Post: #1
Title: نيروبي ليست مغامرة:في مواجهة التبسيط وتحريف لحظة التأسيس- رد على الأستاذ حمور زيادة كتبه خالد كودي
Author: خالد كودي
Date: 04-03-2025, 01:07 AM
01:07 AM April, 02 2025 سودانيز اون لاين خالد كودي-USA مكتبتى رابط مختصر
نيروبي ليست مغامرة: في مواجهة التبسيط وتحريف لحظة التأسيس- رد على الأستاذ حمور زيادة:
4/2/2025، ، بوسطن
نُشر في العربي الجديد بتاريخ 29 مارس 2025 مقالٌ للأستاذ حمور زيادة بعنوان "هل فشلت مغامرة تحالف نيروبي؟"، يقدّم فيه قراءة سياسية مشبعة بانعكاسات اللحظة العسكرية المتقلبة في العاصمة الخرطوم، ويطلق أحكامًا نهائية على مشروع تحالف تأسيس، دون أن يقف أمام الأسئلة المفصلية التي طُرحت في مؤتمر تأسيس بنيروبي اصلا، أو يعير اهتمامًا للوثائق السياسية التي نتجت عنه كخطاب تأسيسي نوعي، يسعى لإعادة بناء السودان من جذوره، لا فقط عبر تسويات عسكرية، بل بإعادة تعريف علاقة الدولة بالمواطن، والسلطة بالمجتمع، والمركز بالأطراف. ونحن ننتهز هذه الفرصة ونناقش معه ماهية تحالف تأسيس منطلقا.
يركّز المقال على تحالف "تأسيس" بوصفه مجرّد امتداد لقوات الدعم السريع، ويستند في تقييمه على التطورات الميدانية وخطاب اللحظة، متغافلًا أن المعنى التاريخي لنيروبي لا يُقاس بحركة قوات الدعم السريع ولا بالتموضع المؤقت في الخرائط العسكرية، بل بما حملته الوثائق من تحوّل نوعي في فهم الدولة والعدالة والسيادة. وفي هذا، يعيد الأخ حمور إنتاج أحد أخطر أخطاء النخب السودانية: الحكم على المستقبل بمنطق اللحظة الراهنة، بدل النظر إليه بوصفه مجالًا لصناعة الإمكانات والتحولات.
إن الفيلسوف أنطونيو غرامشي حين تحدّث عن "تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة"، كان يحذّر من خضوع التحليل السياسي للتقلبات الظرفية، داعيًا إلى "التمسك بما لم يولد بعد"، أي إلى بناء الممكنات لا الاستسلام للواقع. أما فرانز فانون فقد أكّد أن "الثورات لا تُقاس بما تنجزه فورًا، بل بما تُحرّره من طاقات في المخيلة الجماعية"، وهو ما ينطبق تمامًا على لحظة نيروبي بوصفها لحظة اشتباك مع سؤال التأسيس، لا مجرّد تحالف سياسي ظرفي يختزل في معارك عسكرية لاحد اطراف التحالف في مدينة ما!
ولعل المفكر جون رولز، في تنظيره لـ"العدالة كإنصاف"، نبّه إلى أن المؤسسات العادلة لا تُبنى استنادًا إلى من يملك القوة الآن، بل إلى المبادئ التي ترعى المساواة في الفرص والحقوق، وهو بالضبط ما حاولت وثيقة ميثاق تأسيس سلطة الشعب ومشروع الدستور الانتقالي لسنة 2024 أن تفعله، عبر فتح أفقٍ لمواطنة غير مشروطة، ومساءلة جذرية لبنية الدولة الإثنوقراطية التي كرّست التهميش والحروب.
إن ما يُغفله الأخ حمور ــ ومعه كثير من الكتابات المتردّدة ــ هو أن تحالف "تأسيس" ليس فقط ردًا على الانسداد السياسي، بل محاولة لبناء خطاب سياسي جديد يواجه الأسئلة التي تهرب منها النخب: من حكم ويحكم السودان؟ وكيف يحكم السودان؟ وبأي شرعية؟ ولمصلحة من؟
لهذا، لا يمكن تقييم ما اسماها ب(مغامرة نيروبي) بميزان اللحظة. فالتاريخ لا يُكتب فقط بما يحدث، بل بما يُقترح فعله، وما يُعاد تخيّله. وكما قال ألبير كامو: "الحقيقة لا تُولد من الحشود، بل من أولئك الذين يملكون الجرأة على السؤال الصعب" ولنناقش المقال- فاصحي يابريش!
أولًا: إغفال جوهر ميثاق نيروبي وتبسيط التعقيد السياسي: يقع الأستاذ حمور في ما يمكن تسميته بـ"اختزال التحليل في لحظة الحدث"، حيث يُختزل تحالف "تأسيس" في علاقته الظرفية مع قوات الدعم السريع، ويتم ربط المشروع التأسيسي بأداء عسكري متغير في محيط الخرطوم وغيرها. هذا النوع من التحليل، الذي بات شائعًا في أوساط النخبة المثقفة وكتّاب الرأي، يجد رواجًا لسهولة تقديمه إلى جمهور مثقل بالألم والحيرة، إذ يجنح إلى استسهال قراءة الواقع المعقد، وتفادي الغوص في تشابكاته البنيوية التي تتطلب شجاعة فكرية وسياسية لمواجهة الأسئلة الكبرى، وليس فقط التموضع ضمن ثنائيات الحرب والسلام، أو النصر والهزيمة.
إنّ الكثير من المثقفين، ولأسباب متعددة تتراوح بين الإحباط والتورط في علاقات السلطة، يميلون إلى مثل هذا النوع من القراءات التي تمنحهم موقفًا أخلاقيًا مريحًا وسهلًا، دون الحاجة إلى الانخراط في نقاشات التأسيس، أو إعادة التفكير في مفاهيم الدولة والعدالة والمواطنة. وكما يشير نعوم تشومسكي، فإن "التلاعب بالعقول لا يتم فقط عبر الأكاذيب، بل عبر تغذية الجماهير بالسطحي والمباشر، وتضييق مجال التفكير إلى ما هو آنٍ وعاجل، ما يؤدي إلى تخدير الحسّ النقدي وصرف الانتباه عن البنى العميقة للهيمنة". في السياق السوداني، يُعاد إنتاج هذا النموذج في مقالات تُقوِّم ميثاق نيروبي من خلال خريطة السيطرة الميدانية، وتتجاهل أن ما جرى في نيروبي هو تتويج لحوارات سياسية وفكرية تراكمت منذ ما بعد ثورة ديسمبر، وامتدت في نقاشات الهوية، العدالة، ومصير الدولة.
لقد جاء ميثاق تأسيس الذي أُقر في نيروبي ، كمحاولة للإجابة على أسئلة لم يواجهها أي تحالف او حزب سياسي في السودان بشكل جاد منذ الاستقلال: كيف يمكن إعادة تأسيس دولة تتسع لجميع مكوناتها، دون احتكار إثني أو جهوي او ديني؟ كيف تُرد المظالم التاريخية بإعادة توزيع السلطة والثروة وفقا لرؤية انصاف وعدالة تاريخية؟ وكيف تُبنى دولة لا مركزية، لا تقوم على الغلبة ولا على إرث المستعمِر، ولا عي امتدات الاستعمار الداخلي بل على التعاقد الشعبي؟ لكن هذه الأسئلة تتطلّب جرأة فكرية لا توفرها التحليلات الإعلامية السائدة والعاجلة، ولا المقالات التي تُبنى على تداعيات الجبهات العسكرية والكر والفر كما يقال. إن السودان لا يحتاج إلى المزيد من "المواقف الأخلاقية السهلة والمريحة”، بل إلى رؤية تأسيسية عميقة، وهو ما سعت وثائق نيروبي إلى تقديمه، في وقت يهرب فيه معظم الفاعلين من مواجهة هذه اللحظة التأسيسية الحاسمة. ثانيًا: ما الذي أغفله مقال الأستاذ حمور زيادة؟ رغم أن مقال الأستاذ حمور زيادة يتبني نقدًا ساخرًا لبعض التصريحات الإعلامية لقادة تحالف تأسيس، ويتموضع داخل خطاب تشكيكي يستند إلى الوقائع العسكرية في الخرطوم و(الانتصارات) الانية للجيش، إلا أنه يُغفل بالكامل جوهر ما جرى في نيروبي، ويتجنّب النظر إلى تحالف تأسيس بوصفه محاولة تأسيسية حقيقية لا تقتصر على المعارك الظرفية لاي من تكوينات التحالف، بل تطرح رؤية جديدة لبناء الدولة السودانية. لقد تمحور المقال حول من ينتصر عسكريًا، ومن يحتل الأرض هنا وهناك، لكنه لم يتوقف عند القضايا المركزية التي ناقشها مؤتمر نيروبي، ولا عند الوثائق التأسيسية التي أقرها، والتي طرحت أسئلة لم تجرؤ النخب السودانية على طرحها منذ الاستقلال، منها:
- من هو المواطن السوداني؟ وما شروط المواطنة في دولة متعددة الثقافات والقوميات؟ - ما هو تعريف الدولة؟ هل هي جهاز قمعي يحتكر العنف، أم تمثيل لإرادة الشعوب واحتياجاتهم؟ - كيف نرد المظالم التاريخية؟ لا كخطاب إنساني أو أخلاقي فقط، بل كأولوية دستورية في إعادة توزيع السلطة والثروة والاعتراف بالتنوع الجذري للمجتمع السوداني؟
إن مقال حمور ــ ومثله كثير من الاطروحات السائدة ــ لا يطرح هذه الأسئلة ولا يواجهها، بل يستبدلها بنقد آني وسرديات ظرفية، تتهرب من المسؤولية التاريخية للنخب السودانية عن إنتاج البدائل الحقيقية. وهذا التهرب ليس عابرًا، بل يمثل ظاهرة مستمرة في السياسة السودانية: الاكتفاء بإدانة السائد دون تقديم رؤى تأسيسية، والتنصل من تحالفات الضرورة دون بلورة مشروع بديل قادر على الإجابة عن أسئلة المرحلة.
بهذا المعنى، فإن المقال يعيد إنتاج ذات النمط الذي حكم لحظات التحول الكبرى في السودان: في أكتوبر 1964، وأبريل 1985، وحتى بعد انتفاضة/ثورة ديسمبر 2018، حين انتصرت الاحتجاجات شعبيًا لكنها سُرقت سياسيًا بفعل عجز النخب عن تخيُّل دولة جديدة خارج معادلات المركز القديم. واليوم، يعيد الخطاب الرافض لتحالف تأسيس هذه الدائرة: إدانة بدون بديل، ونقدٌ للممكن دون أي مقاربة للضروري.
مؤتمر نيروبي لم يكن دعوة للحرب، بل إعلانٌ بأنَّ السلام لا يتحقق بوقف إطلاق النار وحده، بل بتفكيك جذور الحرب السياسية والاقتصادية والثقافية، وهو ما لم يلتفت إليه المقال، مثلما لم تلتفت إليه النخب التي اختارت الهروب من سؤال التأسيس، إلى مناطق أكثر أمانًا في الخطاب الإعلامي والمواقف الأخلاقية المريحة. ثانياً: جوهر الوثائق التأسيسية – الميثاق والدستور الانتقالي: ما أغفله مقال حمور تمامًا، هو استعراض مضمون ميثاق "تأسيس" والدستور الانتقالي المقترح، واللذَين تضمّنا رؤية تأسيسية تُقارب مفهوم "السودان الجديد" عبر: - إقرار مبدأ المواطنة المتساوية دون تمييز عرقي أو ديني أو جهوي. . - الاعتراف بالتعدد القومي والثقافي واللغوي كأعمدة تأسيسية لا تهديدات للوحدة - إعادة بناء الدولة على قاعدة لامركزية حقيقية، تمنح الأقاليم سلطة سياسية واقتصادية كاملة. - العدالة التاريخية باعتبارها مبدأ فوق العدالة الانتقالية، يشمل المساءلة عن قرن من الاستعمار، والتهميش الممنهج، ومجازر الدولة ضد مواطنيها. - حل أجهزة الدولة الأمنية والعسكرية القديمة وإعادة بنائها من الصفر وفق مبدأ السيطرة المدنية الكاملة على الجيش، وتفكيك الطابع الإثنوقراطي للمؤسسة العسكرية. - التأسيس لاقتصاد عادل، ينقل مركز الثقل من الخرطوم إلى الهامش، ويعيد توزيع الموارد على قاعدة الإنصاف لا الامتياز.
ثالثاً: مأزق النخب السودانية: التهرب من أسئلة التأسيس: إن جوهر المأساة في الخطاب الذي يتبنّاه الأستاذ حمور، وقطاع كبير من النخب السياسية والثقافية السودانية، هو التهرب المستمر من السؤال التأسيسي: ما شكل الدولة التي نريد؟ هذه النخب، رغم تبنيها لخطابات الحداثة، تقف عند حدود ما هو مألوف وسائد، وتتحاشى الاصطدام مع البنى العميقة للدولة السودانية القديمة: المركزية، الإثنوقراطية، عسكرة الدولة، الإسلاموية، والتمييز البنيوي ضد غير العرب وغير المسلمين-العنصرية...الخ.
في هذا السياق، فإن تحالف تأسيس لم يتجاهل قضايا السائد واليومي — كما يصوّر المقال — بل واجهها من منطلق منتج، فمثلاً: - تناول التحالف قضايا وقف الحرب وحماية المدنيين بوضوح في مواثيقه. - نصّ على آليات العدالة التاريخية والانتقالية والتعويض والمسؤولية الفردية. - دعا إلى وقف التجنيد القسري وتفكيك الجيش والمليشيات وتكوين جيش وطني.
لكن، وعلى خلاف خطابات الإدانة الأخلاقية المجردة، ربط هذه القضايا برؤية سياسية شاملة تنطلق من فهم جذور الأزمة، لا مجرد أعراضها- وهي رؤية السودان الجديد.
رابعًا: العدالة التاريخية – المفهوم المُغيَّب عمدًا: من أكثر ما يلفت الانتباه في مقال الأستاذ حمور زيادة وغيره من المقالات التي تناولت مؤتمر نيروبي بالنقد هو تجاهله التام لإحدى الركائز الفكرية والسياسية الجوهرية في ميثاق نيروبي ومشروع الدستور الانتقالي: العدالة التاريخية. هذا المفهوم لا يُختزل في محاسبة الأفراد المتورطين في جرائم الحرب الراهنة، بل يتجاوزها نحو مساءلة البنية الكلية التي جعلت التهميش والعنف واللامساواة أمرًا ممنهجًا وطويل الأمد في السودان.
العدالة التاريخية، كما صاغها ميثاق تأسيس سلطة الشعب، تُعيد النظر في التاريخ السياسي والاجتماعي والاقتصادي للسودان، عبر الاعتراف الصريح بالجرائم البنيوية التي ارتُكبت بحق شعوب الهامش منذ الاستقلال: من دارفور إلى جبال النوبة، ومن النيل الأزرق إلى شرق السودان. وهي عدالة لا يمكن حصرها ضمن الإطار الزمني الضيق لما يُعرف بالعدالة الانتقالية، بل تستدعي مراجعة شاملة لهيمنة المركز، واحتكار الدولة، والتاريخ الرسمي الذي أقصى المجتمعات غير النيلية من التمثيل والتوثيق والرواية، وافترض في الأستاذ حمور ادراك هذا!.
لقد حمل تحالف "تأسيس" هذا المفهوم بوصفه حجر الزاوية في أي مشروع لبناء سودان جديد، وطرحه على نحو غير مسبوق، عبر ثلاث مطالب مركزية:
- تعويض المجتمعات التي تعرّضت للإبادة والاقتلاع الممنهج، - تمكين الأقاليم من كتابة تاريخها، وتمثيل ذاتها في المؤسسات السيادية والتشريعية، - الاعتراف بحق تقرير المصير كحق ديمقراطي لا يجب تجريمه بل مناقشته ضمن أفق بناء الدولة على التعدد والعدالة.
لكن هذا المفهوم يمثل تحدّيًا وجوديًا للنخب التقليدية التي أسست امتيازاتها على نسيان هذه الجرائم، وعلى استمرار احتكارها لامتيازات الدولة والسلطة. ولذلك، فإن الخطاب الذي يتجنّب الخوض في العدالة التاريخية ــ كما هو الحال في مقال حمور ــ لا يُعد سهوًا أو انحرافًا بسيطًا، بل يعكس حالة عامة من القلق النخبوي من أي مشروع يعيد توزيع الشرعية السياسية لصالح الشعوب المهمشة. وهذا يحتاج الي حوارات عميقة مع كل جاد حول مستقبل السودان، ولامثال الأستاذ حمور زيادة حرية التقاط القفاز!
العدالة التاريخية ليست شعارًا سياسيًا، بل هي مفتاحٌ لفهم الصراع السوداني في جذوره، ومفتاحٌ لبناء مستقبل لا يقوم على العفو ولا على النسيان، بل على الاعتراف والإنصاف وإعادة التوزيع الجذري للسلطة والمعنى. وتجاهل هذا المفهوم في مقالات الرأي أو تحليلات النخبة، هو في جوهره مشاركة ــ ولو بصمت ــ في استمرار الظلم البنيوي.
خامسًا: لا تأسيس بلا إدانة واضحة لكل الانتهاكات: لا يمكن الحديث عن مشروع تأسيس جديد أو انتقال عادل في السودان دون اتخاذ موقف صريح، مبدئي، وغير انتقائي تجاه جميع الجرائم والانتهاكات التي ارتُكبت بحق المدنيين. يجب أن يُقال ذلك بلا تردد: كل من ارتكب جرائم اغتصاب، قتل جماعي، تهجير قسري، قصف ارضي او جوي على الأحياء السكنية، الأسواق، المستشفيات، واحتلال المنازل، سواء كان من قوات الدعم السريع أو من الجيش مليشياته او من أي قوات اخري، قد ارتكب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم، ولا تُبرَّر بأي غطاء سياسي أو عسكري.
السكوت عن هذه الانتهاكات، أو التعامل معها بمنطق التبرير أو الإنكار، هو تواطؤ ضمني، وهو ما تمارسه للأسف السلطة الفعلية في بورتسودان، التي تدّعي الشرعية، بينما لم تُجرِ حتى الآن تحقيقًا مستقلًا واحدًا ذي مصداقية في أي من الجرائم الموثّقة التي ارتُكبت بحق آلاف المدنيين بما فيها جريمة سحل المدنيين امام بوابات القيادة العامة لنفس الجيش.
في المقابل، نصّ ميثاق تأسيس ومشروع الدستور الانتقالي على آليات واضحة للمساءلة وعدم الإفلات من العقاب، بما في ذلك إنشاء مؤتمر قومي للعدالة يقوده الضحايا أنفسهم، بوصفهم أصحاب الحق والمصلحة. كما أقر العديد من المؤيدين والمتحمسين لتحالف تأسيس، بمن فيهم كاتب هذه المداخلة، أن لا مكان لأي تسوية سياسية لا تُرافقها آليات عدالة شاملة ومستقلة، ولا يمكن لأي مشروع جديد أن ينهض على إنكار المعاناة أو الالتفاف على المطالب الأخلاقية والإنسانية للشعب السوداني.
إن الإدانة الكاملة للانتهاكات ليست فقط مسألة حقوقية، بل هي جزء لا يتجزأ من رؤية سياسية تؤمن بأن تأسيس الدولة الجديدة لا يمكن أن يتم على ركام الجريمة، بل على الاعتراف، والمحاسبة، وضمان عدم التكرار
سادسًا: بورتسودان، الجيش، وتحالف تأسيس – من يقف مع الدولة الجديدة ومن يعيد إنتاج القهر؟ في الوقت الذي يطرح فيه تحالف "تأسيس" مشروعًا دستوريًا واضح المعالم، يُؤسس لدولة علمانية ديمقراطية قائمة على العدالة واللامركزية والمواطنة المتساوية، أقدمت حكومة بورتسودان ــ المعزولة شعبيًا والمنفصلة عن كل مشروعية سياسية أو أخلاقية ــ على تعديل قسري للوثيقة الدستورية في يناير 2025، في خطوة تمثل انقلابًا دستوريًا مكتمل الأركان، أعادت بموجبه إنتاج الدولة السلطوية في صيغة أكثر قسوة وسطوة.
شملت هذه التعديلات الخطيرة الاتي: - إلغاء السقف الزمني لفترة حكم رئيس مجلس السيادة، بما يسمح ببقاء عبد الفتاح البرهان في السلطة إلى أجل غير مسمى؛ - منح المؤسسة العسكرية سلطات فوقية تتجاوز الدولة المدنية ومبدأ الفصل بين السلطات؛ - تقنين عسكرة الدولة والمجتمع، وتصفية ما تبقى من المجال العام؛ - إلغاء النصوص المتعلقة بالحقوق الأساسية ومدنية الدولة، - وإعادة إدراج أحكام الشريعة الإسلامية كمصدر للتشريع، في محاولة لإحياء خطاب الثيوقراطية الإسلاموعسكرية الذي كرّس القمع والإقصاء لعقود.
هذه التعديلات لا تمثل فقط تهديدًا للديمقراطية، بل تنذر بولادة نظام فاشي كامل المعالم، يُحكم المجتمع بقبضة أمنية - عقائدية، ويعيد تمكين الأجهزة القمعية، ويُجرّم التنوع الثقافي والديني والسياسي، تحت غطاء "الشرعية الشكلية".
لكن الأشد خطورة من هذه التعديلات هو استمرار تبرئة المؤسسة العسكرية، واعتبارها "الضامن الوطني" أو "الجهة المنقذة"، وهو موقف ليس محايدًا، كما قد يبدو، بل انحياز صريح إلى السودان القديم، بكل ما يحمله من امتيازات جغرافية وعرقية وطبقية وأمنية ظلت قائمة منذ الاستقلال.
الدفاع عن الجيش بوصفه مؤسسة وطنية، دون محاسبة تاريخه في الانقلابات، والمذابح، واحتكار العنف السياسي، هو تجديد الولاء لمشروع الدولة الفاشلة التي احتكرت القرار باسم "السيادة"، واستبعدت الأغلبية من التمثيل باسم "الوحدة الوطنية".
إننا اليوم أمام مفترق تاريخي حاسم، لم يعد فيه الهروب ممكنًا من الإجابة عن السؤال الجوهري: مع أي سودان نقف؟
- سودان قديم تحكمه النخبة العسكرية والدينية والبيروقراطية باسم الأمن والوطنية؛ - أم سودان جديد، يؤمن بأن السلطة للشعب، وأن المواطنة لا تُمنح بل تُستحق، وأن التنوع ليس خطرًا بل هو مصدر للقوة والشرعية؟
مشروع تحالف "تأسيس" ــ رغم ما قد يحيط به من جدل ــ يُقدّم رؤية واضحة لبناء دولة قانون مدنية تعددية، تتأسس على الاتي:
- استقلال القضاء والنيابة، - سيادة الشعب، لا سطوة العسكر، - حظر الأحزاب والمليشيات ذات الأساس العرقي والديني، - فترة انتقالية كما محدد في دستور وميثاق تاسيس تنتهي بانتخابات شاملة وعادلة، - ولامركزية حقيقية تعيد السلطة إلى المجتمعات المحلية.
