Post: #1
Title: ما بعد أوهام الانتفاضات: السودان بين نموذج "التأسيس" وسراب أكتوبر وأبريل وديسمبر: 2-2 كتبه خالد كود
Author: خالد كودي
Date: 03-28-2025, 11:34 AM
11:34 AM March, 28 2025 سودانيز اون لاين خالد كودي-USA مكتبتى رابط مختصر
ما بعد أوهام الانتفاضات: السودان بين نموذج "التأسيس" وسراب أكتوبر وأبريل وديسمبر: 2-2 27/3/2025, خالد كودي، بوسطن
المؤتمر الوطني وتحالف الإسلاميين: مشروع "الغنيمة السياسية" بعد الحرب: منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023، عاد تحالف الإسلاميين بقيادة المؤتمر الوطني ليتصدر المشهد من جديد، هذه المرة متسلحًا بسردية المشاركة في الحرب.
يرفع الإسلاميون شعارًا صريحًا: "نحن من خضنا المعركة، وآن أوان قطف الثمار"، في محاولة لتقنين العودة السياسية من بوابة المليشيا والدم.
تاريخ المؤتمر الوطني منذ انقلاب 1989 حافل بإعادة تشكيل الدولة السودانية كدولة غنائم: - خصخصة الدولة لصالح شبكة من الشركات الأمنية والواجهات الاقتصادية، التي لا تزال تسيطر على قطاعات الذهب، والاتصالات، والعقار، والتجارة الخارجية.. - تغلغل في البنية البيروقراطية والقضائية والإعلامية والتعليمية، جعل من الإسلاميين جهازًا متجذرًا في قلب الدولة لا يمكن إزاحته عبر أدوات مدنية محضة.. - استثمار عميق في "الكنتّاكت" الإقليمية والدولية، سواء عبر شبكات التمويل أو المصالح المتبادلة مع أجهزة استخباراتية خارجية.
في ظل غياب الجيش الوطني الموحد، والسلاح، والمال، والدعم الخارجي لدى قوى التغيير، يصبح من الصعب على أي حراك سلمي أعزل أن يواجه منظومة تملك المال، والسلاح، والعلاقات، وشرعية الحرب. وهذا ما يفرض على قوى الثورة والتغيير تجاوز الشعارات السلمية المجردة، والعمل على بناء تحالفات سياسية ومؤسسية بديلة تمتلك أدوات التغيير الحقيقي، ولا تُعيد إنتاج الهشاشة التي وسمت تجارب أكتوبر وأبريل وديسمبر.
العدل والمساواة جبريل وتحرير السودان مناوي: من خطاب الهامش إلى خدمة المركز: من بين أكثر التحولات السياسية دراماتيكية في مشهد ما بعد اندلاع الحرب في السودان، يأتي اصطفاف حركتي العدل والمساواة بقيادة جبريل إبراهيم، وتحرير السودان بقيادة مني أركو مناوي إلى جانب حكومة بورتسودان والجيش السوداني والميليشيات الإسلامية التي كانت يومًا تمثل العدو الأيديولوجي والعسكري لهاتين الحركتين.
هذان الفاعلان، اللذان انبثقا من رحم التهميش الدارفوري في أوائل الألفينات، بعد تراكم تاريخي من الظلم والإقصاء، قدّما أنفسهما طيلة العقدين الماضيين بوصفهما معبرين عن مطالب الهامش في العدالة والمساواة والتمثيل السياسي والاقتصادي. غير أن اصطفافهما مع مركز القوة القديمة، التي لطالما مارست الإبادة والتمييز في دارفور، يُمثّل خيانة سافرة للخطاب الذي تأسستا عليه.
هذا الاصطفاف لم يكن استثناءً تكتيكيًا أو خطأً ظرفيًا، بل هو جزء من منظومة سياسية مكتملة باتت ترى في الحرب فرصة لتثبيت الذات في السلطة عبر التنسيق مع بقايا النظام البائد، واستغلال غطاء "شرعية القتال إلى جانب الجيش"، في وقت تُرتكب فيه انتهاكات واسعة النطاق في مناطق النزاع، بما فيها دارفور نفسها. لقد أصبح جبريل إبراهيم، من خلال موقعه كوزير مالية سابق وأحد حلفاء الإسلاميين، رأس حربة مشروع إعادة تمكين الإسلاميين اقتصاديًا، عبر شبكات شركات الذهب والتحويلات والجبايات. فيما تحوّل مني أركو مناوي إلى أداة أمنية في معادلة مركزية تُستخدم لإعادة إخضاع دارفور عبر البندقية والتهديد، بعد أن فقدت حركته صلتها بالقواعد الاجتماعية التي كانت تدّعي تمثيلها.
إن تحالف الحركتين مع الجيش والمليشيات الإسلامية ينسف أي مصداقية سياسية أو أخلاقية لهما، ويحوّلهما إلى جزء من منظومة الهيمنة ذاتها التي قاتلاها يومًا، لا خصمًا لها. كما يُضعف إمكانية بلورة مشروع وطني جديد تنبع مرجعيته من الهامش، ويمنح النظام القديم أدوات جديدة لتقويض أي تحول جذري، باستخدام لغة "المشاركة" و"الوحدة الوطنية"، وهي نفسها الأدوات التي وظّفها نظام البشير لعقود لإجهاض أي مشروع تغيير. بذلك، لا يمكن اعتبار حركتي العدل والمساواة وتحرير السودان اليوم جزءًا من قوى الثورة، أو من قوى التأسيس، بل هما – بحكم الاصطفاف والممارسة – ركيزة من ركائز مشروع الترسيخ المضاد، الذي يسعى لاستبقاء السودان القديم بوجوه مسلحة من الهامش، دون أن يعني ذلك تفكيك المركز أو إعادة بناء الدولة.
مشروع عبد الواحد محمد أحمد نور: الجذرية المُعطّلة في انتظار نوايا النخبة: تمثّل حركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد أحمد نور أحد المشاريع السياسية الأكثر جذرية ووضوحًا في تاريخ العمل السياسي السوداني الحديث، حيث تطرح رؤية متكاملة لبناء سودان علماني، ديمقراطي، فدرالي، قائم على المواطنة المتساوية والقطيعة التامة مع إرث الدولة المركزية العنيفة. ويتميّز خطاب عبد الواحد بشجاعة نادرة في مواجهة جذور الأزمة السودانية، لا أعراضها، كما يطرح منذ سنوات طويلة ضرورة عقد حوار سوداني–سوداني، مستقل عن الإملاءات الدولية، ينطلق من القاعدة الاجتماعية، ويُعيد تعريف الدولة من جديد.
ورغم صواب هذه الرؤية من حيث المضمون، إلا أن رهانه الضمني على أن تأتي النخب السياسية، خاصة النيلية منها، بإرادتها الحرة وتقرُّ بهذا المشروع وتعمل معه بحسن نية، يُعد أكثر طموحًا من واقع السياسة السودانية كما هو اليوم. فالقوى السياسية التقليدية أثبتت مرارًا أنها غير مستعدة للتخلي عن امتيازاتها التاريخية، ولا يمكنها أن تنخرط طوعًا في أي عملية سياسية من شأنها تقويض سلطتها الطبقية أو الرمزية، ما لم يُفرض عليها ذلك بقوة توازنات جديدة في الميدان السياسي والاجتماعي
من هنا، فإن الانتظار الطويل الذي يخوضه عبد الواحد – على أمل أن تنضج النخب وتلتحق برؤية التأسيس الحقيقي – قد يتحوّل إلى تعطيل للفرصة التاريخية. فالمطلوب ليس مجرد وضوح الرؤية، بل إبداع استراتيجي في بناء التحالفات، وتمييز ما هو مبدئي من ما هو تكتيكي، والانخراط في جبهات قادرة على إنتاج القوة، لا فقط إنتاج الخطاب. في هذا السياق، يُعد تحالف "تأسيس" أحد الخيارات السياسية الأكثر تقدمًا اليوم، إذ يطرح مشروعًا لا يقل جذرية عن رؤية حركة تحرير السودان، لكنه يتحرك ضمن تحالف عريض ومركّب يسعى لتجميع قوى الهامش والمجتمع المدني والمقاومة المدنية المسلحة حول برنامج واضح للتأسيس الجديد. . الطريق أمام عبد الواحد محمد أحمد نور ليس في التنازل عن جوهر رؤيته، بل في إعادة صياغة استراتيجيته السياسية بشكل يُمكّنه من التحرك بفعالية ضمن خرائط التحالف القائمة، واستثمار اللحظة التاريخية التي يصوغ فيها الهامش معالم الدولة الجديدة. إن لحظة التأسيس لا تنتظر، والمواقف النبيلة تحتاج إلى أدوات عملية لتتحول إلى قوة تاريخية فاعلة.
هروب النخب وخطاب "تسليم الحكم للشباب": تواطؤ مقنّع وتفريغ للرؤية: في مواجهة الانكشاف التاريخي لعجزها، لجأت قطاعات واسعة من النخب السياسية السودانية إلى خطاب مفرغ عن "تمكين الشباب" و"تسليم الحكم للأجيال الجديدة"، باعتباره حلاً سحريًا أو مخرجًا مشرفًا من ساحة المعركة السياسية. غير أن هذا الخطاب، في حقيقته، ليس إلا مراوغة إضافية لتجنّب المساءلة، وتفادي مواجهة الأسئلة البنيوية التي تعجز النخب عن تقديم إجابات حاسمة بشأنها.
