سودان ما بعد الثورة- لماذا تسقط حكومات الكفاءات تحت سنابك العسكر وأنياب المحاصصة؟

سودان ما بعد الثورة- لماذا تسقط حكومات الكفاءات تحت سنابك العسكر وأنياب المحاصصة؟


06-18-2025, 02:54 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1750254849&rn=0


Post: #1
Title: سودان ما بعد الثورة- لماذا تسقط حكومات الكفاءات تحت سنابك العسكر وأنياب المحاصصة؟
Author: زهير ابو الزهراء
Date: 06-18-2025, 02:54 PM

02:54 PM June, 18 2025

سودانيز اون لاين
زهير ابو الزهراء-السودان
مكتبتى
رابط مختصر





في بلاد تتقاذفها الأزمات وتنهشها الصراعات على السيادة، تبدو محاولة تشكيل حكومة كفاءات وطنية في السودان وكأنها بحث عن المعجزة في زمن الانهيار. فالمشهد السياسي محكوم بقوى الأمر الواقع: العسكر الممسكون برقبة الدولة، الحركات المسلحة
التي تحولت إلى أوليغارشيات محاصصة، وشبكات الإسلاميين العائدة من الظلال. وسط هذا كله، يضيع أي أمل في حكومة مدنية ذات فعالية، لا بسبب غياب الكفاءات، بل لأن الشروط الموضوعية لبقائها معدومة.
العسكر، الذين لم يغادروا مربع الهيمنة منذ الاستقلال، يديرون الدولة من وراء الستار، مستخدمين أدواتها الأمنية والعسكرية في توجيه القرار وتحصين المصالح. اتفاق جوبا، الذي كان يُفترض أن يكون خطوة نحو السلام، منَحهم — بحكم ما سمّي بـ"نصيب العسكر" — حق النقض
الدستوري على الوزارات السيادية. هذا الوضع جعل من فكرة "السيادة المدنية" مجرد طموح معلق، بينما تظل المؤسسات الأمنية والمخابراتية هي الحاكم الفعلي، لا مجلس الوزراء.

أما الحركات المسلحة، فقد تحولت من جماعات نضال إلى قوى سياسية مهيمنة، تتعامل مع السلطة بعقلية الغنيمة. الحقائب الوزارية في نظرها هي استحقاقات حرب لا تُناقش ولا تخضع للمساءلة أو لإعادة التوزيع العادل. رفضها لتعديل حصصها أو التخلي عن بعض المواقع من أجل تمثيل النساء والشباب
والمهمشين، يعكس عقلية إقصائية لا تختلف في جوهرها عن عقلية النظام البائد. لقد أصبحت هذه الحركات امتدادًا لدولة عميقة جديدة، تغلّف نفسها بشعارات التحرير بينما تمارس احتكار السلطة.

وفي الخلفية، لا يغيب شبح الإسلاميين. فمهما حاول البعض إنكار ذلك، فإنهم أعادوا تنظيم صفوفهم في النقابات والمجتمع المدني ومؤسسات الدولة، مستغلين هشاشة السلطة الانتقالية. لا يملكون اليوم القرار السياسي المباشر، لكنهم يملكون أدوات التعطيل والضغط
من تأجيج الشارع عند الحاجة، إلى تعطيل الخدمة المدنية، وصولًا إلى التشويش على أي محاولات إصلاح إداري أو سياسي. هذا الحضور الشبحي يمنحهم تأثيرًا يفوق بكثير وزنهم المعلن.

حين تُطرح فكرة حكومة كفاءات، تصطدم مباشرة بمجموعة من المعوقات التي تفككها من الداخل. أي محاولة لتقليص عدد الوزارات تصطدم بإصرار الفصائل السياسية والمسلحة على محاصصة تفوق الثلاثين منصبًا، ما يفرغ التشكيل من هدفه الأصلي، ويجعل\
الحكومة هيكلًا مترهّلًا مكوّنًا من وزراء ظل وواجهات لا تملك القرار. وإذا جرت محاولة استبعاد المحاصصة أو تجاوز منطق الغنيمة، تهدد الحركات المسلحة بالانسحاب من العملية السياسية، ما يفجّر شرعية اتفاق جوبا أمام المجتمع الدولي. أما إذا جرى ترشيح
كفاءات مستقلة، فإن العسكر يتدخلون لفرض أسماء من "المرشحين الأمنيين"، لتتحول الوزارات إلى واجهات صامتة تُدار فعليًا من غرف خلفية لا تُرى.
كل ذلك يجعل مهمة رئيس الوزراء المقبل، سواء كان إدريس أو غيره، أقرب إلى السير على حقل ألغام. المعضلة الأولى التي تواجهه هي معضلة الشرعية: فالشعب، الذي قدّم الدماء من أجل التغيير، يرفض تمثيل الحركات المسلحة في السلطة، بينما تحتفظ هذه
الحركات بشرعية تفاوضية ودولية تجعلها فوق النقد المحلي. أما المعضلة الثانية فهي معضلة التوازن: أي تنازل يُمنح للعسكر أو للمسلحين يكلّف الحكومة رصيدها الشعبي، وكل مواجهة معهما تُفجّر المسار الانتقالي برمته. المعادلة مستحيلة. أما المعضلة الثالثة
فهي الزمن. فالسودان يقف على حافة هاوية اقتصادية، مع تضخم يفوق 400%، وانهيار شبه كامل للخدمات، ونزوح جماعي يهدد استقرار الأقاليم.

في هذا السياق، تلوح في الأفق ثلاثة سيناريوهات للانهيار. السيناريو الكارثي يتمثل في انسحاب الحركات المسلحة من التفاوض وتحالفها مع العسكر لإسقاط الحكومة قبل تشكيلها، خاصة إذا شعرت بأن المكاسب تتسرب من يدها. السيناريو الثاني، وهو الأخطر
يتمثل في ولادة حكومة صورية، تُوقّع على قرارات لا تصدر عنها، بل من وراء الستار. هذه الحكومة ستكون مثل الجثة الهامدة: لا تموت لكنها لا تحيا. أما السيناريو الثالث، فهو الانفجار الشعبي، حيث يخرج الشارع من صمته، احتجاجًا على تدهور المعيشة
وتأخير الحكومة، ما يفتح الباب مجددًا لفوضى مفتوحة على كل الاحتمالات.

التاريخ القريب لا يبعث على الطمأنينة. تجربة الدكتور عبد الله حمدوك، رغم كل مثاليتها، انتهت إلى مأساة سياسية. فالرجل، الذي جاء برؤية كفاءات مستقلة، تم تطويقه من قبل العسكر، واستخدامه كدرع سياسي لتهدئة الشارع ورفع العقوبات، ثم جرى الانقلاب
عليه عند أول لحظة تعارض فيها الإصلاح مع مصالح القوى المهيمنة. كانت حكومته درسًا قاسيًا في أن الكفاءة وحدها لا تبني الدولة، ما لم تسبقها معركة حقيقية على مفهوم السيادة والقرار.

*المشكلة الجوهرية لا تكمن في الأشخاص، بل في المعادلة كلها. فإدريس أو غيره من رؤساء الوزراء لا يستطيع تحريك وزير ما دام العسكر يملكون رقعة الشطرنج وقطعها معًا.
لا يمكن بناء دولة بمؤسسات مسلحة ترفع شعار "ما أُخذ بالقوة لا يُسترد بالكفاءة".
النتيجة الحتمية لهذا المسار هي أحد خيارين مرّين: إما حكومة محاصصة هجينة تُبقي على النظام القديم بهيئة جديدة، أو مواجهة شاملة مع مراكز القوة قد تعيد البلاد إلى المربع الأول من العنف والفوضى.

في الحالتين، تظل تجربة حكومة الكفاءات في السودان مجرد فصل آخر في دراما انتقال سياسي مأزوم، فُرض عليه أن يتعايش مع أشباح الماضي بدل أن يكتب فجر المستقبل.