من الفتح إلى الفتك: السيف كمرجعية سياسية في خطاب هيئة علماء الإسلاميين السودانيين كتبه خالد كودي

من الفتح إلى الفتك: السيف كمرجعية سياسية في خطاب هيئة علماء الإسلاميين السودانيين كتبه خالد كودي


04-30-2025, 01:26 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1745972776&rn=0


Post: #1
Title: من الفتح إلى الفتك: السيف كمرجعية سياسية في خطاب هيئة علماء الإسلاميين السودانيين كتبه خالد كودي
Author: خالد كودي
Date: 04-30-2025, 01:26 AM

01:26 AM April, 29 2025

سودانيز اون لاين
خالد كودي-USA
مكتبتى
رابط مختصر







فشل مشروع علماء السودان: بين إعادة إنتاج الفاشية الدينية وتدمير النسيج الوطني:
(2)
خالد كودي، بوسطن – 29 أبريل 2025

لم يكن بيان "هيئة علماء السودان" الأخير، الذي حمل عنوان "المشروع الوطني لإصلاح وإعمار النسيج المجتمعي"، مجرد مبادرة وعظية عابرة، بل هو إعلان سياسي/ديني صريح عن نية إعادة هندسة السودان على أسس فاشية دينية وعسكرية متطرفة، تُعيد إنتاج نفس الخطاب الذي دمر البلاد عبر عقود من الحروب والانقسامات.
فرغم مفرداته عن "الوحدة الوطنية" و"التسامح"، يكشف البيان في بنيته العميقة عن أدلجة شاملة للعنف: عبر تعبئة المجتمع تحت راية الدين الواحد، وتحريضه ضد كل أشكال الاختلاف الديني والثقافي والسياسي.
وما مشروع "كتائب العلماء" و"القيادة الميدانية" و"التعبئة والاستنفار" إلا إحياءٌ صريح لروح الحروب الدينية ومفاهيم الفتح بالقوة، حيث يتحول الواعظ إلى محارب، والمسجد إلى ثكنة، والفتوى إلى رخصة للفتك و ال"المتك".
هذا الخطاب لا يأتي من فراغ، بل ينتمي إلى إرث طويل من العنف المقدس في الفقه السياسي الإسلامي التقليدي، حيث كان القتل وقطع الرؤوس وبقر البطون يُحتفى به بوصفه من دلائل "الفروسية" و"التمكين".
وليس من المصادفة أن تُسمى المليشيات القاتلة اليوم في السودان بأسماء مثل "كتيبة البراء بن مالك" و"البنيان المرصوص"، وأن تُتداول مقاطع الذبح والتمثيل في وسائل الإعلام بوصفها "أوسمة نصر"، لا جرائم حرب.
ما نشاهده يوميًا من مشاهد حرق القرى، وبقر البطون، وتعليق الرؤوس، ليس فقط نتاجًا لفوضى السلاح، بل هو تجسيد حرفي لخطاب هيئة علماء السودان وأشباهها.
إنهم يعدوننا بالمزيد من البربرية، لكن هذه المرة باسم "إعمار النسيج المجتمعي"، وكأن آلة الذبح يمكنها أن تبني أمة أو تعيد التماسك الاجتماعي عبر فتوى وسكين.
بهذا المعنى، لا يمكن قراءة إعلان هيئة علماء السودان خارج سياق ما يعيشه السودان من عنف ممنهج:
إنه ببساطة الوجه العقائدي–الأيديولوجي للفاشية الدينية، التي تُغلف الجريمة بلغة الدين، وتغسل الدماء بشعارات "القيم"، وتزرع الرعب في المجتمع باسم الله.

١/ تكوين هيئة علماء السودان وعلاقاتها بالتنظيمات الاسلامية المتشددة:
نشأت هيئة علماء السودان منذ بدايات الإنقاذ (1989)، كذراع دينية للحكم الشمولي، مرتبطة بالتنظيم العالمي للإخوان المسلمين، ومتحالفة مع التنظيمات السلفية المتطرفة.
من خلال وثائق عدة، بينها تقارير مجموعة الأزمات الدولية
(ICG)
ومنظمة العفو الدولية
(Amnesty International)
ثبت أن الهيئة وفروعها الإقليمية، سواء داخل السودان أو خارجه، وفرت الغطاء الشرعي للجرائم الجماعية ضد المدنيين، بدءًا من الجنوب حتى دارفور، عبر تبرير "الجهاد" و"تكفير الخصوم"، ما يشكل جذرًا مباشرًا للعنف الراهن في السودان.
ثانيًا: العنف كجزء من ثقافة القرون الوسطى: الإرث الدموي في العالمين العربي–الإسلامي والأوروبي:
لا يمكن إنكار أن جزءًا كبيرًا من التراث السياسي والثقافي في القرون الوسطى، سواء في العالم العربي–الإسلامي أو في أوروبا المسيحية، قد احتفى بالعنف والقتل والتمثيل بالجثث بوصفه علامة للفروسية والانتصار السياسي في الثقافة العربية–الإسلامية التقليدية.

٢/ الطقوس الدموية للفتح: من التاريخ إلى الراهن السوداني:
في حقبة الفتوحات الإسلامية، كان قطع الرؤوس، بقر البطون، واستباحة المدن يُعتبر طقسًا سياسيًا–عسكريًا معترفًا به ومُمجدًا، وليس مجرد تبعات عرضية للحرب.
- كان قطع الرؤوس يُعدّ دليلاً حاسمًا على النصر الكامل، حيث تُستخدم الرؤوس كرموز مادية لإثبات التفوق العسكري والسياسي.
- في كتب التراث الكبرى مثل "الكامل في التاريخ" لابن الأثير و"سير أعلام النبلاء" للذهبي، نجد مئات الروايات التي تؤكد هذه الممارسة، حيث كانت رؤوس القتلى تُرسل إلى الخلفاء في دمشق أو بغداد، وتُعرض أمام العامة في احتفالات رسمية تهدف إلى ترسيخ شرعية السلطة المنتصرة وإرهاب الخصوم.
من أكثر الوقائع مأساويةً التي جسدت هذا الطقس الدموي:
- رأس الحسين بن علي بعد معركة كربلاء (680م)، حيث حُمل رأسه إلى قصر يزيد بن معاوية، واستخدم كرمز سياسي لإظهار سحق المعارضة وتكريس سلطة الحكم الأموي.
ولم يكن هذا التقليد الدموي مقصورًا على القرون الإسلامية الأولى:
- استمر هذا الطقس حتى عصر المماليك والعثمانيين في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، حيث كانت الرؤوس المقطوعة تُعرض علنًا في ميادين القتال، وأحيانًا تُشرب الخمور من جماجم القتلى احتفالًا بالنصر، كما وثقت ذلك روايات مؤرخين عرب وأوروبيين معاصرون.
واليوم، وعلى نحو مأساوي ومفجع،
تُعاد هذه الطقوس الدموية ذاتها إلى الحياة في الحرب السودانية الراهنة:
- عمليات ذبح الأسرى، تعليق الرؤوس، التمثيل بالجثث، بقر بطون النساء، كلها مشاهد توثقها تقارير منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش وغيرهما، وتنقلها وسائل الإعلام العالمية من ميادين الحرب في دارفور وكردفان.
- وكما كانت الرؤوس تُرسل إلى قصور الخلفاء، فإن مشاهد الذبح اليوم تُسجل وتُبث عبر قنوات الإعلام الدعائي المرتبط بالميليشيات الإسلامية، كـ"أوسمة نصر" في معاركهم ضد المدنيين والمختلفين جهويا وثقافيًا ودينيًا.
إن ما يحدث في السودان اليوم ليس مجرد جرائم حرب معزولة، بل هو بعثٌ معاصر لطقوس دموية تجاوزتها الإنسانية منذ قرون.
إنه استدعاء واعٍ لماضٍ غارق في العنف باسم الدين، لكنه في سياق السودان الحديث يمثل انحدارًا حضاريًا كارثيًا يجب أن يُواجَه بكل وضوح وقوة.

٣/ من الأشعار والمقولات التي تمجّد العنف:
ثقافة الشعر العربي ، خاصة في العصر الأموي والعباسي، احتفت بالعنف والقتل:
يقول أحدهم مفتخرًا:
"سقيناهم كأس الردى فاستلذّوها،
ورُويتُ السيف من رقاب الأعادي"
وآخر يتغنى:
"نحورهم زهرٌ ورؤوسهم كؤوس،
سَقينا بها ظمأ الأيام والنصر المكين"
هذه النصوص توضح كيف جرى تطبيع العنف بوصفه مفخرة اجتماعية وثقافية.

٤/ البعد البصري: تمجيد العنف في المخطوطات واللوحات:
المخطوطات الإسلامية المصورة، مثل مقامات الحريري وسيرة عنترة، تصوّر مشاهد قطع الرؤوس ببراعة فنية.
اللوحات الحربية العثمانية والمملوكية توثق مشاهد رفع الرؤوس على الرماح كرموز للبطولة والتفوق
في الثقافة الأوروبية الوسيطة.
بالمثل، شهدت أوروبا في العصور الوسطى (القرنين العاشر إلى السادس عشر) ثقافة عنف لا تقل دمويّة:
- الاعدام بقطع الرأس كان عقوبة شائعة للنبلاء والخصوم السياسيين، كما في حالة الملك تشارلز الأول في إنجلترا (1649)
- التمثيل بالجثث كان جزءًا من العقوبات القضائية، مثل سلخ الجسد أو تعليقه في الساحات العامة لردع العامة.
- خلال الحروب الصليبية، ارتكب الفرسان الأوروبيون مذابح هائلة باسم الدين، من بينها مذبحة القدس (1099م)، حيث ذُبح آلاف المسلمين واليهود، ووثّق المؤرخون الغربيون هذا المشهد الدموي بوصفه "نصرًا مقدسًا"!

٥/ ومن الفنون البصرية توثيقا:
- نجد لوحات مثل "قطع رأس يوحنا المعمدان" (لفنانين أمثال كارافاجيو) تحتفي بمشهد سفك الدم والقتل بوصفه ذروة الدراما الدينية.
- المخطوطات الأوروبية، مثل تاريخ الفتوحات النورمانية، تصور مشاهد تقطيع الأوصال وحرق المدن كجزء من مجد الفتح العسكري.
قراءة نقدية معاصرة: لا مكان لهذا الإرث الدموي في القرن الحادي والعشرين:
في كلا السياقين – العربي والأوروبي – كان العنف جزءًا مؤسسيًا من أدوات بناء الدول والشرعنة السياسية.
غير أن المجتمعات الأوروبية، بعد عصر التنوير والنهضة، والثورات الديمقراطية، نقدت هذا الإرث الدموي بشدة، وحوّلته إلى مادة للتوثيق والتحذير، لا للفخر أو الإحياء.
أصبح العنف الرمزي والجسدي جزءًا من ذاكرة مظلمة محفوظة في الكتب والمتاحف، مثل:
- متحف العصور الوسطى في باريس،
- متحف التعذيب في أمستردام، ولندن..
- مجموعات فنون العصور المظلمة في لندن.
- متحف السلام والعدالة لذمري القتل خارج القضاء الذي تعرض له الأمريكان الافارقة.
إن استدعاء تاريخ العنف بوصفه نموذجًا ملهمًا للأجيال المعاصرة – كما تفعل هيئة علماء السودان عبر مشروعها – ووسط صمت ولامبالاة النخب كالعادة ليس فقط خطأً أخلاقيًا، بل كارثة سياسية وإنسانية في بلد يسعى نحو بناء دولة ديمقراطية حديثة.
لا مجتمع سويّ يمكنه استيعاب أو تبرير هذا السلوك في القرن الحادي والعشرين.
مكان مثل هذا العنف الدموي يجب أن يبقى مؤرشفًا في كتب التاريخ وصالات المتاحف المعتمة، لا أن يُستعاد إلى الحياة عبر مشاريع ظلامية فاشية تهدد بتمزيق السودان مرة أخرى، ولاتجد الاحتجاج الصارم.

٦/ من الثقافة البربرية إلى جرائم حرب السودان الراهنة: الحنين الدموي واستعادة زمن "الفتح بالقوة" من الرمزية التاريخية إلى الجرائم الواقعية:
لم تبق ثقافة قطع الرؤوس والتمثيل بالجثث التي أنتجتها القرون الوسطى مجرد رمزية محفوظة في كتب التاريخ، بل نراها اليوم تتجسد في ساحات القتال السودانية منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023.
بحسب تقارير منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش وغيرهما، فإن العمليات الوحشية تتكرر بفظاعة، وقد تم التوثيق الي:
- ذبح الأسرى مع التكبير والتهليل وتصويرهم علنًا، كما في الجزيرة والخرطوم، و دارفور وغرب كردفان...
- بقر بطون النساء وقتل الأطفال .
- التمثيل بالجثث عن طريق الحرق أو التعليق على أعمدة الإنارة.
- استخدام الرؤوس المقطوعة كجوائز تُرفع في ساحات المعارك، على غرار ما كان يحدث في بلاطات الخلفاء والأمراء في القرون الوسطى مع التكبير والتهليل ايضا.

٧/ الأفعال لا تقع عشوائيًا؛ بل تُرتكب ضمن خطاب تعبوي–ديني منظم، تتبناه كتائب جهادية تحمل أسماء مشحونة بالرمزية.
الدموية مثل:
- كتيبة البراء بن مالك،
- كتيبة عمر بن العاص،
- كتيبة البنيان المرصوص...
- القوات المسلحة السودانية بوحداتها المختلفة...الخ..
الإلهام المباشر من ثقافة الفتح الدموي كما في ممارسات العصور الوسطى، تُستعاد اليوم ذات الشعارات والتقنيات:
- الرؤوس على الرماح
- التغني بأشعار الفخر بالقتل ونحر الأعداء.
- تداول مقاطع الفيديو التي توثق عمليات الإعدام الوحشي، لتُرسل إلى قادة الحركة الإسلامية السودانية أو تُعرض في وسائلهم الإعلامية باعتبارها "أوسمة للنصر".
إن استلهام أساطير الفتح والسبي والقتل، التي كانت جزءًا من مناهج بناء الدولة الإمبراطورية الإسلامية، أصبح اليوم هو
المنظور المرجعي لهذه الكتائب الظلامية، في محاولة بائسة لاستعادة زمن القوة عبر الذبح.

٨/ التشجيع السياسي والدعم الرسمي للعنف:
الخطورة الكبرى أن هذه الظاهرة تجد تغطية رسمية وتشجيعًا ضمنيًا وعلنيا من أطراف مختلفة من حكومة بورتسودان تتمثل في:
تمرير تعديلات دستورية تسمح بإنشاء "كتائب دينية" لحماية "قيم الشريعة"
تجاهل الجرائم ضد المدنيين، بتبريرها بأنها معارك ضد "العلمانيين والخونة"
الإبقاء على فتاوى الإبادة، مثل فتوى مدينة الأبيض عام 1994 التي تبيح استباحة دماء وأعراض المنتمين للحركة الشعبية لتحرير السودان، دون أي إلغاء رسمي حتى اللحظة.
وهكذا تُعاد صياغة المشهد القانوني ليُشبه قوانين الحروب الدينية في العصور المظلمة، لا قوانين القرن الحادي والعشرين.

٩/ الحنين إلى ماضٍ زائف واستعادة خطابات الأمجاد الدموية: من قصور التأسيس إلى كارثة الهوس الديني:
ما نشهده اليوم في السودان لا يمثل مجرد إعادة إنتاج للعنف السياسي، بل هو بعثٌ لخطاب حنين مريض إلى ماضٍ دموي، مجّده الخطاب الديني التقليدي بوصفه عصر البطولة والانتصار، حيث كان القتل والسبي علامات للفروسية والمجد الديني.
يستدعي هذا الخطاب الظلامي مفردات تجاوزها الوعي الإنساني مثل:
- تمجيد "الفتح" باعتباره إبادة منظمة للمخالفين دينيًا وثقافيًا.
- اختزال "الكرامة الوطنية" في القدرة على القهر والاستئصال لا على التعايش والعدالة.
- استحضار رموز الفتح الدموي، مثل خالد بن الوليد، وعمر بن العاص، والزبير بن العوام، دون أي مراجعة نقدية للسياقات التاريخية الدموية المرتبطة بهذه الأسماء.

١٠/ المفارقة مع مشروع التنوير السوداني المبكر: محاولات ناقصة لبناء حداثة وطنية:
ومع ذلك، فإن من الإنصاف الاعتراف أن السودان، منذ الاستقلال عام 1956، لم يعرف مسارًا مثاليًا لبناء دولة حديثة عادلة:
- "الآباء المؤسسون"، رغم نواياهم "الوطنية-حينها"، لم يمتلكوا الوعي الكافي لتأسيس دولة علمانية ديمقراطية ذات قدرة علي مواكبة التحولات العالمية نحو دولة المواطنة والحقوق الحديثة.
- بُنيت الدولة السودانية الأولى على مساومات قبلية وطائفية، وانتهجت سياسات مركزية تهميشية تجاه الأطراف.
- ظلت المواطنة ناقصة، والهوية القومية مشوشة، والعدالة الاجتماعية غائبة.
ورغم ذلك، شهد السودان المبكر إرهاصات مشروع تنويري واعد، وإن كان محدود الأفق:
- تأسيس كلية غردون التذكارية عام 1902 كنواة لتعليم مدني حديث.
- تطور المدارس النظامية والمعاهد الأهلية في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين في السودان النيلي.
- بروز نخبة ثقافية وفكرية نقدية سعت إلى بناء خطاب إنساني متجاوز للطائفية، ولو بصورة محدودة وخجولة وفي مناطق معينة.

١١/ الانقلاب الكامل مع 30 يونيو: بداية تجلي الكارثة:
لكن مع انقلاب 30 يونيو 1989، الذي حمل الإسلاميين إلى السلطة، وقع الانهيار الكامل:
- انفجرت العنصرية الممنهجة ضد الأطراف والمجموعات غير العربية وغير المسلمة.
- استخدم الدين كسلاح سياسي لشرعنة الحروب والإبادات الجماعية.
- تحولت مؤسسات الدولة إلى آليات قمع وهوس ديني، تستلهم خطاب الفتوحات الإسلامية القديمة لتبرير كل ممارساتها الوحشية.
وهكذا تم الانقلاب على أي إرث مدني تنويري سابق علي تواضعه، لتحل محله مشاريع فاشية جهادية عنصرية وجلفة، تصف كل مخالف أو متمرد بأنه "مرتد"، وكل حركة مقاومة بأنها "حرب على الإسلام" وتم تفعيل مفهوم "الحاكمية".

١٢/ مشروع هيئة علماء السودان: رأس حربة الردة الحضارية:
في هذا السياق، يظهر مشروع هيئة علماء السودان ومن شايعهم ليس كمبادرة دينية إصلاحية، كما يدّعون، بل كجزء من هجوم منظم لإعادة السودان إلى مرحلة الفتح الدموي والهيمنة الأحادية القسرية عبر:
- مشروع قائم على فرض دين واحد بالقوة.
- مشروع يختزل الوطن إلى هوية دينية عنصرية.
- مشروع لا يرى في التعدد والتنوع إلا تهديدًا يجب سحقه.
إنه ليس مجرد خلاف ديني أو ثقافي؛ بل هو صراع بين مشروع وطن حديث عادل، ومشروع استبداد دموي يُغلف نفسه بشعارات دينية.

١٣/ مقاربة تاريخية: دول اختارت طريق التحديث:
وإذا قارنا مسار السودان منذ الاستقلال بمسارات دول أخرى نالت استقلالها في نفس الفترة، سنجد أن العديد من الدول نجحت في تأسيس مشروع وطني حديث رغم التحديات المماثلة:
- غانا (استقلت 1957)، بعد عقود من الاضطراب، اختارت المسار الديمقراطي، وأصبحت اليوم واحدة من أكثر الدول استقرارًا وازدهارًا في غرب أفريقيا.
- الهند (استقلت 1947)، رغم تنوعها الديني والعرقي الهائل، تبنت نظامًا ديمقراطيًا علمانيًا رسخ وحدة الدولة وتطورها
- ماليزيا (استقلت 1957)، ورغم تركيبتها الدينية والعرقية المعقدة، أسست نظامًا سياسيًا مدنيًا عزز التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
- سنغافورة (استقلت 1965)، نجحت في تجاوز الانقسامات العرقية والدينية عبر بناء دولة مدنية حديثة تقوم على سيادة القانون والعدالة الاجتماعية.
على العكس، فإن السودان، بسبب فشل النخب التقليدية منذ الاستقلال، ثم بسبب كارثة حكم الإسلاميين بعد 1989، تعثر في تأسيس دولة المواطنة، وبقي رهين مشاريع الهيمنة الدينية والعنصرية التي قادته إلى الحروب والانقسامات والانهيار.

١٤/ عودة الي الهوس الديني في تاريخ المسيحية والقرون الوسطي: دروس مريرة:
تُظهر التجربة المسيحية الوسيطة كيف تحولت المؤسسة الدينية إلى أداة قمع عبر:
محاكم التفتيش
(Inquisition)
-التي أنشئت في إسبانيا والبرتغال بين القرنين الخامس عشر والسابع عشر، والتي كانت تحاكم وتعدم كل من وُصف بـ"الهرطقة"، مستخدمة الدين ذريعة لتبرير القتل والمصادرة والتطهير الديني والثقافي.
- الحروب الصليبية (1096–1291)، التي وظفت خطاب استرداد المقدسات لتبرير ذبح آلاف المسلمين واليهود في القدس وأماكن أخرى.
مطاردة الساحرات في أوروبا (خاصة في القرن السابع عشر)، حيث كان الدين يُستخدم لتصفية المعارضين السياسيين والاجتماعيين تحت غطاء "حماية العقيدة".

١٥/ نفس الهوس الديني في تاريخ الإسلام السياسي: عنف باسم الشريعة:
بالمقابل، عرف التاريخ الإسلامي أيضًا أنماطًا مشابهة من التوظيف القمعي للدين:
- في العصر الأموي والعباسي، استخدم الخلفاء الفتاوى الفقهية لإضفاء شرعية على قتل المعارضين، كما في مأساة كربلاء، أو اضطهاد القرامطة والشيعة الإسماعيلية.
خلال حكم دولة الموحدين في الأندلس (القرن الثاني عشر)، فرضت الشريعة بالقوة، وتم اضطهاد المسيحيين واليهود والمسلمين المخالفين للعقيدة الرسمية.
- في العصر العثماني، استُخدمت الفتاوى السلطانية لقمع الحركات الصوفية والتمردات القومية باسم حماية الدين والوحدة الإسلامية.

١٦/ مشروع هيئة علماء السودان: إعادة إنتاج الهوس الديني:
ما تقوم به هيئة علماء السودان اليوم، عبر مشروعها الموسوم بـ"الإصلاح وإعمار النسيج المجتمعي"، لا يخرج عن الدعوة لاعادة انتلاج هذه التقاليد القمعية.
- خطابها المعلن عن "إصلاح القيم" هو في جوهره تهديد ضمني بالاستئصال لكل من يرفض الإخضاع القسري
- الفتاوى القديمة، مثل فتوى الأبيض (1994)، لا تزال سارية كمؤشرات قانونية وثقافية على إمكانية ممارسة القتل والاستباحة باسم الدين متى شاءت السلطة الدينية.
- غياب أي نقد ذاتي أو اعتراف بالجرائم السابقة يكشف أن بنية التفكير السائدة في الهيئة لا تزال ترتكز على استدعاء نموذج "الدولة الدينية القمعية"، لا الدولة الوطنية الحديثة القائمة على المواطنة المتساوية.
هنا يجدر القول: إن الهوس الديني، سواء في أي سياق، أثبت تاريخيًا أنه يؤدي إلى تدمير النسيج الاجتماعي، وإشعال الحروب، وإطالة أمد الاستبداد.
وإن استعادة هذه البنية الدينية القمعية في السودان اليوم لا تعني سوى دفع البلاد نحو دورة جديدة من العنف والانقسام والدمار.
لذلك، يصبح من الضروري، كما علمتنا دروس التاريخ الأوروبي والعربي معًا، أن يُفصل الدين عن الدولة، وأن تُحصر مهمات المؤسسات الدينية في المجال الروحي الطوعي، لا أن تتحول إلى ذراع قمع سياسي واجتماعي.

أخيرًا: لا مخرج إلا بمشروع علماني ديمقراطي جديد وشامل للمبادئ فوق الدستورية:
إن السودان، بتركيبته المتعددة دينيًا وثقافيًا وعرقيًا، لا يمكن أن يُحكم عبر مشاريع الهيمنة، ولا سيما عبر مشاريع الهيمنة الدينية العنيفة التي أثبتت عبر العقود أنها وصفة أكيدة للدمار والحروب والانقسام.
لا خلاص للسودان، ولا إمكانية لبناء دولة قابلة للحياة، إلا عبر تبني مشروع علماني ديمقراطي حديث، يقوم على
المبادئ التالية:
- فصل الدين عن الدولة: لضمان حيادية الدولة تجاه مواطنيها، وعدم استخدام الدين كأداة قمع سياسي أو اجتماعي.
- ضمان الحريات الدينية والاعتقادية والفكرية: بما يكفل لكل فرد الحق في الإيمان أو عدم الإيمان دون خوف أو اضطهاد
- بناء المواطنة المتساوية: حيث تُبنى الحقوق والواجبات على أساس الانتماء للوطن لا للهويات الدينية أو العرقية
- الاعتراف الرسمي بالتعدد الديني والثقافي واللغوي: بوصفه مصدر ثراء لا تهديدًا.
- تبني العلمانية السياسية: كشرط ضروري لتحقيق المساواة وضمان عدم استخدام الدين لتبرير العنف أو التمييز
تحقيق العدالة التاريخية: عبر الاعتراف بالمظالم التي تعرضت لها الشعوب والمجتمعات المهمشة، والعمل على معالجتها تعويضيًا وقانونيًا.
- الإقرار بحق تقرير المصير: للشعوب والمجتمعات التي تعرضت للتهميش والإبادة، بوصفه مبدأ فوق دستوري لضمان العدالة والسلام المستدام- وابعد، لكل شعوب السودان.

تحالف تأسيس: فرصة تاريخية لبناء السودان الجديد:
في هذا الإطار، يمثل تحالف تأسيس اليوم فرصة تاريخية نادرة لبناء هذا السودان الجديد المنشود.
وقد نص ميثاق تأسيس بوضوح على المبادئ التالية:
- الاعتراف الكامل بالتعدد والتنوع الثقافي والديني واللغوي.
- الالتزام الصريح بالعلمانية كأساس لضمان المساواة والعدل بين المواطنين.
- بناء دولة ديمقراطية مدنية تقوم على المواطنة، الحقوق، والواجبات دون تمييز أو إقصاء.
- تبني مبدأ العدالة التاريخية لتفكيك إرث الظلم والاستعمار الداخلي ووقف كل أسباب الحروب.
- تكريس حق تقرير المصير بوصفه أداة لإنهاء التهميش، لا وسيلة لتفكيك الدولة.
مسؤولية وطنية وتاريخية.
إن تبني هذا المشروع التحرري، والدفاع عنه، والعمل على إنجازه، لم يعد خيارًا سياسيًا بين بدائل متعددة، بل صار واجبًا وطنيًا وأخلاقيًا وتاريخيًا:
واجب نحو الضحايا، نحو الأجيال القادمة، ونحو إنسانية السودان ذاته، التي كادت تندثر تحت ركام الحروب والهوس الديني.
بغير هذا الخيار، فإن السودان سيظل يدور في دوامة العنف والموت، وستبقى قوى الظلام، مثل هيئة علماء السودان ومن شايعها، تعمل على تمزيق ما تبقى من الوطن باسم الدين والشريعة.

النضال مستمر والنصر اكيد.