إن الفرق بين المشروعين لا يُقاس فقط بلغة النصوص، بل بمن يقف خلف كل منهما:
مشروع يدعو إلى إعادة كتابة التاريخ من أسفل، وآخر يكتب الحاضر بميراث الطغيان القديم. وإذا كان البعض ما زال يلوّح بالشرعية من بورتسودان، فإن الشرعية الحقيقة تُصاغ اليوم في سؤال لا مفر منه:
أين يقف كل سوداني وسودانية؟ مع دولة القمع والاستعلاء؟ أم مع وطن جديد، لا يولد إلا بالمواجهة، لا بالمهادنة؟
وكما قال فرانز فانون: ."لكل جيل مهمته التاريخية. إما أن ينجزها أو يخونها"
اخيرا: ما بعد نيروبي – واجب المثقف وسؤال التأسيس: إن سؤال نيروبي لم يكن يومًا سؤالًا عن نتائج المعركة العسكرية حول القصر الجمهوري او غيره من المواقع، ولا عن مدى تقدم أو تراجع الدعم السريع في ميادين الخرطوم، بل هو ــ في جوهره ــ سؤال وجودي عن السودان نفسه: هل نريده وطنًا جديدًا قائمًا على أسس العدالة والمواطنة والاعتراف، أم نواصل التعايش مع دولة قديمة تستمد وجودها من القهر والتهميش، وتقف على ركام الدم والجوع والإنكار؟
مقال الأستاذ حمور، رغم نبرته النقدية، يُعيد إنتاج منطق النخبة التي طالما حكمت السودان دون أن تجرؤ على مساءلة أسس الحكم نفسها. فبدلًا من الاشتباك مع ما طرحه تحالف تأسيس من مفاهيم التأسيس والمواطنة والعدالة التاريخية، ينشغل المقال بإدانة لحظة آنية، ويحاكم مشروعًا تحوليًا واسع الأفق بمنظار عسكري ضيق، متناسيًا أن التحالفات لا تُقاس فقط بمن ينتصر ميدانيًا، بل بما تقترحه من رؤية، وبما تفتحه من إمكانيات تاريخية للخروج من دورة الفشل المزمنة.
لقد حان الوقت، بل تأخّر، أن يعيد قادة الرأي والمثقفون السودانيون التفكير بعمق في ما يجري في البلاد. فالمسؤولية الأخلاقية والفكرية لا تقتصر على التعليق على ما هو سائد، بل على طرح الأسئلة الصعبة، وإعادة تأطير النقاشات بعيدًا عن الاستسهال الإعلامي، وعن ملاحقة اللحظة دون فهم مسارها البنيوي. وفي هذا السياق، لا بد من استعادة قول إدوارد سعيد: "دور المثقف ليس في تكرار ما هو قائم، بل في كشف ما هو مُغيّب، وفي مواجهة السلطة بالحقيقة، لا مجاراتها بالصمت أو التأويل الناعم".
وكما أشار سلافوي جيجك، فإن "التحليل الذي لا يُنتج إمكانية للتغيير هو شكل آخر من أشكال المحافظة". ولهذا فإن من الواجب على المثقفين اليوم أن لا يكتفوا بوصف المأزق، بل أن يتخذوا المواقف الكبيرة، حتى وإن كانت غير شعبية أو محفوفة بالمخاطرة، لأن السودان في لحظة مفصلية تقتضي من الجميع الجرأة على الحسم الفكري والسياسي.
بعد مؤتمر نيروبي، لم يعد السودان كما كان. لقد كُتب تاريخٌ جديد، لا فقط لأن تحالفًا قد تشكّل، بل لأن الأسئلة التي طُرحت ــ عن الدولة، عن التهميش، عن العدالة، عن من يملك الشرعية ــ قد فتحت أبوابًا لن تُغلق، وأسّست لوعيٍ سياسي جديد يصنع حاضر السودان ومستقبله بجرأة غير مسبوقة.
إن اللحظة التي نعيشها ليست لحظة توازنات هشة، بل لحظة انكسار قديم وبزوغ ممكن. وإن تجاهل هذه الحقيقة لا يُغيّر من مسارها شيئًا.
وكم من مرة كتب التاريخ بدايته من جديد، بينما ظنّ البعض أنه يكتب سطره الأخير.
وفي هذا السياق، فإن تحالف "تأسيس" لا يُحاكم فقط على علاقاته أو تحالفاته، بل على ما فتحه من أفقٍ سياسي ومفاهيمي يعيد مساءلة ما ظنناه محسومًا: من هو المواطن؟ ما معنى الوطن؟ وما الذي يجعل الدولة عادلة حقًا؟ من هنا، فإن مسؤولية الكُتّاب والمثقفين ليست الانجرار وراء مجريات اللحظة، بل ارتقاء الخطاب إلى مستوى المرحلة. فالتاريخ لا يُكتب بمن يربح المعركة، بل بمن يطرح الأسئلة الجذرية، ويجترح الطريق حيث لا طريق.
النضال مستمر والنصر اكيد.
|
|