رغم حرص مصر التقليدي على الحفاظ على استقرار السودان باعتباره امتدادًا طبيعيًا لأمنها القومي، فإن نهجها في التعامل مع الحرب السودانية الراهنة كشف عن ارتباك سياسي واستراتيجي. إذ ظلّت القاهرة تراهن على المؤسسة العسكرية، وتحديدًا الفريق عبد الفتاح البرهان، كحليف رئيسي، متجاهلةً التغيرات البنيوية التي طرأت على المشهد السياسي والاجتماعي في السودان منذ الثورة وحتى اندلاع الحرب الأخيرة.
في هذا السياق، يبدو أن الاستمرار في الاعتماد الحصري على طرف واحد — لا سيما في نزاع داخلي مركّب — قد يُفضي إلى نتائج عكسية، ما لم تُعِد مصر ضبط رؤيتها لعلاقتها بالخرطوم، بما يشمل قوى مدنية واجتماعية صاعدة تتجاوز الاصطفافات العسكرية القديمة.
أولاً: من رهانات الأشخاص إلى رهانات الهياكل تعتمد السياسة المصرية تقليديًا على ربط العلاقات الرسمية برموز السلطة، وهو ما حدث مع الرئيس السابق عمر البشير، ويُعاد إنتاجه اليوم مع الفريق البرهان. غير أن التجربة أثبتت أن هذه الرهانات غير مستقرة، إذ يمكن أن تنهار ببساطة مع تغيّر موازين القوى أو بانكشاف عزلة تلك الشخصيات عن الداخل السوداني. ينبغي للقاهرة، إذا ما أرادت سياسة مستدامة، أن تراهن على "الهياكل" لا "الأشخاص"، أي دعم مسار يُفضي إلى بناء مؤسسات انتقالية جامعة لا ترتبط بزعيم مؤقت أو بحالة طوارئ دائمة.
ثانيًا: الانفتاح على القوى المدنية خارج الزي العسكري من مصلحة مصر أن تتوسع في دائرة علاقاتها بالسودانيين، لا أن تحصرها في مقر القيادة العامة. القوى المدنية، رغم تشتتها، لا تزال تحتفظ بشرعية الشارع وبشبكات ممتدة داخل السودان وخارجه، وهي التي قادت الثورة ضد البشير وأسّست لمرحلة انتقالية رغم ما اعتراها من ضعف سياسي. يمكن لمصر أن تلعب دورًا محوريًا في جمع المدنيين والعسكريين على طاولة حوار، أو على الأقل أن تحافظ على حياد بنّاء لا يربط سياستها بمصير طرف واحد في الحرب.
ثالثًا: البحر الأحمر كمساحة للتعاون لا التنافس "تتزايد المخاوف المصرية من الحضور الروسي والإسرائيلي والأميركي في البحر الأحمر، خصوصًا بعد ما تردد عن منح حكومة الأمر الواقع في بورتسودان تسهيلات عسكرية لبعض هذه القوى، مما أثار قلقًا إقليميًا بشأن عسكرة الساحل السوداني." الميناء المصري – السوداني المشترك على شواطئ أبو عمامة، الذي جرى الحديث عنه في وقت سابق، يمكن أن يشكل نموذجًا بديلًا لصراعات النفوذ.
رابعًا: في التعامل مع الإسلاميين… واقعية دون فوبيا تدرك القاهرة ثقل الإسلاميين داخل المؤسسات السودانية، لكنها في الوقت ذاته تخشى عودتهم إلى الحكم. التعامل العقلاني يقتضي القبول بوجودهم كقوة اجتماعية وسياسية لا يمكن محوها، لكن مع العمل على ضمان عدم عودتهم في صيغة شمولية كما كان الحال في عهد الإنقاذ. من الأفضل دعم تسوية تسمح بمشاركتهم وفق ضوابط دستورية، بدلاً من الدفع نحو إقصاء شامل قد يعيدهم إلى العمل السري أو التحالف مع قوى أكثر تشددًا.
خامسًا: الحدود والدعم السريع… احتواء لا انخراط مع اقتراب قوات الدعم السريع من مناطق قريبة من الحدود الشمالية، ينبغي لمصر أن تُوازن بين تأمين حدودها وبين عدم الانزلاق إلى مواجهة مباشرة. الانخراط العسكري لن يكون في صالح القاهرة، بينما سيكون من الأجدى الضغط على حلفاء الدعم السريع لوقف تمددهم نحو الشمال، ودعم أي مسار للتهدئة والتسوية السياسية.
إن السياسة المصرية تجاه السودان بحاجة إلى مراجعة جذرية. ما بعد الحرب لن يشبه ما قبلها. السودان تغيّر — فاعلوه، توازناته، وشرعياته. ولن يكون لمصر دور فاعل ولا نافذ ما لم تُعد تعريف أمنها القومي بطريقة شاملة وعقلانية، لا تختزل السودان في "رجل قوي"، بل تعامله كدولة متشعبة، متغيرة، ومعقدة، لكنها لا تزال جارة أساسية في معادلة الاستقرار الإقليمي.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة