Post: #1
Title: تصعيد الشرق الأوسط تآكل الردع الإيراني وتشكّل نظام إقليمي جديد كتبه محمد هاشم محمد الحسن
Author: محمد هاشم محمد الحسن
Date: 06-16-2025, 04:40 AM
04:40 AM June, 15 2025 سودانيز اون لاين محمد هاشم محمد الحسن-Sudan مكتبتى رابط مختصر
لم يكن التصعيد الأخير بين إسرائيل وإيران مجرد تبادل نار، بل نقطة تحوّل صاغت موازين إقليمية جديدة وعرّت هشاشة الردع الإيراني. عملية (الأسد الصاعد)، التي نفذتها إسرائيل، تجاوزت كونها ردًا عسكريًا، وعبّرت عن عقيدة جديدة قائمة على الضربة الشاملة المتزامنة، مستهدفة العمق النووي والعسكري والاستخباراتي لإيران، وضاربة مفاصل بنيتها الأمنية والقيادية. أما (الوعد الصادق) الإيراني، فجاء كردٍ رمزي كشف أكثر مما عالج.
الهجوم الإسرائيلي استهدف ثلاثة أضلاع حيوية في المشروع النووي الإيراني( البنية المادية، الرأسمال البشري، ومنظومة الإطلاق). منشأة نطنز، التي تضم الجيل السادس من أجهزة الطرد المركزي، قُصفت بصواريخ خارقة للتحصينات، في محاولة لإخراجها من الخدمة بشكل دائم. كما طال القصف منشآت خنداب، برشين، وخورام آباد. في موازاة ذلك، نُفذت اغتيالات دقيقة طالت تسعة علماء نوويين بارزين، وقيادات عليا في الحرس الثوري، والجيش الإيراني، ضمن عملية استخباراتية برية أُعدّ لها مسبقًا داخل إيران. هذا لا يعكس فقط تفوقًا معلوماتيًا، بل يُظهر فشلًا كارثيًا في الحماية الداخلية لطهران.
الضربة شملت أيضًا أحياء حساسة في شمال طهران، مثل نياوران، قيطرية، محلاتي، وجيكتار، وهي مناطق يقيم فيها قادة سياسيون وعسكريون ودبلوماسيون. كما استُهدفت منشآت للاتصالات ومخازن الوثائق، ما يؤكد أن الموساد لم يخترق فقط المجال العملياتي، بل البنية العصبية للنظام الإيراني. حتى الأماكن المرتبطة بمخابئ النخبة ومنشآت الطوارئ لم تسلم، مما يشير إلى وجود بنك أهداف بالغ التفصيل داخل إيران.
نفذت الطائرات الإسرائيلية مهمتها عبر المجال الجوي السوري ثم العراقي، وصولًا إلى إيران، وعادت دون رصد أو مواجهة، وهو ما يبرز هشاشة الدفاعات الإيرانية والإقليمية. من المفارقات أن العملية وقعت بعد ساعات من مناورة (اقتدار) العسكرية الإيرانية، التي أعلنت خلالها طهران أنها قادرة على صد أي هجوم وتأمين مفاعل نطنز، قبل أن تُقصف مواقع المناورة نفسها. حسين سلامي، قائد الحرس الثوري، الذي أطلق تهديدات قبل الهجوم بساعات، كان من بين القتلى، ووقع الاجتماع الذي كان يحضره مع قادة من الصف الثاني لسلاح الجو هدفًا مباشرًا للقصف، في فشل استخباراتي مزدوج من حيث التوقيت والمكان.
أما المرشد الإيراني علي خامنئي، فاكتفى بتصريح مقتضب بعد الضربة قال فيه إن (الأفعال الشريرة التي ارتكبها الكيان الصهيوني لا ينبغي تضخيمها ولا التقليل من شأنها)، وهو ما فسّره البعض كمحاولة للتماسك الداخلي أكثر من كونه موقفًا قياديًا حاسمًا. تساءل كثيرون ، هل عجزت إسرائيل عن الوصول إلى خامنئي؟ أم أن بقاءه كان قرارًا تكتيكيًا؟ الأرجح، وفق المؤشرات، أن الأمر يحمل بُعدًا تفاوضيًا.
الولايات المتحدة، وإن أنكرت مشاركتها في الضربة، علمت بها مسبقًا، وبدا موقفها موجهًا بدقة لتجنّب استهداف قواعدها في الخليج، حماية الأسطول الخامس، إبقاء باب التفاوض النووي مفتوحًا، ومنع إغلاق مضيق هرمز، الذي تمرّ منه 26% من تجارة النفط العالمية. كما أن توقيت الضربة قبل الجولة السادسة من مفاوضات مسقط لم يكن عبثيًا، بل تقاطع مع شروط أمريكية متشددة رفضتها طهران، تتعلق بتفكيك الصواريخ الباليستية، رفع اليد عن المليشيات الإقليمية، وإعادة ملف التخصيب إلى مستوى 3% تحت إشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
الرد الإيراني جاء على شكل قصف صاروخي واسع النطاق ضمن عملية (الوعد الصادق)، استُخدمت فيها رؤوس متفجرة تزن أكثر من 600 كغ. الضربات شملت قواعد إسرائيلية (رامون، نيفاتيم، راماد ديفد)، محيط وزارة الدفاع، مجمع الكرياه، مركز تل أبيب المالي، ومناطق سكنية في تسع مدن، ونتج عنها مقتل 3 مدنيين وإصابة نحو 170حتى كتابة هذا المقال. ورغم الزخم، فإن الضربة لم تُسفر عن مقتل أي مسؤول إسرائيلي، ولم تدمر منشآت نووية أو دفاعية مركزية. اللافت أن الرد وقع فيما كانت إسرائيل تُواصل الاغتيالات داخل إيران، فطالت غلام رضا محرابي، رئيس الاستخبارات العسكرية، ومهدي رباني، نائب رئيس شؤون العمليات، إضافة إلى سبعة علماء نوويين آخرين.
إيران كانت تخطط لإطلاق ألف صاروخ، لكن عددًا كبيرًا من منصاتها دُمر في الضربة الأولى، ما دفعها للاكتفاء بـ150–200 صاروخ. وهذه إشارة إضافية إلى أن الوعد الصادق لم يكن وعدًا استراتيجيًا بقدر ما كان ردًّا رمزيًا. نعم، كشف أن سماء إسرائيل قابلة للاختراق، لكن لم تُسقط منظوماتها ولم تهتز قدرتها العملياتية. الفرق بين الضربتين كان واضحًا ، إسرائيل دخلت لتُدمّر، أما إيران فدخلت لتُثبّت حضورها المعنوي، وهو ما لم يكن كافيًا لتعويض خسارة البنية القيادية والعلمية والأمنية.
الضربة تركت النظام الإيراني هشًّا على المستوى الداخلي. لم تُسقط الدولة، لكنها غيّرت بنيتها، خامنئي بات وحيدًا في الهرم، وكبار قادة الحرس الثوري والجيش في عداد القتلى. التساؤل الجوهري لم يعد عن القدرة على الرد، بل عن القدرة على النهوض من ضربة بهذا العمق.
إقليميًا، برزت السعودية والإمارات كأكبر المستفيدين. فالهجوم نُفذ بالوكالة عنهم، دون تدخل مباشر أو ردود تطالهم. واشنطن قدمت الحماية عبر مدمراتها، وتل أبيب نفذت العملية، بينما عواصم الخليج حصدت مكاسب استراتيجية أهمها تحجيم النفوذ الإيراني، دون دفع كلفة سياسية أو عسكرية.
انعكست الضربة على شبكة حلفاء إيران أيضًا مثل حزب الله في لبنان، الحوثيون في اليمن، الحشد الشعبي في العراق، جميعهم باتوا أمام مشهد تغيّر فيه التمويل والغطاء السياسي. من المرجح أن يعيد هؤلاء تموضعهم، أو على الأقل يعيدوا النظر في جدوى الاستفزازات المباشرة في ظل ضعف الراعي المركزي. حتى المجموعات الحليفة لطهران في السودان وأماكن أخرى، قد تشهد انقطاعًا في خطوط التمويل والدعم نتيجة الضغط الداخلي على موارد إيران.
اقتصاديًا، ستواجه طهران تحديًا ضخمًا لإعادة بناء منشآتها، في ظل العقوبات والضغط الخارجي، مما يفاقم الأعباء المعيشية ويفتح الباب أمام اضطرابات داخلية محتملة. وقد تجد طهران نفسها في موقع تفاوضي أضعف على طاولة النووي، مدفوعة لا بالإرادة، بل بالحاجة الملحة.
حتى الآن، شهد المشهد الميداني تطورات أكدت كثيرًا من الاستنتاجات التي وردت في هذا المقال. فقد جدّدت إسرائيل غاراتها على شرق طهران وأصفهان وشيراز، مستهدفة منشآت نووية ومراكز أبحاث ومصانع صواريخ، ما يعكس أن بنك الأهداف لم يُستنفد بعد، وأن العملية لم تكن رمزية بل ممتدة ومفتوحة على مزيد من التصعيد. في موازاة ذلك، ظهرت في شوارع طهران صور لعدد من القادة الإيرانيين الذين قُتلوا، في محاولة لاحتواء التوتر الداخلي وتعزيز السردية التعبوية، ما يؤكد أن الضربة هزّت البنية القيادية للنظام.
على الجانب الإيراني، أشارت تصريحات صادرة عن مسؤولين أوروبيين إلى أن طهران بدأت فعليًا بطلب وساطات لوقف التصعيد، في مؤشر واضح على أنها باتت في موقع دفاعي وتسعى لتجميد الوضع قبل مزيد من الانهيارات.
لقد شكّلت الأسد الصاعد والوعد الصادق لحظة تعيد فيها المنطقة تعريف الردع، حيث لم تعد التهديدات تكفي، بل تُبنى المعادلات على التنفيذ. الشرق الأوسط ما بعد هذه المواجهة لن يكون كما قبله، وسقف الاشتباك لم يعد سياسيًا فقط، بل تجسيدًا ميدانيًا لقواعد تُكتب بالنار.
|
|