Post: #1
Title: أن تُولد من الرماد أو تموت مع الركام: الخيار الأخير للقوى المدنية بين تحالف "التأسيس" وجيش الإسلامي
Author: خالد كودي
Date: 04-30-2025, 05:45 PM
05:45 PM April, 30 2025 سودانيز اون لاين خالد كودي-USA مكتبتى رابط مختصر
أن تُولد من الرماد أو تموت مع الركام: الخيار الأخير للقوى المدنية بين تحالف "التأسيس" وجيش الإسلاميين: أين تقف القوى المدنية السودانية ماهو مستقبلها؟
29/4/2025 خالد كودي، بوسطن مدخل: الحرب كسؤال وجودي في قلب الدولة السودانية: حين يُعلن قائد الجيش السوداني أن "المجد للبندقية"، مستعيدًا دون وعي خطابات عمر البشير التي سوّغ بها الاستبداد تحت راية السلاح، فإننا لا نواجه مجرد شعارٍ عبثي، بل لحظة كاشفة لجوهر المأزق السوداني: سلطة لا تؤمن بالسياسة إلا حين تُفرَض بقوة النار. اندلاع الحرب في 15 أبريل 2023 بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، لم يكن مفاجئًا ولا مجرد تنازعٍ على الحكم بين فصيلين مسلحين، بل كان، في جوهره، النتيجة المتأخرة لانفجار دولة تأسست منذ الاستقلال على نفي التعدد وقمع الهامش واحتكار القوة. إنه، كما يصف عالم الاجتماع ماكس فيبر، الاختبار الحاسم لاحتكار العنف المشروع، وهو اختبار سقطت فيه الدولة السودانية سقوطًا نهائيًا. لكن ما الذي يتبقى حين تسقط الدولة؟
ما الذي يتبقى حين تُستدعى مليشيات الإسلام السياسي، ويُعاد تدوير خطاب الجهاد، وتُعلن "كتائب العلماء" الحرب باسم "الكرامة الوطنية"؟
ما الذي يتبقى حين لا يكون للمدنيين من المدن غير الأنقاض، ومن السياسة غير الذكريات؟ في هذه اللحظة التاريخية السوداء، لا يُطرح سؤال "من سيحكم؟"، بل يُطرح سؤال أعمق:
أي نوع من الدولة يُمكن أن يُبنى وسط هذا الخراب؟
وهل تستطيع القوى المدنية، التي كانت دومًا تتأرجح بين الحذر والتردد، أن تتحمّل مسؤوليتها الكاملة في هذا المفترق؟ إن المقال التالي لا يقدّم وصفًا سياسيًا فقط، بل هو محاولة جذرية لتحليل ما يجري باعتباره نهاية مرحلة وبداية أخرى، يقف فيها السودان على حافة ما يسميه إدغار موران "الانهيار/الانبعاث"، ويتطلب من القوى المدنية أن تُقرّر:
إما أن تولد من الرماد، أو أن تموت مع الركام، وطبعا لها ان تستمر علي هامش التاريخ!
من منظور التحليل التاريخي، يمكن أن تُطرح الأسئلة التالية، لا بوصفها أسئلة طارئة، بل كأسئلة جوهرية تم تجاهلها لعقود: - هل كانت الدولة السودانية، منذ الاستقلال عام 1956، دولة مواطنة فعلية أم دولة امتيازات جهوية وعرقية مموهة بشعارات قومية؟ - هل امتلكت النخبة الحاكمة وعيًا تأسيسيًا يجعلها تفكر في بنية الدولة، أم أنها ورثت نموذج الدولة الاستعمارية وأعادت تشغيله لمصالحها؟ - لماذا عجزت القوى المدنية والسياسية السودانية، على مدى أكثر من نصف قرن، عن طرح تصور جذري يتعامل مع تعقيدات الواقع السوداني الإثني والثقافي والجهوي؟ - ما الذي يجعل مشروع الدولة المركزية الهوياتية يبدو مغريًا للنخب رغم كل كوارثه؟ وهل فشل هذا المشروع قد بات بنيويًا لا عَرَضيًا؟ إن الإجابة على هذه الأسئلة تتطلب الانتقال من الخطاب السياسي التقليدي إلى ما يسميه بارينغتون مور في دراسته الكلاسيكية "أصول الديكتاتورية والديمقراطية"، "تفكيك مسارات التأسيس الفاشلة"، أي تفكيك البنية التكوينية التي أنتجت الدولة السودانية كمؤسسة للإقصاء، لا كأفق للتعايش والمواطنة. إن ما تشهده البلاد اليوم من حرب ليس حدثًا طارئًا، بل انفجارٌ تاريخي متأخر لأزمة متجذرة في بنية الدولة. إنها لحظة فارقة تفرض علينا مراجعة شاملة لكل ما اعتبر في السابق "ثوابت وطنية"، بدءًا من تصورنا للهوية، مرورًا بعلاقة الدين بالسياسة، وانتهاءً بسؤال من يملك الحق في تقرير شكل الدولة. وعليه، يسعى هذا المقال لا إلى تفسير الحرب فقط، بل إلى اقتراح أفق تأسيسي جديد للدولة السودانية، أفق يتأسس على العقلانية، والعلمانية، والديمقراطية، والاستجابة الصريحة للواقع المركّب للمجتمع السوداني، لا على أوهام الدولة الموروثة من الحقبة الكولونيالية.
أولًا: الجيش السوداني والإسلاميون – من احتكار العنف إلى إعادة إنتاج دولة القهر: إن قراءة المشهد السوداني الراهن تقتضي تجاوز السرديات التبسيطية حول الحرب الجارية، والولوج إلى جذور العلاقة بين العنف والدولة، وتحديدًا دور الجيش السوداني في بنية السلطة منذ الاستقلال. فرغم ما تردده بعض الخطابات حول حياد المؤسسة العسكرية، إلا أن الوقائع التاريخية تشير إلى أن الجيش لم يكن يومًا مؤسسة وطنية بالمعنى الجمهوري، بل كان أداة مركزية لإعادة إنتاج الهيمنة الجهوية والطبقية، كما أشار المؤرخ محمد سعيد القدال بوضوح في كتابه "تاريخ السودان الحديث" وغيره كثر في سياقات متعددة لما فيها التجارب المباشرة. تموضع الجيش، تاريخيًا، كدرع للنخب النيلية الطائفية، ومارس دورًا مباشرًا في قمع الهويات الثقافية والسياسية الأخرى في الجنوب، جبال النوبة، الفونج ، دارفور، وشرق السودان. ومع انقلاب 30 يونيو 1989، دخل الجيش في تحالف عضوي مع الإسلاميين، لا بوصفه جهازًا تنفيذيًا فقط، بل كمؤسسة أيديولوجية تبنت مشروع "التمكين" الإسلامي، بناء علي ما اسموه بالمشروع الحضاري، وشاركت في بناء ما يمكن تسميته بالدولة الفاشية الدينية. هذه التجربة – تجربة الإنقاذ – هي المثال السوداني لما يسميه المؤرخ الأمريكي تيموثي سنايدر بـ"الدولة الأيديولوجية المسلحة"، والتي لا تكتفي بفرض النظام بالقوة، بل تعيد هندسة المجتمع نفسه استنادًا إلى رؤية دينية–عرقية مغلقة. اليوم، تعيد الحرب الجارية إنتاج هذا التحالف، في نسخة أكثر توحشًا، حيث عادت كتائب الإسلاميين تحت مسميات جديدة – مثل كتائب البراء بن مالك، الدفاع الشعبي، وألوية الفتح – لتُشكّل ذراعًا تعبويًا للجيش في سعيه لاستعادة السيطرة، بدعم من حكومة بورتسودان التي تسن قوانين: - تجرّم العلمانية والفدرالية/الحكم الذاتي - تعيد تفعيل لجان "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" بأسماء واشكال وسلطات جديدة - وتؤسس لسلطة عسكرية–دينية هجينة هذه القوانين ليست فقط خطًا رجعيًا ضد الثورة، بل تمثل ما وصفه أنطونيو غرامشي بـ"أزمة الهيمنة" حين تفقد الطبقة الحاكمة قدرتها على الإقناع وتلجأ للعنف كمصدر وحيد للشرعية (المجد للبندقية). وبالتالي، فإن قراءة دور الجيش اليوم لا يمكن أن تتم بمعزل عن أيديولوجيته المتحالفة مع الإسلام السياسي، وسعيه لتأبيد السيطرة عبر القمع والتعبئة العقائدية.
ثانيًا: الدعم السريع – من مليشيا جهوية إلى فاعل سياسي بين الهامش والمركز: قوات الدعم السريع وُلدت من رحم الدولة الأمنية لنظام البشير، حيث نشأت في سياق الحرب في دارفور كمليشيا موجهة لضرب حركات الكفاح المسلح (التمرد المسلح)، ولكنها كانت في جوهرها امتدادًا لعقيدة الجيش في استخدام أبناء الهامش لضرب الهامش نفسه. هذا النمط من التوظيف الأمني للمجتمعات الطرفية هو ما يسميه بيير بورديو بـ"اقتصاد العنف الرمزي"، حيث يتم استدماج المهمشين في أدوات قمعهم. مع سقوط البشير، وجدت قوات الدعم السريع نفسها في لحظة انتقالية، حيث أُزيل الغطاء السياسي الذي تستظل به، وباتت تبحث عن شرعية بديلة، سواء عبر المشاركة في الانتقال، أو عبر التحالفات الجهوية. ومع الثورة، حاولت القوى المدنية استيعاب الدعم السريع بوسائل رمزية، لكنها فشلت في خلق علاقة استراتيجية معه، فتركت فراغًا ملأه الإسلاميون لاحقًا غير أن الدعم السريع، بعد اندلاع الحرب، بدأ يتحرك في اتجاه مختلف: من مليشيا هامشية إلى فاعل سياسي يبحث عن موقع جديد داخل معادلة الدولة. وفي هذا الإطار، اتجه إلى تحالف مع الحركة الشعبية لتحرير السودان–شمال بقيادة عبد العزيز الحلو، والذي يشكّل منذ سنوات مركز الثقل الفكري والسياسي لمشروع السودان الجديد.
التحالف تُوّج بتوقيع وثيقة "ميثاق التأسيس" في فبراير 2025، والتي تمثل، من منظور المقارنة التاريخية، ما يشبه "ميثاق شارترو" في الثورة الفرنسية أو "دستور الحرية" في جنوب أفريقيا – أي لحظة تعاقد جديدة بين الهامش والمستقبل. الميثاق نص على مبادئ فوق دستورية تشمل: - علمانية الدولة كضمان لمساواة المواطنين. - حق تقرير المصير كمخرج من التبعية الجهوية. - العدالة التاريخية كاستجابة لمظالم استعمار داخلي دام أكثر من ستين عامًا. - بناء دولة لامركزية تقوم على التوزيع العادل للسلطة والثروة. هذه الرؤية تتقاطع مع ما يسميه يورغن هابرماس بـ"الشرعية التواصلية"، حيث لا تُبنى الدولة على أساس الماضي، بل على توافق حرّ بين مكونات الأمة حول المستقبل المشترك. إنها دولة المواطنة، لا الغلبة.
من زاوية القوى الإقليمية والدولية: تواطؤ المصالح وغياب الرؤية: عند النظر إلى المشهد السوداني من زاوية الفاعلين الدوليين والإقليميين، تظهر صورة مشوشة تختلط فيها المصالح مع الشعارات، والبراغماتية مع الخطاب الحقوقي. على المستوى العربي، فإن الإمارات والسعودية تتأرجحان بين المصالح الأمنية والاقتصادية، إذ ترى كل منهما السودان بوصفه ساحة تنافس جيوسياسي، لا بوصفه كيانًا وطنيًا بحاجة لإعادة التأسيس. الإمارات دعمت الدعم السريع لفترات طويلة، قبل أن تميل إلى الموازنة بين الجيش والمكونات الأخرى. أما السعودية، فهي حريصة على حفظ استقرار البحر الأحمر، دون التورط في دعم مشروع جذري قد يزعزع المنطقة. على المستوى الغربي، تواصل الولايات المتحدة رفع شعار دعم "الانتقال الديمقراطي"، لكن دون امتلاك أي رؤية بنيوية لمعالجة جذور الأزمة السودانية. بل إن استراتيجيتها تبدو أقرب إلى إدارة الأزمات أكثر منها إلى حلّها، متبنية نموذج "السلام الهش" دون مساءلة بنية الدولة القمعية التي أنتجت الحرب. أما المجتمع الدولي، وخصوصًا الاتحاد الأوروبي ومؤسسات الأمم المتحدة، فهو لا يزال غارقًا في مفاهيم ما بعد الحرب الباردة: "الحوكمة الرشيدة"، "الاستقرار"، و"بناء السلام"، وهي مصطلحات صيغت أصلاً لتطبيقها في دول ما بعد النزاعات الأهلية التقليدية، لا في دول مثل السودان، حيث يجب أولاً تفكيك بنية الدولة القديمة لا مجرد ترقيعها. وعلى الصعيد الإفريقي، فإن الاتحاد الإفريقي، رغم تبنّيه خطاب السيادة والوحدة، لم يبدُ منحازًا إلى تحوّل جذري في السودان حتي الان. فهو، تاريخيًا، مال إلى دعم الحكومات القائمة، أيًا كانت طبيعتها، بدعوى منع التفكك. ولم تُظهر مؤسسات مثل IGAD أو دول الجوار كإثيوبيا وتشاد وجنوب السودان استعدادًا لدعم موقف جذري مباشرة، بل ظلّت هذه الدول مترددة، ورهينة لمصالحها الأمنية الخاصة، أو لضغوط قوى دولية تملي عليها من تتعامل معه. في هذا السياق، يصبح تحالف التأسيس - رغم كل تناقضاته وتعقيداته – الطرف الوحيد الذي يطرح بديلًا هيكليًا حقيقيًا للدولة السودانية. إنه لا يكتفي بتحدي السلطة المركزية التقليدية، بل يقترح هندسة سياسية جديدة تقوم على مبادئ: - التعدد الثقافي والجهوي والديني، - المواطنة لا التبعية، - العدالة التاريخية لا المصالحة الشكلية. لكن هذا المشروع، رغم طموحه، لا يخلو من تعقيدات عملية. فتأسيس حكومة انتقالية لتحالف التأسيس سيواجه تحديات كبيرة، لكن يمكن التغلب عليها. على مستوى الشرعية السياسية: كيف تُبنى مؤسسات تمثل المكونات المتعددة دون إعادة إنتاج المركز؟ على مستوى التمثيل العسكري: كيف تُدار العلاقة بين قوات الدعم السريع وقوى الكفاح المسلح الأخرى؟ على مستوى الداخل السوداني: كيف يمكن إقناع المناطق التي عانت من الدعم السريع بأن هذا التحالف لا يمثل إعادة إنتاج للعنف؟ وعلى مستوى الخارج: كيف تُقنع الدول الإقليمية والدولية بمشروع جذري دون الخضوع لإملاءات الشركاء ان كان لابد من هؤلاء الشركاء؟ ورغم كل ذلك، يبقى "ميثاق التأسيس" هو القراءة السياسية الوحيدة المتسقة مع طبيعة الأزمة السودانية. فهو لا يتوسل الماضي، ولا يهادن الحاضر، بل يتجه نحو المستقبل، مقترحًا دولة عقلانية علمانية ديمقراطية في سودان متعدّد.
أما ما عداه، فليس سوى محاولة جديدة لتجميل الخراب، أو إعادة تدوير البنية الجائرة القديمة بأدوات وأسماء جديدة، وسيقود حتما الي استمرار الحروب.
