادية طويلة الأمد، حيث يمكن أن يفتح استقرار السودان، وهو بلد غني بالموارد كالذهب والنفط والأراضي الزراعية الخصبة، أبواباً لفرص استثمارية للشركات الجنوب أفريقية في مجالات إعادة الإعمار والتنمية، مستفيدة من تجربتها الخاصة في البناء ما بعد الصراعات.
أخيرًا، هذه الزيارة لا تحدث في فراغ. توقيتها الحاسم في ظل فشل الحلول العسكرية وتفاقم الأزمة الإنسانية يبعث برسالة قوية إلى جميع الأطراف، بمن فيهم اللاعبون الإقليميون والدوليون الآخرون. إنها دعوة ضمنية لإعادة تقييم الاستراتيجيات المتبعة، ولإدراك أن أي حل مستدام يجب أن يضع الكارثة الإنسانية في صميم أولوياته، وأن يعتمد على حل سياسي شامل تقوده القوى المدنية ويدعمه المجتمع المدني والجماهير السودانية، بدلاً من إغراق البلاد في أتون صراع عسكري لا نهاية له. إنها محاولة جريئة لإعادة بوصلة السودان نحو الأمل، حتى لو كانت الدبلوماسية لا تزال تسير تحت الرماد.
|
|