مقدمة : "السلام لا يعني غياب الحرب، بل استحالة اندلاعه" روبرت شومان.
في المئتي سنة الماضية شهد العالم اهتمامًا متزايداً بالنظم الفيدرالية، واليوم يعيش حوالي 40% من سكان العالم تحت نظم حكم فيدرالية ولاسيما في الدول ذات المساحة الجغرافية الكبيرة والخصائص الثقافية والعرقية والاثنية والدينية المركبة والمعقدة. في قارة آسيا مثلاً هنالك دولة مثل الهند تمثل نموذجًا فدراليًا يحتذى به وفي قارة امريكا الشمالية هنالك دول مثل الولايات المتحدة الامريكية وكندا وفي اوربا مثلاً توجد دول اسبانيا وسويسرا وبلجيكا … الخ وهي دول تواجه صراعاً داخلياً اثنياً ولغوياً وهوياتياً ظل محدداً لوحدة حدودها السياسية والإدارية ولو لا تطبيها للفيدرالية لما استطاعت هذه الدول أن تحقق الاستقرار السياسي الذي قاد إلى الازدهار الاقتصادي والثقافي والاجتماعي الذي نراه. في قارة إفريقيا مثلاً هنالك دول مثل نيجيريا واثيوبيا الفيدراليتان وهن تتشابهان في تركيبتهما الثقافية والاثنية والدينية وتشبهان السودان في كل شيء تقريباً. إذً نجحت هذه الدول في تحقق استقرارًا سياسيًا وتنمويًا أفضل واستطاعت نجيريا أن تكون أقوى أقتصاد في إفريقيا متجاوزة جنوب افريقيا ومصر والرابعة في السوفت بور وفقًا لتقرير 2025 الذي صدر من HEC في باريس. لو استجاب السودان لاراء نخبة التخوم في المطالبة بالفيدرالية لما تطور الأمر إلى حق تقرير المصير وانفصل جنوب السودان ولما وصل السودان إلى البؤس السياسي والتنموي الذي يعشه حاليًا جراء الحرب الأهلية المستمرة والمدمرة التي ما زالت تهدد استمرار بقاء حدوده السياسية والإدارية.
خلفية تاريخية : أنا لا أنظر إلى السودان باعتباره تكويناً استعمارياً كما ينظر له البعض ولا سيما دعاة جدلية المركز والهامش، بل هو تكوين وطني جاء نتيجة تراكم التجارب والخبرات السياسية والاجتماعية قبل أكثر من ثلاثة الف عام في امبراطورية كوش، مروراً بالممالك المسيحية والاسلامية والروحانية وما الاستعمار إلى "حادث" - بالطبع هذا التطور تخللته فترات مظلمة. بالنظر إلى التاريخ السياسي والاجتماعي للسودان - يعتبر السودان واحد من أقدم المناطق التي أستقر فيها البشر ونجحوا في إحداث قطيعة مع الحالة البدائية المتمثلة في حياة القنص واللقيط والتجوال وأسسوا القرى، وابتكروا فنون الزراعة واستئناس الحيوان ومن ثم بنوا المدن التي عملت كجهاز موحد ( Machine collective) وأحدثت تحولاً ثقافياً واقتصاديًا واجتماعياً ومعرفياً وإداريًا ودستوريًا مما قاد إلى بناء الدولة وبزوغ الحضارةً الأولى للجنس البشري، ومن ثم زحفت شمالا وأنتشرت في جميع انهاء العالم. لا يمكن أن يتقدم البشر دون أن يتوفر الأمن ويتحقق الإستقرار السياسي والذي لا يتم ألا عبر نوع من الإتفاق/ التوافق السياسي على إدارة شؤون القرية/المدينة/الدولة. للسودان تاريخ سياسي ودستوري ضارب في الجذور ساهم مساهمة فعاله في استقراره وازدهاره منذ كوش والممالك المسيحية إلى الممالك الإسلامية القوية في وسط وغرب السودان. يعطنا التاريخ السياسي والاجتماعي للسودان شكلًا من أشكال الحكم الفدرالي ويظهر ذلك جلياً في الممالك المسيحية التي تأسست في السودان وكيف تعاملت كل مملكة مع مكوناتها الاثنية والثقافية والدينية والطبقية وكذلك الممالك الإسلامية. سبقت هذه التجربة تجربة تأسيس الأسرة الأولى في كميت/مصر عندما قام نعرمر NARÉ MARÉ بتوحيد كميت العليا والسفلى في نظام فيدرالي جمع الجنوب والشمال عبر التعاقد السياسي وإعلان الاسرةً الأولى وتعين رئيسة وزراء (فزير) من النساء وهي الأولى من نوعها في التاريخ … المصدر (البروفسير كالالا أموتندي). أشهر الفيدراليات الحديثة هي فدرالية مملكة كوبا أو باكوبا في وسط إفريقيا التي أسست في القرن السادس عشر وتحدث عنه البروفسير شانسلار وليم في كتابه تدمير الحضارة السواء La destruction de la civilisation noire وأوضح نجاح مؤسسي مملكة كوبا في الإتفاق على نظام دستوري عبر التعاقد الاجتماعي Contrat Social وتبني نظام فيدرالي على رأسه ملك ومجلس للحكم ورئيس للوزراء. هذا النظام حقق استقرارًا سياسيًا مهماً وهو لا يختلف جذريًا عن الأنظمة الدستورية في الممالك الإسلامية للفونج والفور والمساليت والوداي ألا بقدر إختلاف الاهتمام الاكاديمي والسياسي الذي وجده كل على حداه. في الممالك الأخيرة ساد نظامًا فيدرالياً منح قوميات المملكة الحرية في الحفاظ على لغاتهم وإدارة شؤونهم المحلية من حفظ الأمن وتنفيذ بعض الاحكام القضائية وجمع الضرائب وصرفها ما أحترام سيادة المملكة في العلاقات مع جيرانها أو ما يعرف في يومنا هذا بالعلاقات الدولية.
الفيدرالية Fédéralisme
تعود جذورها إلى كلمة اللاتينية "Fœdus” وتعني العقد Contrat أو الميثاق Pacte أو إتفاقية Convention أو اتفاق accord. الفيدرالية هو نظام سياسي يحكم العلاقة بين الحكومة المركزية وحكومات الولايات الفدرالية ويحدد فيها صلاحيات تدخل الحكومة المركزية فيما يخص حقوق حكومات الولايات الفدرالية. في الحالة السودانية يطلق على التقسيمات الدستورية والإدارية الأقل من المستوى القومي بالولايات وفي الحالة السويسرية يطلق عليها الكانتونات Cantons وفي المانيا يطلق عليها ليندر Les Länder وفي الولايات المتحدة الامريكية تعرف بالولايات États. أبرز الفيدراليات الحالية هي الفدرالية السويسرية وهي مستمرة منذ العام 1291م بفضل تجمع ثلاثة (3) كونتينات سويسرية وهي تعتبر الاقدم في التاريخ السياسي الغربي، يليه فدرالية الولايات المتحدة الامريكية في دستور عام 1787م الذي لعب فيه الاسكندر هاملتون وجميس مديسون وجون جوي دورًا مهما "Les papiers fédéralistes d’Alexandre Hamilton et James Midsin et John Joy".
مفهوم النظام الفيدرالي النظام الفدرالي هو شكل من أشكال النظم السياسية يتشارك فيه الحكومات الفدرالية والحكومة المركزية الاختصاص الدستوري على أن تتمتع الحكومة المركزية بالسيادة الكاملة في كل ما يتعلق شأنه بالعلاقات الدولية واحتكار العنف الشرعي Monopole de de la violence. هنالك فرق واضح بين Fédération et Fédéralisme وللأسف لا توجد لها مرادفات واضحة في اللغة العربية ولذلك فضلت أستخدامها كما في اللغات اللاتينية وتحديدًا اللغة الفرنسية. الفدرالية Fédération يقصد به الحالة التي توجد فيها تشريعات على مستوى الحكومة المركزية وأخرى على مستوى أدنى Infra-étatiques مثل فيدراليات الاقاليم وفيدراليات الولايات/ المقاطعات في مستوى أقل، بالمقابل ل Fédéralisme وهي الحالة الشائعة، إذً توجد تشريعات على مستوى الحكومة المركزية وأخرى على مستوى الحكومات الفيدرالية الولائية والنقطة الجوهرية بين الإثنين - الأولى بها أكثر من مستويين للتشريع والثانيه بها مستويين للتشريع. غالباً ما تكون الدولة فيدرالية أما عن طريق الترابط وهذا ما حدث فعلًا في الولايات المتحدة الامريكية عندما تجمع 13 ولاية وأسسوا الإتحاد الفيدرالي وصاغوا الدستور بناءاً على ذلك وانضم اليهم بقية الولايات لاحقًا أو التفكك من دولة مركزية موحدةً إلى نظام فيدرالي كما في حالة بلجيكا.
يمتع النظام الفدرالي بعدة خصائص أبرزها :
أولاً : مشاركة القرارات الوطنية بين الحكومة المركزية والولاية الفدرالية ولا سيما التي تتعلق بادارةً وحماية موارد الولاية الفدرالية والحفاظ على ثقافتها ولغاتها وتنمية نفسها في المجالات التي يحتاج لها سكانها. ثانيًا : التعاون فيما يتعلق بالتشريعات وسن القوانين والقضاء والبنية التحتية وغيرها. ثالثاً : الاستقلال، حيث يتمتع حكومات الولايات الفدرالية بإدارة شؤونها المحلية من المدارس والمستشفيات وبناء طرق وتوطين الصناعة والدفاع عن البيئة وغيرها وتقديم الخدمات الأخرى دون تدخل صارخ من الحكومة المركزية ألا في المسائل التي تتعلق بالسيادة.
مزايا النظام الفيدرالي : 1- وسيلة لفك احتكار السلطة من يد الحكومة المركزية وتوزيعه بين الحكومة المركزية والحكومات الفدرالية مما يردع النزعات الانفصالية التي تعمل على أضعاف الدولة وتفكيكها ولاسيما في الدول ذات التركيبة الاثنية والعرقية والدينية المركبة والسودان غير مثال على ذلك. 2- يحفظ التوازن بين الوحدة وقبول التنوع الاثني والتعدد الثقافي والديني 3- النظام الفيدرالي لا يبحث عن الهيمنة ويعترف بحق الاختلاف الثقافي والديني. 4- نظام يوحد الدولة والشعب في قضية عامة تحفظ وحدته وفي نفس الوقت مقسم في قضايا مناطقية.
التجارب الفدرالية : أغلب الدول التي تبنت النظام الفيدرالي حققت أستقراراً سياسيًا مهماً باحتواء أزمة الثقة التي تهدد بعض القوميات والخوف من مستقبلها السياسي والوجودي. الاستقرار فتح لها آفاق للتقدم والازدهار وفي الولايات المتحدةً الامريكية مثلًا لو لا الفيدرالية لما استطاعت أن توحد نفسها وتظهر قوى عظمى في فترة قصيرةً نسبياً وكذلك هنالك دول أخرى في العالم تعاني من إدارة التنوع الثقافي والتعدد الديني ولكن نجحت في معالجة أزمة القوميات وخاصة اثيوبيا وماليزيا. النظام المركزي القابض فشل أن يحقق استقراراً في الدول التي تتكون من قوميات واعراق مختلفة وغالباً ما دفعت جماعات وقوميات إلى الاحتجاج ضد الحكومة المركزية وجزء كبير منها تحول إلى احتجاج مسلح كما في الحالة السودانية. من التجارب التاريخية للشعوب والدول يتضح أن لا مجال للاستقرار السياسي في السودان ألا بتأسيس نظام فيدرالي حقيقي وفعال قادر على إنهاء أزمة الثقة التي نشأت بين القوميات والمناطق في السودان والحكومة المركزية. هذا النظام يتحدد فيه صلاحيات الحكومية المركزية في المسائل التي تتعلق بالسيادة والعلاقات الدولية والأمن والدفاع والعملة والتعليم العالي على أن تكون بقية الصلاحيات للحكومات الفدرالية. في حالة نشوب نزاع إداري أو دستوري بين الحكومة المركزية وولاية فيدرالية أو بين الولايات الفدرالية فيما بينها أو بين الولايات الفيدرالية والحكومة المركزية تتدخل المحكمة العليا للفصل في هذا النزاع ويجب أن تشكل المحكمة العليا من السلطة التنفيذية والتشريعية مع مراعاة التوزيع الجغرافي والثقافي لأعضائه. بتطبيق الفيدرالية في السودان تستطيع كل ولاية أن تسن التشريعات التي تتناسب مع ثقافة مكوناتها واحتياجات سكانها وهذا يمكن بعض الولايات من سن تشريعات علمانية وخاصة المناطق التي بها تعدد ديني واضح ؛ إذًا استعصى تبنيه على المستوى القومي.
المصادر والمراجع : 1- La destruction de la civilisation noire - prof. Chanceler William s 2- Fédéralisme et fédération : dissiper les malentendus - prof. Micheal Burgess 3- Dictionnaire - LE ROBERT Illustré 2019 4- Une Histoire la d’Etat en Europe 5- الانظمة الفيدرالية رونالد ال. واتس
8 مايو 2025 لافال - فرنسا
05-09-2025, 06:21 AM
محمد عبد الله الحسين محمد عبد الله الحسين
تاريخ التسجيل: 01-02-2013
مجموع المشاركات: 11562
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة