الاستاذ ياسر عرمان بين معسكر الحرب، والثورة، والفشل الأبدي: او: حين يُحاضر الفشل باسم الحكمة: تأملا

الاستاذ ياسر عرمان بين معسكر الحرب، والثورة، والفشل الأبدي: او: حين يُحاضر الفشل باسم الحكمة: تأملا


05-04-2025, 11:49 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1746355776&rn=0


Post: #1
Title: الاستاذ ياسر عرمان بين معسكر الحرب، والثورة، والفشل الأبدي: او: حين يُحاضر الفشل باسم الحكمة: تأملا
Author: خالد كودي
Date: 05-04-2025, 11:49 AM

11:49 AM May, 04 2025

سودانيز اون لاين
خالد كودي-USA
مكتبتى
رابط مختصر



الاستاذ ياسر عرمان بين معسكر الحرب، والثورة، والفشل الأبدي:
او: حين يُحاضر الفشل باسم الحكمة: تأملات في سردية عرمان

خالد كودي – بوسطن، 3 مايو 2025

تمهيد:
في مقاله المنشور بتاريخ 2 مايو 2025، يقدّم الأستاذ ياسر عرمان خريطة تحليلية للمشهد السوداني المعاصر، مقسمًا الصراع القائم إلى معسكرين للحرب – الجيش والدعم السريع – ومبشرًا بحوجة ملحّة إلى معسكر ثالث، تمثله بحسب رأيه "القوى المدنية الديمقراطية المرجّحة"، التي يرى أنها القادرة على تحقيق شعارات الثورة: الحرية، السلام، والعدالة. ورغم ما يبدو على الطرح من توازن لغوي وأناقة خطابية، إلا أن بنيته التحليلية تقوم على اختزال مخِل، وإخفاء فادح للتناقضات البنيوية في هذه القوى المدنية التي يمثلها أو ينطق باسمها ويقترحها.
ما يطرحه عرمان ليس فقط خطابًا مصابًا بالعمى السياسي تجاه الواقع، بل هو محاولة لإعادة تدوير قوى ثبت فشلها مرارًا، عبر خطاب أخلاقي فوقي يتجاهل التاريخ، ويتنكر لمواقع الصراع الحقيقية، بل ويساوي بين الثورة والردة عليها، وبين ميثاق مكتوب ومعلن مثل ميثاق تأسيس، ودولة قهرية قوامها البرهان والمخابرات والمليشيات الإسلامية.

أولًا: معسكرات السودان ليست ثلاث قوى متوازنة، بل ثلاث بنى متغايرة:
١/ معسكر الحرب البنيوي الحقيقي:
يتمثل في دولة بور سودان بقيادة الفريق عبد الفتاح البرهان. هذا المعسكر هو الامتداد الأكثر سافرة للدولة الكولونيالية المركزية التي أعادت إنتاج ذاتها من خلال تحالفها مع الإسلاميين منذ 1989، ثم كرّست سلطتها عبر شراكات شكلية مع المدنيين خلال الفترة الانتقالية. التعديلات الأخيرة على الوثيقة الدستورية، بما فيها تعيينات مثل دفع الله الحاج وعمر صديق – وهما من رموز الجهاز الأمني المرتبط بحزب المؤتمر الوطني – تعكس التوجه الفعلي نحو ترسيخ ديكتاتورية عسكرية مقنّعة. وهي بنية، كما علّق سمير أمين، تقوم على "الاستعمار الداخلي" الذي يمارس العنف لا على أطراف خارجة، بل على الشعب نفسه.
٢/ معسكر الثورة الحقيقية
ويتمثل في تحالف "تأسيس"، الذي يضم قوى ثورية تشمل الحركة الشعبية لتحرير السودان–شمال، قوى نسوية، شبكات مقاومة، منظمات نازحين، ومثقفين نقديين. وهو أول تحالف في تاريخ السودان يؤسس رؤيته على وثيقتين مكتوبتين هما: "الميثاق التأسيسي" و"الدستور الانتقالي 2025"، ويتبنيان بوضوح لا لبس فيه لأول مرة في تاريخ السودان:
- علمانية الدولة،
- الحق في تقرير المصير،
- العدالة التاريخية كتصحيح للغُبن الطبقي والإثني والجهوي،
- إعادة بناء مؤسسة عسكرية جديدة و على أسس جديدة،
- نظام لامركزي عادل وغير زبائني،
- إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية على أسس جديدة،
- تفكيك الدولة المركزية واعتراف كامل بالهامش.
إن تحالف "تأسيس" لا يُختزل في الدعم السريع كما يحاول خصومه إيهام الناس، بل هو تحالف متعدد الأطراف، يقوم على نصوص مكتوبة، مفتوحة للنقد، ومنشورة، يمكن مقارنتها بأية وثائق أخرى – إن وُجدت
٣/ معسكر الفشل الأبدي:
يتمثل في القوى المدنية التي شاركت في شراكة الدم (2019–2021) مع العسكر، ثم وقفت مذهولة أمام انقلاب البرهان في 25 أكتوبر 2021، دون أن تمتلك القدرة على المقاومة. هذه القوى، التي تتمثل اليوم فيما يسمى "تحالف صمود" وبعض بقايا الحرية والتغيير، لم تطرح يومًا مشروعًا جذريًا لتفكيك الدولة القديمة، بل ظلت تدور في فلك شعارات فضفاضة مثل: "جيش واحد، وطن واحد، سلطة مدنية"، دون مساءلة حقيقية لمعنى الجيش أو من يملك الوطن.
ثانيًا: في احتيال التقسيم العرماني:
إن ما يطرحه الأستاذ ياسر عرمان من مساواة بين تحالف "تأسيس" وسلطة بورتسودان يمثّل تحايلاً سياسيًا فادحًا يفتقر إلى الحدّ الأدنى من النزاهة المعرفية. فسلطة بور سودان لا تقوم على تحالف سياسي أو مشروع مدني، بل على استعادة مكشوفة لبنية الدولة الأمنية–العسكرية التي أعادت تمكين الإسلاميين من مفاصل القرار من خلال تعديلات دستورية أحادية. ومن أبرز هذه التعديلات: إلغاء القيد المدني على قرارات القائد العام للقوات المسلحة، إعادة تفعيل أجهزة الأمن السياسي تحت مسميات جديدة، فتح المجال لتعيين رموز من النظام السابق في مواقع سيادية، وتهميش أي دور فعلي للسلطة التنفيذية المدنية.
هذه ليست مجرد تجاوزات إجرائية، بل تمثّل ما يمكن تسميته بـ"الردة الدستورية"، أي العودة الكاملة لمشروع الدولة الإسلامية–العسكرية بواجهة محدثة. وفي المقابل، فإن تحالف "تأسيس" لا يقوم على رغبة انتهازية في قسمة السلطة، بل على ميثاق مكتوب، مفتوح للنقد الموضوعي، وذو مرجعية ثورية واضحة.
إن مقارنة الأستاذ عرمان بين الطرفين لا تعكس قراءة متأنية للواقع، بل تكرّس مساواة زائفة تُغفل الفارق بين من يمتلك مشروعًا تحرريًا مؤسَّسًا، ومن يستند إلى القوة العارية والتفويض الإلهي. ومثل هذه المقارنة – في سياقها السياسي – لا يمكن وصفها إلا بأنها تعمية أيديولوجية تسعى لإعادة تعويم قوى سقطت أخلاقيًا، عبر مهاجمة المشروع الثوري الوحيد الذي يطرح بوضوح تفكيك الدولة القديمة من جذورها.

ثالثًا: تحالف “تأسيس” بوصفه الكتلة التاريخية الجديدة:
ما يُطلق عليه الأستاذ ياسر عرمان اسم "الكتلة المدنية المرجّحة" ليس سوى إعادة تدوير لقوى مدنية فقدت شرعيتها الأخلاقية والسياسية في سياق تاريخي موثق. هذه القوى – التي دخلت في شراكة مع المؤسسة العسكرية عبر الوثيقة الدستورية لعام 2019، ثم صمتت على مجزرة فض الاعتصام في يونيو، وأعقبت ذلك بمحاولات تفاوض جديدة عقب انقلاب 25 أكتوبر 2021 – لم تُقدم في أي مرحلة من المراحل مشروعًا جذريًا لتغيير بنية الدولة السودانية، بل اكتفت بإدارة تفاوضات حول تقاسم السلطة ضمن نفس الهياكل المهترئة.
في المقابل، فإن تحالف "تأسيس" يمثّل من حيث التكوين والوظيفة والرؤية ما يمكن أن نسميه – بمصطلحات أنطونيو غرامشي – "الكتلة التاريخية"، أي التحالف العريض الذي يجمع بين قوى اجتماعية مهمشة، ومكونات ثورية، ونخب فكرية عضوية، تتقاطع جميعها في مشروع تغيير جذري يتجاوز البنية التحتية والفوقية للنظام القائم.
أهمية "تأسيس" لا تنبع فقط من تعددية مكوناته (الحركة الشعبية لتحرير السودان–شمال، الدعم السريع، كيانات مقاومة مدنية، تنظيمات نسوية، منظمات نازحين، نقابات مستقلة، ومثقفين من الهامش)، بل من التحول المعرفي والإجرائي في إنتاج الرؤية السياسية نفسها: فللمرة الأولى، تُصاغ الوثائق الحاكمة – كالوثيقة التأسيسية والدستور الانتقالي – من خارج الحلقات النخبوية المركزية التي سيطرت على المجال السياسي منذ الاستقلال.
هذه الرؤى لم تنبثق من غرف مغلقة في الخرطوم أو مقار النخب، بل تشكلت في خضم المقاومة، في الجبال والمعسكرات والمخيمات وفي الشتات، كنتاج لحوار عضوي بين قوى تعيش تبعات الاستعمار الداخلي، لا تنظِّر له من مسافة.
من هذا المنظور، فـ"تأسيس" ليس تحالفًا سياسياً ظرفياً، بل هو التعبير السياسي عن كتلة تاريخية صاعدة، تعي ضرورة تفكيك المركز لصالح تأسيس سودان جديد، متعدد، علماني، ديمقراطي، وعادل. وأي محاولة للتقليل منه أو مساواته بقوى إصلاحية فشلت في إدارة الانتقال، ليست فقط تجنياً على الوقائع، بل تنكُّرًا لتحول تاريخي يلوح في الأفق السوداني لأول مرة منذ عقود.

رابعًا: وهم بناء الجيش المهني عبر اصلاح الجيش القائم دون ثورة بنيوية:
يُكثِر الأستاذ ياسر عرمان في خطابه من التذكير بشوارع الثورة، ويدعو إلى بناء "جيش مهني ووطني"، لكنه يتغاضى عن الحقيقة الجوهرية التي وثّقتها الشوارع ذاتها بدمها: أن هذا الجيش – بقيادته، وعقيدته، وبنيته الاجتماعية والإثنية – لم يكن يومًا جيشًا للشعب، بل حارسًا لبنية السلطة المركزية التي ولِدت من رحم الاستعمار وتمدّدت بإرث الجبهة الإسلامية. إن الحديث عن إصلاح جيش قائم على قمع ممنهج، دون الدعوة إلى تفكيكه، هو إنكار لأبسط دروس التجربة السودانية، ومحاولة لإعادة إنتاج الوهم الإصلاحي في ثوب ثوري
كما كتب فرانز فانون بوضوح في معذبو الأرض:
"الذين يريدون تطهير البيت دون قلب أثاثه، لا يَسْعَون إلى تحرر حقيقي، بل إلى استبدال السيّد بآخر أكثر تهذيبًا."

وهذا ما يقع فيه خطاب عرمان: التماس رضى المؤسسة العسكرية القائمة، بدل مواجهتها كأداة هيكلية للقهر السياسي والاجتماعي.
توماس سانكارا، يؤيد فانون في التحليل حين قال:
"لا يمكننا بناء جيش جديد يخدم الشعب، إذا لم نُنهِ الجيش القديم الذي تأسس لحماية الطغاة."
كذلك كتب ريكاردو دوشيه، أحد رموز الثورة السلفادورية، أن:
"كل جهاز قمعي تمكّن من البقاء بعد الثورة، سيُعيد إنتاج القمع باسم حماية الثورة ذاتها".
في ضوء ذلك، لا يعود الحديث عن الجيش المهني مجرّد خطأ في التحليل، بل انحرافًا عن منطق الثورة نفسه، حين يتم تغييب حقيقة أن هذا الجيش هو الذي أطلق الرصاص على المتظاهرين، وأشرف على غرف التعذيب، وكان شريكًا في الفضّ الدموي للاعتصام، وفي صفقات الحكم بعد الثورة.
في هذا السياق، تحالف “تأسيس” يُشكّل نقطة فارقة. فهو التحالف الوحيد، منذ الاستقلال، الذي لم يكتفِ بالدعوة إلى إعادة هيكلة الجيش، بل نصّ صراحة – في ميثاقه ودستوره – على تفكيك الجيش القائم، وبناء جيش وطني جديد من خارج مؤسسات الدولة القديمة.
وقد بُني هذا الموقف انطلاقًا من أسباب موضوعية:
- أن الجيش الحالي يُجسّد عقيدة أمنية مناهضة للثورة
- أن قياداته تشكلت تاريخيًا عبر التمكين الإسلامي والمؤسسية القبلية
- أن البنية الإثنية للجيش تعكس مصالح المركز، وتستبعد الأغلبية المهمّشة
- أن بقاء هذا الجيش هو ضمان لاستمرار الدولة القمعية ولو بواجهة مدنية
ولذا، فإن أي خطاب يطالب ببناء جيش مهني دون أن يبدأ من قطيعة جذرية مع الجيش القائم، هو خطاب محافظ، لا ينتمي إلى الثورة، وإن تسمّى باسمها. وهو، بتعبير جورج جاكسون، "أداة للتماهي مع السلطة لا لنسفها".
وبالتالي، فإن "تأسيس" لا يتفوق على مشاريع القوى المدنية فقط في شجاعته، بل في عمق وعيه التاريخي بأن لا تغيير دون صراع مؤسسي، وأن لا مؤسسة أهم من الجيش في بنية الدولة السودانية، سواء كمشكلة أو كمفتاح للحل.

خامسًا: في العجز التاريخي للقوى المدنية عن معالجة جذور الأزمة السودانية:
منذ مؤتمر الخريجين عام 1938، مرورًا بكل الحكومات المدنية والعسكرية، وبكافة التيارات السياسية من اليمين القومي إلى اليسار الماركسي، لم تستطع النخبة السودانية – بمختلف مواقعها – أن تُقدّم تشخيصًا واضحًا لجذور الأزمة الوطنية، ناهيك عن طرح مشروع لمعالجتها. ظلّ خطابها يتمحور حول وحدة وطنية مُتخيَّلة، ومفاهيم عائمة كالمدنية، دون الاقتراب الجاد من الأسئلة المؤسِّسة للدولة السودانية: سؤال القوميات، اللامركزية، مركزية السلطة، العلمانية، وتوزيع الثروة والسلطة على أسس عادلة ومنصفة.
لقد كانت ثورة أكتوبر 1964 نموذجًا كلاسيكيًا لهذا العجز: انتفاضة شعبية أطاحت بالحكم العسكري، لكنها عادت لتُسلِّم السلطة لنفس النخب التي أسست النظام القديم. أما في انتفاضة مارس–أبريل 1985، فقد تكررت المأساة؛ أطاحت الجماهير بجعفر نميري، ليعود الإسلاميون والبيروقراطيون إلى صدارة المشهد عبر الانتخابات، دون أي إصلاح في مؤسسات الدولة. وعندما اندلعت ثورة ديسمبر 2018، كُررت الأخطاء ذاتها: تحالف مدني–عسكري لم يكن متكافئًا، شراكة واهنة انقلب عليها العسكر بسهولة، وعادت الدولة الأمنية إلى السطح باسم "الوثيقة الدستورية".
هذه المحطات – رغم اختلاف شعاراتها وأطيافها السياسية – اجتمعت على أمر واحد: الفشل في تسمية الجرح السوداني الحقيقي. لم تُطرح مسألة الهامش كمشكلة بنيوية. لم تُناقش مركزية الخرطوم بوصفها استعمارًا داخليًا. لم يُطالب بحق تقرير المصير كحق ديمقراطي. ولم تُعالج العلمانية إلا بوصفها شبهة، لا كشرط أساسي لبناء وطن متعدد ومتكافئ.
إن هذه الإخفاقات لا تُنسب فقط إلى القوى الحاكمة، بل إلى التيارات السياسية كافة، بما فيها من كانت ترفع شعارات التغيير من موقع المعارضة. فحتى اليسار السوداني، الذي استلهم من الماركسية أدوات تحليل الطبقات والسلطة، تردّد تاريخيًا في تبني قضايا الفيدرالية وتقرير المصير والعلمانية بوضوح، وساهم – أحيانًا – في إدامة خطاب الدولة المركزية بدعوى الحفاظ على وحدة الوطن، ولايزال للأسف!
والنتيجة، أننا اليوم نواجه نفس الدولة، بذات بنيتها القمعية، لا فرق بين أن تتحدث بلسان الجيش أو بلسان مدنيين متحالفين مع الجيش. إنها دولة ما بعد الاستقلال التي لم تُبْنَ يومًا على أسس العدالة، بل على التوازنات، والمحاصصات، والترضيات، وإقصاء الأغلبية باسم الإجماع والوطنية.
ولهذا، فإن أي حديث عن استعادة المشروع الوطني من داخل نفس القوى التي صنعت أزماته، هو حديث عقيم. والمخرج لا يكون باستعادة لحظة "مدنية" خائبة، بل بتأسيس لحظة جديدة تُصارح التاريخ، وتُبني على الاعتراف لا على الإنكار.

أخيرا: ما يكشفه خطاب الأستاذ ياسر عرمان – دون أن يعلنه صراحة – هو أن معركة "تأسيس" القادمة لن تكون فقط ضد سلطة عسكرية متجددة في بور سودان، بل أيضًا ضد تحالف واسع من النخب المدنية القديمة التي أدمنت موقع الوسيط بين الشارع والسلطة. فبدل أن تفتح هذه النخب أفقًا جديدًا لمفهوم "المدنية"، تُبشّر الآن بعودة مشروع فاشل، يسعى إلى تطبيع الخراب تحت لافتة "الكتلة الثالثة" أو "القوى الديمقراطية المرجحة"، بينما كل ما تُرجّحه في الواقع هو إخفاقات الماضي وشروطه المعطوبة.
تحالف "تأسيس" لا يُقلق البرهان وحده، بل يقلق طبقة كاملة من السياسيين الذين صاغوا تاريخ السودان الحديث عبر تفاهمات فوقية، وهندسة اجتماعية تُقصي المهمشين، وتحتقر التجارب التي لا تُدار من صالونات الخرطوم. لذا، فإن محاولات تشويهه وربطه بالدعم السريع، ليست إلا التمهيد النظري للتآمر عليه، تمهيدًا لعزله سياسيًا، وربما أمنيًا، إذا ما وجدت هذه القوى فرصة لإعادة إنتاج سلطتها تحت غطاء "الانتقال الديمقراطي".
لكن ما لا تفهمه هذه النخب أن الزمن تغيّر. فـ"تأسيس" ليس مشروع نخبة، بل مشروع كتلة تاريخية صاعدة، تكوّن من لحم الهامش، ومن مقاومة قاعدية لم تأتِ عبر منح، ولا عبر مؤتمرات عابرة وسطحية، بل عبر النضال والمعاناة والإصرار على تسمية الأشياء بأسمائها. هذا التحالف لا يُهادن الجيش، بل ينصّ صراحة على تفكيكه وإعادة بنائه. لا يطلب شراكة شكلية، بل يُطالب بدولة جديدة. لا يكتفي بشعارات السلام، بل يربطها بإحقاق العدالة التاريخية، لا الانتقالية وحسب.
وبينما تُروّج النخب القديمة إلى تسويات جديدة، وتدّعي الحكمة في التعفف عن الصراع، يمضي تحالف "تأسيس" في مواجهة مفتوحة، يعرف طبيعتها الاجتماعية والطبقية، ويدرك أن لا سلطة تُمنح، بل تُنتزع. وكما كتب غرامشي: "كل أزمة كبرى هي لحظة لبزوغ كتلة تاريخية جديدة، إن امتلكت الوعي والشجاعة." وتحالف "تأسيس" يمتلك كليهما.
المعركة إذًا، هي بين مشروع يسعى لتجديد قهر قديم، ومشروع لا يُجامل الماضي ولا يخشى الحاضر. وبين من ينتظر التوافق مع النظام، ومن يعمل على اقتلاعه من جذوره. ومن لم يفهم ذلك بعد، فهو إما متواطئ، أو حالم بأن تعود الدولة القديمة في ثوب جديد.
وسلامٌ على من لم يكتفِ بقراءة غرامشي، بل ترجم مفاهيمه إلى خنادق العمل، لا إلى صيغ الخطاب. أما "تأسيس"، فهو ليس تحالفًا فقط، بل وعدٌ مكتوبٌ بميلاد تاريخ جديد، لا تنتجه الصدفة، بل تصنعه الكتلة التي امتلكت وعيها.

النضال مستمر والنصر اكيد.