Post: #1
Title: نحو عدالة لا تنتقم، وسودان جديد لا يُقصي أحدًا: مشروع تأسيس بين تفكيك النظام وبناء الإنسان
Author: خالد كودي
Date: 04-22-2025, 05:58 PM
05:58 PM April, 22 2025 سودانيز اون لاين خالد كودي-USA مكتبتى رابط مختصر
22/4/2025 خالد كودي، بوسطن
رغم صوابية الكثير من المخاوف التي تُثار بشأن تحالف "تأسيس"، إلا أن جزءًا كبيرًا من الخطاب النقدي الموجَّه إليه ينبع من رؤية ضيقة، قاصرة عن الإلمام بالتاريخ البشري، وبعلوم الاجتماع والأنثروبولوجيا، وتجارب العدالة التاريخية والانتقالية في العالم.
ينطلق هؤلاء من نزعة أخلاقية مشروعة لكنها غير كافية، ويغفلون حقيقة أن بناء السلام لا يتم عبر استبعاد كل من شارك في "العنف"، بل عبر تفكيك شروط العنف وإعادة توجيه أدواته نحو مشروع وطني جديد. في هذا السياق، تشكّل إعادة تأهيل مقاتلي الدعم السريع ليس تنازلًا، بل أحد الشروط الموضوعية لتحويل العنف المنفلت إلى طاقة منضبطة داخل مشروع لسودان الجديد.
السؤال الجوهري: هل يمكن لمقاتلين ارتكبوا انتهاكات أن يتحولوا إلى فاعلين منضبطين في مشروع ديمقراطي؟
الإجابة ليست عاطفية، بل تتطلب تحليلًا علميًا ومعرفة تاريخية دقيقة.. تاريخ العدالة التاريخية والعدالة الانتقالية، والقانون الدولي، وأبحاث علم الاجتماع تثبت أن ذلك ممكن، حين تُصمم العمليات السياسية والتربوية والعدلية بشكل متكامل.
فهؤلاء ليسوا مجرمين بالفطرة كما يصوّرهم البعض، بل ضحايا ومسؤولين في آن واحد، نشأوا في بنية حرب أُنتجت ممن كانوا بالأمس يتصدرون المنابر، لا الخنادق! تحالف "تأسيس" لا يُبرّئ أحدًا، ولايجب بل يؤسس لمبدأ: لا تغيير دون عدالة، ولا عدالة دون شجاعة مواجهة الواقع بكل تعقيداته. السودان الجديد لا يُبنى بمنطق الإقصاء الأخلاقي، بل عبر دمج المنكوبين والفاعلين في معادلة جديدة تحرر الإنسان لا تنتقم منه.
وهذا هو ما لا يدركه من ينتقد المشروع من داخل منطق الوصاية النخبوية، التي ما زالت أسيرة سرديات مثالية غير قابلة للتطبيق، وتجهل دروس شعوب خرجت من حروب وانقسامات أشد قسوة، ونجحت فقط عندما أدركت أن بناء الدولة يبدأ من الاعتراف بالواقع لا إنكاره، وللناقش هذا.
من لومبروزو إلى العدالة الانتقالية: هل يمكن تحويل الجندي المهمَّش إلى جندي اومواطن مسؤول؟ واحدة من أكثر العبارات تكرارًا – واجهلها فكريًا وأخلاقيًا – في النقاش حول مقاتلي الدعم السريع هي:
"تريدون تحويل المجرم إلى إنسان سوي؟ هذا مستحيل."
لكن هذه المقولة، رغم قوتها الانفعالية، تنهار أمام العلم والتاريخ والواقع، خصوصًا حين تُقرأ في ضوء السياق الاجتماعي والسياسي الذي أنتج مقاتلي الدعم السريع وغيرهم من الفاعلين في العنف المنهجي غي السودان. في بدايات علم الجريمة، ظهرت أطروحات مثل نظرية الإيطالي سيزار لومبروزو (1835–1909)، التي زعمت أن المجرمين يحملون سمات بيولوجية ثابتة، وأن الإجرام "فطري" يولد مع الفرد.
لكن هذه النظرية سرعان ما فُنّدت علميًا، وأدينت أخلاقيًا، بوصفها عنصرية تبريرية تخدم مشاريع الهيمنة الاجتماعية والتمييز، ولا تعكس الواقع المعقد للسلوك الإنساني. مع تطور علم الاجتماع وعلم النفس، برزت مدارس تحليلية جديدة، مثل نظرية "التعلم الاجتماعي" لإدوين ساترلاند، ونظرية "الوسم" لهوارد بيكر، تؤكد أن السلوك الإجرامي لا ينشأ من الطبيعة، بل من التنشئة والسياق والحرمان والتهميش. وفي هذا الإطار، فإن المئات من مقاتلي الدعم السريع ليسوا "وحوشًا بالفطرة"، بل أبناء بيئة فقيرة، مهمشة، غير متعلمة، تم تجنيدهم وتوظيفهم ضمن بنية حرب عنصرية أطلقتها الدولة المركزية نفسها- بنخبها، وموّلتها وسلّحتها واستخدمتها ضد مجتمعات أخرى مهمشة. ما الذي يقوله العلم اليوم؟ أحدث الدراسات في العدالة الجنائية والانتقالية تؤكد على ما يلي: - أن السلوك الإجرامي قابل للتعديل والتصحيح من خلال برامج إعادة التأهيل، والتوجيه النفسي، والتعليم، وإعادة الإدماج المدني؛ - أن المساءلة القانونية الفردية، وليست الجماعية، هي جوهر العدالة؛ - أن العدالة الانتقالية لا تُبنى على الانتقام، بل على الاعتراف، والمحاسبة، وإعادة فتح أبواب الانتماء للمجتمع بمعنى آخر: القاتل ليس قدَرًا نهائيًا، بل إنسان تشكّل تحت ظروف معيّنة، ويمكن أن يعاد تشكيله، متى ما توفرت الإرادة، والسياسة، والبنية القانونية الصحيحة.
جنود الدعم السريع... وأبناء الجيش الرسمي: هل الفارق جوهري؟ وهم التفوّق الأخلاقي: في خضم النقاش حول العنف المنفلت في السودان، كثيرًا ما يُروّج لأسطورة أن الجيش السوداني، بصفته "مؤسسة نظامية"، يتمتع بتفوق أخلاقي وتربوي على مليشيا الدعم السريع. غير أن هذه الفرضية تنهار سريعًا عند إخضاعها للفحص التاريخي والتحليل البنيوي. صحيح أن ضباط الجيش تخرّجوا من الكلية الحربية وتلقّوا تدريبًا رسميًا، لكن العقيدة العسكرية التي تشرّبوها لم تكن وطنية شاملة، بل كانت – وما تزال – عقيدة مركزية، تُعيد إنتاج التراتبية العرقية، الدينية والجهوية، وتُضفي شرعية قانونية على سياسات الإقصاء والقمع. هي ذات العقيدة التي سمحت للجيش بأن يتحوّل إلى ذراع عنيفة في خدمة نخبة ضيقة، لا حامية للوطن ومواطنيه. في جوهرها، فإن البنية الذهنية والمؤسسية التي تربّى عليها ضباط الجيش السوداني لا تختلف كثيرًا عن تلك التي نشأ فيها جنود الدعم السريع؛ الاثنان تشكّلا في سياقات عنف ممنهج، وتحت أنظمة سياسية كرّست ثقافة الحرب ضد الأطراف. بل إن المفارقة الكبرى أن الجيش هو من أنشأ الدعم السريع، ووفّر له الغطاء السياسي والدستوري، ودرب عناصره، وسلّحهم، وأطلق يدهم في تنفيذ المهام القذرة التي أُريد لها أن تبقى "خارج المؤسسة الرسمية." إن الفارق الحقيقي ليس في السلوك، بل في غطاء الشرعية: الجيش ارتكب انتهاكاته عبر مؤسسات الدولة وباسمها، بينما نفذ الدعم السريع ذات الانتهاكات بشكل أكثر فظاظة، وخارج قواعد الشكل القانوني التقليدي. وبالتالي، فإن الاكتفاء بتحميل المليشيا وحدها وزر الجرائم وتبرئة الجيش – رغم سجله الدموي الممتد من الجنوب إلى دارفور إلى القيادة العامة – هو تعبير عن خطاب انتقائي، ينبع من تحيزات سياسية وتاريخية أكثر من كونه نابعًا من التزام حقيقي بمبادئ العدالة. فالعدالة الحقيقية لا تُقاس بلباس الجندي، بل بسلوك المؤسسة، ومنطقها، ونتائج أفعالها.
التحول لا يكون بالإقصاء، بل بإعادة الإدماج المشروط: إذا كنا نؤمن بتحول السودان إلى وطن ديمقراطي للجميع، فعلينا أن نفهم أن المواطنة لا تُمنح فقط لمن لم يُخطئ، بل لمن يريد أن يتغير، ويُحاسَب، ويُعاد تأهيله.
وهذا هو جوهر مشروع "تأسيس": ١/ فصل المجرم عن المقاتل، ٢/ فصل من خُدع أو استُغل عن من خطط وأدار الانتهاكات، ٣/ وفتح الطريق أمام المهمشين ليتحولوا إلى بناة وطن، لا أدوات في حروب الغير فمن يكرر أن "المجرم لا يتغيّر"، إما أنه يجهل العلم، أو يُعيد إنتاج نفس المنظومة التي صنعت المجرمين.
و"تأسيس" لا يبرر الانتهاكات، بل يقدم خارطة طريق لتفكيك أسبابها، وبناء إنسان جديد بدلاً من تكريس صورته القديمة، سواء أكان يحمل سلاحًا باسم المليشيا أو يرتدي بدلة عسكرية باسم الدولة.
فكلاهما، إن لم يُعاد تشكيله ضمن عقد وطني جديد، سيظل أداة لإعادة إنتاج القمع نفسه بأسماء مختلفة.
ثانيًا: إعادة التأهيل وإعادة الدمج – مبادئ القانون الدولي: وفقًا لمنظومة العدالة الانتقالية، لا يُختزل التعامل مع منتهكي حقوق الإنسان في العقوبة فقط، بل يشمل كذلك: ٤/ المحاسبة الفردية – لا الجماعية: أي تحميل المسؤولية للمخططين والمنفذين الأساسيين، وليس لكامل الجسم العسكري أو الإثني؛ ٥/ نزع السلاح وإعادة الدمج :(DDR) وهو برنامج معتمد في الأمم المتحدة وطبّق في عشرات الدول، من سيراليون إلى كولومبيا، ويشمل التعليم، التدريب، التأهيل النفسي، وضمانات عدم التكرار؛ ٦/ التدرج في المساءلة والدمج: فليس كل مقاتل في مليشيا هو مجرم حرب، ولا كل مجرم حرب لا يصلح للإدماج. العدالة الانتقالية تعتمد على "فرز السلوكيات" وليس إطلاق أحكام شاملة. القاعدة القانونية الدولية هنا واضحة: دمج الفاعلين السابقين في مؤسسات ما بعد الحرب ممكن ومشروع إذا كان مشروطًا بالتزامهم بقيم الدولة الجديدة ومساءلتهم عن الماضي.
ثالثًا: نقد الرؤية العنصرية حول "الآخر العنيف" – منظور أنثروبولوجي: تاريخياً، تعاملت الكثير من الأدبيات – خاصة الاستعمارية – مع "الآخر الإفريقي" و"المهمش" بوصفه عنيفًا بطبيعته، وهي رؤية ناقشها باقتدار فرانز فانون في "معذبو الأرض"، حيث بيّن أن عنف المستعمَر غالبًا ما يكون رد فعل على عنف بنيوي مارسته الدولة الاستعمارية.
كذلك، بيّن علماء الأنثروبولوجيا مثل مارغريت ميد وبول ريكور أن المجتمعات ليست عنيفة بطبعها، بل تُنتج العنف عندما تُحرم من العدالة، التعليم، والحماية. وهذا ما ينطبق على كثير من عناصر الدعم السريع، الذين جُندوا قسرًا، أو تحت ضغط الحاجة، أو في بيئة معسكرة من قبل الدولة نفسها، التي سلحتهم ووجّهتهم. لذلك، من غير المنصف (بل ومن الخطير نظريًا وأخلاقيًا) معاملتهم كأشرار بالفطرة، لا تصلح إعادة تأهيلهم، كما يقترح أصحاب مقولات مثل (تحويل المجرم الي انسان سوي-مستحيل)
رابعًا: ميثاق تأسيس – منطق التحول لا التسامح: إن التحالف بين الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال وقوات الدعم السريع والاخرين في إطار تحالف تأسيس، لا يقوم على تبرئة الماضي، بل على إعادة تعريف الالتزام السياسي والعسكري بموجب وثيقة تأسيس ودستور انتقالي جديد، يتضمن: - مبادئ للمحاسبة الفردية؛ - التزامًا صارمًا بحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني؛ - بناء عقيدة عسكرية جديدة مشتركة؛ - ورش تدريبية وتثقيفية على التعامل مع المدنيين والأسرى ومهام الجيوش الديمقراطية بالتالي، ما يجري ليس تبييضًا للتاريخ، بل تفكيكًا لنظام العنف القديم وإعادة هيكلته على أسس وطنية.
االدرس الأخلاقي والسياسي: إذا كان هدفنا هو وقف الحرب، وتأسيس سودان جديد، فإننا نحتاج إلى أدوات جديدة، تشمل: - تحويل خصوم الأمس إلى بناة الغد؛ - نقل الولاء من الزعامة العسكرية إلى الدولة المدنية؛ - إعادة دمج آلاف المقاتلين في المجتمع على أسس المواطنة والمحاسبة والعدالة فكما فعل مانديلا مع خصومه، وجيري آدامز مع الجيش البريطاني، ورواندا مع رموز العنف الإثني، فإن من ينشد السلام عليه أن يفتح الطريق أمام من يريد التغيير، لا أن يحكم عليه بالسجن الأبدي في ماضيه، وفي تقديري هذا اتجاه المستقبل!
اخيرا: من القطيعة الرمزية إلى إعادة التأسيس الفعلية إن التحول السياسي العميق لا يُنجز عبر الإقصاء الشامل أو الانتقام الثوري، بل عبر عملية دقيقة تميز بين الجريمة والسياق، وبين المجرم والفرد الذي جُرّ إلى العنف بفعل التهميش، واللاعدالة، وانسداد الأفق السياسي والاجتماعي. فالمجتمع الذي يسعى إلى تجاوز الحرب لا يمكنه أن يفعل ذلك وهو يُغلق كل الأبواب أمام من انخرطوا – تحت أي ظرف – في دوائر العنف، ويُصر على سجنهم الأبدي في صورة "العدو الأبدي". هذا ليس عدلًا، ولا سياسة، ولا بناء دولة، بل إعادة إنتاج للإقصاء باسم العدالة، وتكريس للوصاية باسم المبادئ. إن ما يسعى إليه تحالف "تأسيس" ليس مجرد صفقة سياسية أو موازنة ظرفية، بل عملية تاريخية لإعادة تعريف مفهوم "الفاعلية السياسية" في السودان. وهي تقوم لا على تجاوز العدالة، بل على جعل العدالة نفسها شرطًا لبناء الدولة، ومبدأً مُلزِمًا لكل من ينخرط في مشروع السودان الجديد. والعدالة هنا ليست فقط محاكمةً للجرائم، بل مسارًا لتفكيك الشروط البنيوية التي أنتجت العنف، وتحويل أدوات القمع إلى آليات حماية، وتحويل الجنود إلى مواطنين، والمليشيات إلى مؤسسات منضبطة بالقانون والدستور، والمهمشين إلى فاعلين سياسيين وليس فقط ضحايا. لقد أثبتت تجارب التحولات الكبرى – من جنوب إفريقيا إلى إيرلندا الشمالية إلى رواندا – أن الانتقال من الحرب إلى السلام لا يتم برفض الواقع، بل بمواجهته، والانخراط في تفكيكه من الداخل. التحول السياسي، إذًا، لا يُبنى على الانتقام من الأفراد، بل على تفكيك المنظومة التي جعلت العنف ممكنًا، وعلى إعادة بناء الإنسان السوداني في كل مكان – لا سيما في الهامش – بوصفه جزءًا من الحل، لا فقط شاهداً على المأساة. لذلك فإن مشروع "تأسيس" حين يضع على رأس أولوياته العدالة والمحاسبة والتحول المؤسسي، فهو لا يساوم على الحقوق، بل يؤسس لأرضية مشتركة يتحقق فيها السلام من دون نسيان، والمصالحة من دون تبييض، والبناء من دون إنكار الألم فـالسودان الجديد لن يُبنى بإرادة النخب وحدها، ولا بيد الطهر الثوري المنعزل عن الواقع، بل بإرادة من يحملون ندوب الحرب وآمال التحول في آنٍ واحد. إن إزاحة النظام لا تكفي.
وإسقاط البندقية لا يكفي.
ما يلزمنا اليوم هو ما سماه المفكر باولو فريري: "تحرير الإنسان من صورة مضطهده، ومن سلوك مضطهده، ليكون حرًا بحق."
وهذا، في جوهره، ما يسعى إليه تحالف "تأسيس".
فهو لا يسعى فقط إلى إسقاط نظام قديم، بل إلى بناء إنسان جديد، في دولة جديدة، بعدالة غير انتقائية، وبذاكرة لا تنتقم بل تُنير الطريق.
النضال مستمر والنصر اكيد.
|
|