ثالثًا: القوى المدنية – غياب الرؤية، أزمة القيادة، وتكلس الخيال السياسي: القوى المدنية السودانية – بين وهم المركز وضرورة التأسيس: منذ ثورة ديسمبر 2018، احتلت القوى المدنية موقع الصدارة في التعبئة الجماهيرية، واستطاعت أن تنتزع لحظة سقوط نظام البشير، أحد أكثر الأنظمة استبدادًا ودموية في تاريخ السودان الحديث. غير أن هذه اللحظة سرعان ما تحوّلت إلى حالة انكشاف بنيوي، حيث ظهرت محدودية هذه القوى، لا فقط على مستوى التنظيم، بل في عمق رؤيتها السياسية، وقدرتها على طرح مشروع وطني جذري يستجيب لتعقيد الواقع السوداني. القوى المدنية التي تشكلت أساسًا من تحالف قوى الحرية والتغيير، والتي ورثت خطابًا قوميًا–مدنيًا، تعاملت مع الثورة كأزمة سلطة لا كأزمة دولة. وقعت في وهم "الشراكة مع العسكر"، دون إدراك أن بنية الدولة السودانية قائمة على العنف البنيوي والإقصاء الهيكلي للهامش، لا على الاختلالات الظرفية. وقد سادت داخل هذه القوى مفاهيم ليبرالية سطحية عن "الانتقال الديمقراطي"، واستعارات من ثورات عالمية دون فهم للخصوصية السودانية. في هذا السياق، تصبح مقولة أشيل مبمبي عن "العقل ما بعد الكولونيالي الذي يعيد إنتاج الاستعمار من موقع الضحية" أكثر من توصيف نظري؛ إنها تشخيص دقيق لمسلك القوى المدنية التي لم تنجح، تاريخيًا، في الانحياز للهامش، بل اختارت التواطؤ مع مراكز القوة، أو تبنت الحياد كقناع للاحتفاظ بموقعها داخل الدولة دون مساءلة جذورها. وقد أثبت تاريخ السودان منذ الاستقلال أن ما يُسمى بالقوى المدنية لم يكن كتلة واحدة متجانسة، بل طيف واسع يتراوح بين: - القوى الطائفية التي شاركت في بناء الدولة المركزية القامعة (الأحزاب التقليدية/ القيادات التقليدية). - والقوى اليسارية التي، رغم شعاراتها، لم تستطع تقديم بديل فعلي للهامش (الحزب الشيوعي نموذجًا). - ومجموعة من النخب المدنية التي احتكرت مفاصل الدولة ومؤسساتها من موقع النخبة الثقافية والإدارية. وحتى بعد الثورة، حين كان الظرف التاريخي يسمح ببناء عقد اجتماعي جديد، انقسمت هذه القوى بشكل أمّيبي، واحتفظت بنفس الوجوه، لتفشل في التأسيس لبنية مدنية ثورية حقيقية.
رابعًا: ما المطلوب من القوى المدنية؟ نحو تعاقد جديد في سودان ما بعد الخراب: في ظل هذا الانهيار الشامل، حيث تُدار الحرب بين جيش الدولة القديمة وقوى التأسيس الناشئة من الهامش، لم يعد ثمة موقع رمادي للقوى المدنية. فالعاصمة مدمّرة، والنظام القانوني مفكك، والمجتمع في حالة عسكرة كاملة، والمعارضة السياسية لم تعد قادرة حتى على تعريف ذاتها: من يُعارض من؟ ولماذا؟ وكيف؟ في مثل هذا السياق، لا تعود الأسئلة حول "الانتقال" أو "العدالة الانتقالية" ذات معنى، ما لم تُطرح من داخل مشروع وطني جديد. المطلوب اليوم ليس مجرد مواقف، بل إعادة تأسيس الرؤية والموقع والدور. وهذا يقتضي: ١/ الاعتراف بانهيار مشروع السودان القديم: - الإقرار بأن الدولة التي تأسست بعد الاستقلال لم تكن دولة وطنية، بل دولة مركزية صفوية–طائفية بنت شرعيتها على الإقصاء. - الفشل لم يكن في النخب فقط، بل في النموذج نفسه، النموذج الذي اعتبر الهامش احتياطيًا للعمالة والدم، لا مكونًا سياسيًا كاملاً. ٢/ الانحياز الواضح لمشروع السودان الجديد. - ليست خيارًا ثقافيًا بل شرطًا لتأسيس دولة حديثة تتسع للتعدد. - العدالة التاريخية ضرورة أخلاقية وسياسية لمعالجة إرث المذابح والتهميش، لا مجرد آلية تعويض. - تقرير المصير ليس تهديدًا للوحدة، بل وسيلة لتحقيقها إنسانيًا، عبر الرضا لا الإكراه. "كتلة تاريخية" : ٣/ بناء جبهة مدنية تقدمية ١/ تتجاوز الثنائية الزائفة بين العسكر والدعم السريع. ٢/ تنخرط نقديًا مع تحالف "التأسيس" من موقع الاستقلال لا التبعية. ٣/ تطرح تصورًا عقلانيًا لدولة مواطنة، لا لدولة منقذة ولا دولة فقيه. ٤/ الاشتباك على المستوى الثقافي والفكري: - تفكيك حلم، و أسطورة "الدولة الإسلامية" كقدر نهائي. - إعادة كتابة التاريخ من منظور الضحايا لا المنتصرين. - تأسيس خطاب إعلامي وتعليمي يُربّي على التعدد والحقوق، لا على الهيمنة والتماثل. كما قال فرانز فانون: "كل جيل، في ظل ظروفه الخاصة، عليه أن يكتشف مهمته التاريخية، ويحققها أو يخونها".
اليوم، جيل الثورة السودانية والقوى الثورية المنتمية له، أمام هذه اللحظة الفاصلة: إما أن تُعيد إنتاج مأساة السودان القديم، أو تنخرط، بشجاعة ومسؤولية، في بناء وطن جديد يليق بتضحيات من ماتوا لأجله.
اخيرا: استدعاء الشجاعة الأخلاقية ومسؤولية القطيعة: كما يذكّرنا الفيلسوف إدغار موران، "كل أزمة كبرى تفتح إمكانيات جديدة أو تؤكد مآسي قديمة". ولكن الأزمات، رغم عنفها، لا تنتج بدائل بذاتها؛ إنها فقط تكشف الاستعداد الداخلي للمجتمعات والقوى السياسية على إنتاج واقع جديد. والسودان، في هذا المنعطف الدموي والحاسم، لا يحتاج فقط إلى استجابات ظرفية، بل إلى ثورة عميقة في الضمير السياسي المدني. إن القوى المدنية السودانية اليوم، بكل أطيافها، لم تعد تملك ترف الالتفاف أو التسويف أو الحياد. لقد أصبحت المسألة وجودية، لا سياسية: هل هي قوى معنية حقًا ببناء وطن يتسع لجميع السودانيين، أم أنها جزء من منظومة تعيد إنتاج الدولة المأزومة نفسها، ولو بثياب مختلفة؟
لقد آن الأوان لأن تُدرك أن التحوّل الجذري لا يمكن أن يتم دون مخاطرة، ودون كسر المحرّمات، ودون ثمن. المطلوب اليوم هو نضج سياسي وأخلاقي، شجاعة في الانحياز لا إلى ما هو ممكن وفق ميزان القوى الراهن، بل إلى ما هو صحيح من منظور أخلاقي وتاريخي. والمطلوب أيضًا التحرّر من الابتزاز السياسي والديني الذي لطالما مارسه الإسلاميون باسم “الهوية” و”الوطنية” و”الخصوصية”، وهم في واقع الأمر يمارسون الاستعلاء والتمييز والهيمنة باسم الله والدولة والتاريخ. إن مشروع السودان الجديد لا يُقدَّم بوصفه برنامج طرف سياسي، بل بوصفه إطارًا تأسيسيًا لأمة طال تغييبها. إنه المشروع الوحيد الذي يُواجه بنية الدولة القديمة في جوهرها: دينيًا، وثقافيًا، وسياسيًا.
فمن تبنّى العدالة التاريخية، والعلمانية، وحق تقرير المصير لا يسعى لتفكيك السودان، بل لإعادة بنائه على أسس جديدة من الكرامة الإنسانية، والمواطنة المتساوية، والمشاركة الحقيقية في السلطة والثروة. وعليه، فإن القوى المدنية مطالبة اليوم بأن تختار:
إما أن تكون قوى مسؤولة تؤسس لسودان الغد،
أو أن تكون صدى باهتًا لصراعات الماضي.
وإذا اختارت الصمت أو التواطؤ أو التوازن الزائف، فإنها لن تكون محايدة، بل شريكة في الجريمة. وكما قال فرانز فانون: "لكل جيل مهمته التاريخية، إما أن ينجزها أو يخونها".
فهل ستكون القوى المدنية السودانية على قدر اللحظة؟
أم أنها ستخون ما تبقى من الوطن، وتتركه نهبًا لسيوف الماضي؟
النضال مستمر والنصر اكيد.
|
|