في خضمّ الصراعات التي تمزّق أوصال مجتمعاتنا، وتحديدًا في زمن باتت فيه نيران الحروب تلتهم الأخضر واليابس، يغيب عن أذهان الكثيرين الثمن الحقيقي الذي تدفعه البشرية. هذا الثمن ليس مجرد خسائر مادية أو أرواح تُزهق في ساحات القتال فحسب، بل هو إرث ثقيل من الألم والخوف يتوارثه الأجيال، ليُشكّل أجيالًا مشوهة تحمل ندوب الماضي الغائر.
لقد كشفت دراسات علمية حديثة، أجراها متخصصون كنديون على الناجين من المحرقة اليهودية في الحرب العالمية الثانية، عن حقيقة مرعبة،وهي إنّ آثار الكوارث الكبرى، كالمجاعات والحروب والأوبئة، لا تقتصر على الجيل الذي يعايشها فحسب، بل تمتد لتُلقي بظلالها على ثلاثة أجيال متتالية. هذه الظاهرة، المعروفة بـ (الإبيجنتكس) (علم ما فوق الجينات)، توضح كيف أن التجارب الصادمة يمكن أن تُحدث تغييرات على المستوى الجيني، تُورث من الآباء إلى الأبناء، ومن الأبناء إلى الأحفاد.
لفهم هذه الظاهرة، دعونا نتعمق في الجانب العلمي البحت. الإبيجنتكس لا يُغيّر التسلسل الأساسي للحمض النووي (DNA) نفسه، بل يُغيّر التعبير الجيني (gene expression) أي كيفية قراءة الخلايا للجينات واستخدامها للمعلومات. تخيلوا جينومنا ككتاب ضخم من التعليمات؛ الإبيجنتكس لا يُغيّر الكلمات داخل الكتاب، بل يُغيّر طريقة فتح الصفحات، وتظليل بعض الفقرات، وطي زوايا صفحات أخرى، مما يؤثر على الرسالة التي يتم استخلاصها.
تحديدًا، تركز الدراسات في هذا المجال على آليات مثل مثيلة الحمض النووي (DNA methylation) وتعديل الهيستونات (histone modification). فمثيلة الحمض النووي، على سبيل المثال، هي عملية كيميائية تُضيف مجموعات الميثيل إلى جزيئات الحمض النووي، والتي يمكن أن تُثبّط عمل جينات معينة. ولقد وجد الباحثون، مثل الدكتورة راحيل يهودا وفريقها في كلية إيكان للطب في ماونت سيناي، أدلة على أن أطفال ناجي المحرقة لديهم أنماط مثيلة مميزة في جينات معينة مرتبطة بالاستجابة للتوتر، مثل جين FKBP5، الذي يُنظم مستقبلات الجلوكوكورتيكويد (المسؤولة عن استجابة الجسم للتوتر). هذه التغييرات الإبيجنتيكية يمكن أن تُغيّر من استجابة الجسم للتوتر، مما يجعل الأجيال اللاحقة أكثر عرضة للاضطرابات النفسية مثل اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، الاكتئاب، والقلق، حتى وإن لم يتعرضوا للصدمة الأصلية بشكل مباشر.
ولم تقتصر هذه الاكتشافات على الناجين من الحروب فحسب. فقد أظهرت دراسات رائدة على أحفاد الناجين من المجاعة الهولندية في الحرب العالمية الثانية أنهم يواجهون خطرًا متزايدًا للإصابة بالسكري وأمراض القلب والأوعية الدموية، نتيجة لتغييرات إبيجنتيكية تُؤثر على استقلاب الغذاء. هذه النتائج تؤكد أن الصدمات البيئية الشديدة، سواء كانت حربًا أو مجاعة، تُحفر في شفرتنا الوراثية وتُمرر عبر الأجيال. إنّ هذه الآليات المعقدة تُفسّر كيف يمكن للصدمة أن تُؤثر على تطور الدوائر العصبية في الدماغ، مما يُضعف القدرة على التعلم، ويُخلّ بالذاكرة، ويُعيق تنظيم العواطف. ليس هذا فحسب، بل يمكن أن تزيد التغييرات الإبيجنتيكية من قابلية الإصابة بأمراض جسدية مزمنة مثل أمراض القلب، والسكري، واضطرابات المناعة الذاتية، نتيجة للالتهاب المزمن وخلل تنظيم الجهاز المناعي الذي يُعد من تداعيات التوتر الشديد.
هذا ليس مجرد حديث عن الآثار النفسية السطحية التي يمكن علاجها بمرور الوقت، بل هو عن تغييرات عميقة في بنية الإنسان، تنتج أجيالًا تعاني من اضطرابات نفسية، سلوكية، وحتى جسدية، دون أن تدرك دائمًا مصدر هذه المعاناة. إنّ صدمة مشاهدة الجثث، الخوف المتواصل من الموت، الرعب من فقدان الأحباء، التفكك الاجتماعي والنزوح القسري، كل هذه المشاعر المدمّرة لا تتبخر مع انتهاء الحرب أو زوال الكارثة. بل تتغلغل في النسيج النفسي والبيولوجي للناجين، لتُصبح جزءًا من تركيبهم الوراثي، تُنقل إلى أطفالهم الذين لم يروا الحرب، وإلى أحفادهم الذين وُلدوا في زمن السلم.
لذلك، عندما نُطالب بوقف الحرب، فنحن لا نُطلق شعارًا سياسيًا أجوف، بل نُردد صرخة علمية مدعومة بالبحث والبرهان، صرخة من أجل الحياة. نُطالب بإنقاذ مستقبل أجيال لم تُولد بعد من لعنة الماضي. فكل يوم تستمر فيه الحرب، بعد عامين ونيف من القتل والسحل والدمار والنزوح واللجوء والتشرد وانتشار الأمراض والأوبئة، يزداد فيه الثمن الذي سندفعه جميعًا. هذا الثمن ليس مجرد خسائر تُحصى بالأرقام، بل هو تغيير لا رجعة فيه في التركيب البيولوجي والنفسي لمجتمعاتنا.
يا دعاة الحرب، يا من تتراقصون على أشلاء الأبرياء وتتخذون من الدمار سلماً لمصالحكم! أنتم لا تُشعلون نارًا مؤقتة تُخمد بمرور الوقت، بل تُزرعون بذور خراب تُثمر أجيالًا مشوهة، تحمل في حمضها النووي وصمة هذا الدمار. إنّ متاجرتكم السياسية بالوضع الحاصل، وتخوينكم للآخر، لا يُقدّمان سوى الوقود لمحرقة أكبر، محرقة تستنزف الأرواح وتُنهك العقول وتُغيّر الجينات. فاتورة الدم هذه لن تُسدد بانتصار وهمي على أرض المعركة، بل ستُدفع لعقود قادمة على أسرّة المستشفيات النفسية المكتظة، وفي أقسام الأمراض المزمنة، وفي قاع المجتمعات المنهكة التي تُرزح تحت عبء أجيال لا تستطيع المساهمة بفعالية في البناء والتنمية. إنّها أجيال تُعاني من تداعيات نفسية عميقة مثل الاكتئاب المزمن، القلق الشديد، اضطرابات السلوك، وصعوبات التعلم، بالإضافة إلى المخاطر الجسدية الموروثة. هذه الأجيال ستُشكّل عبئًا هائلاً على أنظمة الرعاية الصحية والتعليم، وتُعيق أي محاولة للنهوض والتعافي المستدام، مما يُفاقم من العبء الاقتصادي والاجتماعي على المجتمعات والدول لسنوات طويلة قادمة.
أفيقوا أيها الجلادون! فالحرب لا تترك منتصرًا حقيقيًا، بل تترك خلفها ركامًا من الخراب والدمار، وأجيالًا مشوهة تتوارث الألم، لتُصبح هي نفسها ساحة حرب داخلية لا تنتهي. إنّ التكلفة البشرية للحرب أصبحت الآن تُقاس بعمق التغيرات الإبيجنتيكية التي تُورث عبر الأجيال. وهذا إقرار علمي لا يُمكن لأي متاجرة سياسية أن تُغيره أو تتجاهله. فهل أنتم مستعدون لتحمل هذه اللعنة التي ستلاحقنا لعقود، وربما لقرون، على شكل أجيال محطمة نفسيًا وجينيًا، ستحملون وزرها أمام التاريخ وأمام الضمير الإنساني؟ أم أن صوت الحياة، الذي بات يصرخ من أعماق الجينات، سيُعلي أخيرًا فوق ضجيج المدافع وهتافات الموت؟
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة