Post: #1
Title: تمرد السفراء.. عيوب النخبة كتبه د. ياسر محجوب الحسين
Author: د. ياسر محجوب الحسين
Date: 05-08-2025, 03:56 PM
03:56 PM May, 08 2025 سودانيز اون لاين د. ياسر محجوب الحسين-UK مكتبتى رابط مختصر
أمواج ناعمة
كأن بلادي تقف اليوم على حافة مرآة مشروخة، نرى فيها صورتها الممزقة بين شروخ الداخل وأعاصير الخارج. المؤامرات تتزاحم كما تتزاحم الضواري على فريسة أنهكها النزيف، وأزمتنا الوطنية باتت مركّبة، تتداخل فيها خيوط الداخل المتشابكة مع خيوط الخارج المتربص. في قلب هذا المشهد المرتبك، يقف الجيش السوداني كأحد أهم أعمدة هيكل الدولة، ممسكًا بتلابيب الجغرافيا، لكن الأرض الطيبة تهتز من تحته بفعل الحرب والخيانة والخذلان.
الحرب المشتعلة مع مليشيا الدعم السريع أحد الأدوات العميلة يريدونها عاصفة تسحق ما تبقى من تماسك المؤسسة العسكرية. فضلا عن تداعي الاقتصاد كأوراق خريف ذابلة، كل ذلك رسم مشهدا قاتما وإن لم ينتبه أحرار الوطن فإن ذلك ينذر بأن الريح التي عصفت بموقد الدولة في الصومال قد تهبّ مجددا من بوابة السودان. والخطر الأكبر يأتي من أيادٍ خارجية تحرك أرقوزات داخلية تغزل على نول الأزمة خيوط خيانتها.
الطامعون يبحثون عن الذهب يزرعون نفوذهم في رمال الفوضى، ولا يكاد يعلم الجار القريب أن جيش السودان سند يحمي خاصرتها الجنوبية، بينما يسعى الدب الأبيض متطلعا إلى مراسي البحر الأحمر طمعا في مرجان غريق. وفي الخلفية، يتحرك آخرون بعيدون وقريبون بخيوط تسوية واهية، مترددة الخطى، مختلفة الأهداف. كل طرف يحرّك بيادقه، وبلاد بعانخي بدت رقعة مفتوحة على كل الاحتمالات.
لكن ماذا عن النخبة؟ تلك التي يُفترض أن تكون ضمير الوطن وسُفنه وقت العاصفة؟ للأسف، تحوّلت إلى ريح عاتية، تهدم أكثر مما تبني. بتمرد بعض السفراء على سلطات الدولة، وإعلانهم مواقف سياسية خارج إطار المؤسسات، ليس إلا علامة على تصدع جدران وازع الضمير الوطني لديهم. لعمري إنها لظاهرة نادرة في العالم، لكنها في السودان المنكوب أصبحت واقعا مخزيا، وقد تحولت الوظيفة العامة إلى طيف هش تتقاذفه الأهواء.
الإعلام الذي يفترض أن يكون مرآة الحقيقة، صار بعضه الوالغ في مستنقع العمالة طبولا تُقرع في معارك تصفية الحسابات. لغة التخذيل، ونغمات التحريض، وسرديات الانقسام العرقي والجهوي، تحوّلت إلى نار تحت رماد وطن يبحث عن مرفأ.
وهنا يبرز شبح الصومال ملوّحا بذكراه القاتمة. بعد سقوط سياد بري في 1991، تفكك الجيش كما يتفتت الملح في الماء، وتحولت البلاد إلى رقعة فسيفساء من الإدارات المسلحة. ظهرت صوماليلاند كجمهورية منسية، بينما اختارت بونتلاند أن تمسك بخيط الفيدرالية، في توازن هش بين الانفصال والبقاء. ذلك كان في الشمال، أما الجنوب فابتلعته الفوضى.
فهل يمضي السودان على خطى ذلك النموذج، لكن في مشهد أكثر اتساعا وتعقيدًا؟ بلد شاسع، تتنازع روحه أطراف داخلية وخارجية، وموجات لهجرات مريبة كلٌّ منها يشدّ رداءه نحو شطر.
لا تزال هناك نافذة للنجاة، لكنها لا تُفتح إلا بمفتاح الوعي واستئصال سرطان الخيانة. يجب أن تعود النخبة إلى رشدها، أن ترى نفسها لا كمقاتل في معركة وهمية، بل كمهندس لجسر وطني عابر للخنادق. لا بد من إصلاح المؤسسات، لا بصفتها غنائم في حرب السلطة، بل باعتبارها أعمدة لبناء دولة مدنية متماسكة. الإعلام، بدوره، عليه أن يغادر ساحة التحريض، ويعود منبرا للحقيقة والضمير الجمعي.
إن النخبة التي تتصالح مع ذاتها، وتعترف بأخطائها، هي وحدها القادرة على بعث انقاذ السودان من الفناء. فثمة أمل لا يزال ينبض تحت الركام، وثمة شعب، رغم الجراح، يحمل في ذاكرته إرثا من الصبر والحكمة. إذا صمتت بنادق الارتزاق العمالة، وهدأت رياح الطمع وحظوظ النفس الأمارة بالسوء، فقد يعود للوطن صوته، ويولد من جديد.
|
|