واحشني !! كتبه ياسر الفادني

واحشني !! كتبه ياسر الفادني


06-19-2025, 01:05 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1750334725&rn=0


Post: #1
Title: واحشني !! كتبه ياسر الفادني
Author: ياسر الفادنى
Date: 06-19-2025, 01:05 PM

01:05 PM June, 19 2025

سودانيز اون لاين
ياسر الفادنى-السودان
مكتبتى
رابط مختصر




"واحشني" ليست مجرد أغنية... إنها قطعة وجدانية تتجاوز الغناء العابر لتلامس جوهر الإنسان حين يغترب في داخله، ويشتاق إلى من سكن تفاصيله حد الذوبان، هذه الأغنية التي كتب كلماتها الشاعر التجاني حاج موسى، وغناها ولحنها أبو عركي البخيت تمثل واحدة من أبهى لحظات الإبداع السوداني حين يلتقي الشعر الصادق بالصوت المجروح، واللحن العميق بالشعور الخام

منذ السطر الأول، يتضح أن الشاعر لا يتحدث عن غياب جسد فحسب، بل عن حضور روحي مُقيم رغم البُعد، "واحشني يا الخليت ملامحك في حياتي"، ليست شكوى حنين عادية، بل صيغة لغوية مركبة، تشي بأن من فارق، قد ترك في الملامح طيفًا لا يغادر، تلك صورة بلاغية مكثفة، حيث تصبح الملامح مرآة لمن غاب، والغياب إمتداد للوجود

"واحشني يا الرسيت مراسيك جوة ذاتي"، يستعير الشاعر هنا المفردات البحرية ليربط الحبيب بصورة السفينة التي رست في داخله، وتوقفت عند مراسيه الروحية، إستخدام كلمة "مراسيك" بهذه الطريقة يحوّل الذات البشرية إلى ميناء، ويمنح الغياب أبعادًا أكثر عمقًا، حيث لا يتعلق الأمر بمكان أو زمن، بل بتغلغل الآخر في أعماق النفس

ثم تأتي العبارة المفصلية: "إلا باكر لما ترجع، أنا بحكي ليك عن الحصل"، حيث يحتفظ المتكلم بقصته، بألمه، بتفاصيله، مؤجلًا البوح إلى لحظة اللقاء، وهي صورة من صور الصبر النبيل، والوفاء الذي لا يُقال دفعة واحدة، القصيدة تفيض بالأسى، لكنها لا تنزلق إلى الندب، بل تحتفظ بكرامة التعبير، وقوة التماسك الداخلي

في البناء البلاغي، تتقاطع المجازات والصور الشعرية بسلاسة لافتة، من "لفافات الصبر" إلى "غريبة غنت، فرحة... لا... غربة... لا"، حيث يُدخل الشاعر المتلقي في حالة ارتباك وجداني موازٍ، ويُجسد الارتباك النفسي للمتكلم عبر تردداته اللفظية التي تُحاكي التردد الداخلي وتلك من أنجح صور الشعر حين تعكس اللغة النفس

أما موسيقيًا، فإن لحن أبو عركي لا ينفصل عن النص، بل ينبثق منه، هو لحن شفيف، مكسور المقام كحزن عميق يعتمد على جمل لحنية قصيرة، تتكرر مع تغييرات طفيفة، ما يُعزز الإحساس بالدوار والاشتياق، وكأن الزمن لا يمضي، بل يعيد نفسه، الإيقاع شبه ساكن، بلا انفجارات ولا تقلبات حادة، ليترك مجالًا للعبارات أن تتنفس، وللصمت أن يكون جزءًا من اللحن

صوت أبو عركي هنا لا يُغني، بل يُناجي، يُرتّل، يبوح، بصوتٍ تغلفه الحشرجة أحيانًا، كأن الأحبال الصوتية نفسها مثقلة بالغياب، لا يركن إلى الزخرفة، ولا يستعرض طبقاته الصوتية، بل يمنح كل كلمة وزنها العاطفي الحقيقي، وكأن الصوت بحد ذاته امتدادٌ للنص

هذه الأغنية تمثل نموذجًا نادرًا في الوجدان السوداني: الأغنية التي لا تهدف إلى الطرب، بل إلى الإصغاء الداخلي. الشاعر لم يكتب ليستعرض مفرداته، والفنان لم يغنّ ليتصدر، بل التقيا معًا في منتصف الطريق بين الألم والجمال، ونسجا عملًا خالدًا، يُؤرخ للحظة إنسانية صادقة، عابرة للزمن

إني من منصتي استمع....حيث أستمتع بثنائية بين التجاني حاج موسى وأبوعركي البخيت، هي أغنية لا تُنسى، لأنها كُتبت لا من أجل جمهور، بل من أجل إنسان.