ما تُخفيه هذه الدعوة هو أن السلطة لا تُسلَّم، بل تُنتزع وتُؤسَّس. والنخب التي احتكرت فرص التعليم، والتمثيل، والثروة، والخبرة الدولية لعقود، لا يمكن أن تدّعي فجأة الحياد أو التنازل الأخلاقي، دون أن تراجع دورها في تكريس المظالم البنيوية، وتُسائل امتيازاتها المتوارثة.
إن المطالبة بـ"تسليم الحكم للشباب" دون تحديد آليات، او تسمية أي شباب، أو دون تمكين حقيقي للمهمّشين والفاعلين الجدد، ليست سوى إعادة إنتاج للوصاية بصيغة مموّهة، تُفرغ التحول السياسي من مضمونه. فالشباب ليسوا جيلًا بيولوجيًا فحسب، بل رؤية جديدة للعالم، تتأسس على القطيعة مع الفشل، وعلى مشروع وطني جذري، لا يُدار بالنيابة أو الإحالة الرمزية وبدلًا من هذا الخطاب التنازلي الذي يفتقر إلى التزام فعلي، المطلوب هو تحالف قائم على إعادة توزيع القوة السياسية، وبناء مؤسسات تُمكّن الفاعلين الجدد من إنتاج سياساتهم ومفرداتهم، لا أن يُطلب منهم ملء فراغ نخبوي قديم بلغة لا تخصهم.
تفكيك وهم التكنوقراط: الكفاءة بلا مشروع تُعيد تدوير النخبة: يرتبط خطاب مجموعات مثل صمود، ومعه قطاعات واسعة من النخبة، بأطروحة "حكومة التكنوقراط"، التي تُطرح بوصفها مخرجًا من الأزمة. غير أن هذه الرؤية تُخفي تحييدًا متعمّدًا للسياسة، عبر مقاربة تقنية لمسألة سياسية بامتياز. فالسودان لا يعاني من غياب الكفاءة فقط، بل من اختلال في بنية السلطة، وتوزيع الامتيازات، وتمثيل الهويات.
تاريخيًا، تمكّنت النخب من احتكار فرص التعليم والخبرة منذ الحقبة الاستعمارية، ما يجعل أطروحة التكنوقراط اليوم آلية لإعادة تمكين نفس النخب التي أدارت الفشل، ولكن بواجهة مهنية محسّنة. وعلى الرغم من أهمية الكفاءة الإدارية، إلا أنها ليست بديلاً عن الرؤية السياسية العادلة والجذرية. التجربة الانتقالية تحت حكومة عبد الله حمدوك – التي ضمت العديد من التكنوقراط – تؤكد أن الكفاءة التقنية دون مشروع سياسي لا تملك أدوات الصمود أو التغيير.
نحو وعي تأسيسي جديد: المرحلة التي يعيشها السودان هي مرحلة ما بعد الحرب، وما بعد الانتفاضة، وما بعد وهم الحياد والإدارة التقنية. إنها لحظة تستدعي وضوحًا سياسيًا ومشروعًا جذريًا، لا مجرد تعويم إدارة البلاد بكفاءات منفصلة عن قاعدة التمثيل الشعبي. المطلوب ليس مجرد حكومة "مؤهلة"، بل تحالف وطني تأسيسي يعالج الجذور: بالمواطنة لا الامتياز، بالعدالة التاريخية لا المحاصصات، وبإعادة توزيع السلطة والثروة لا إعادة تدوير النخبة.
ما بعد الحرب: الحاجة إلى مشروع سياسي مؤسس تشير الأدبيات في دراسات بناء الدولة ما بعد الحروب (State-building after Civil Wars) إلى أن المجتمعات الخارجة من النزاعات العنيفة تمر بمرحلة إعادة تشكل شاملة، لا يمكن إدارتها عبر أدوات النخب القديمة أو شعارات ما قبل الحرب. وفقًا لدراسات مثل Roland Paris (2004) وCharles T. Call and Elizabeth Cousens (2008) تتطلب هذه المرحلة: - بناء مؤسسات أمنية جديدة ذات طابع قومي غير منحاز، لا مجرد تفكيك المليشيات بدون بدائل. - عملية عدالة انتقالية وتاريخية تُنهي الحصانات الجماعية وتعترف بضحايا التهميش والتمييز. - إعادة كتابة العقد الاجتماعي على أسس المواطنة، لا الولاء الإثني أو الطائفي أو العسكري. - اقتصاد يعيد توزيع الموارد ويعالج الفوارق الهيكلية التي قادت إلى الحرب، ويعتمد على اللامركزية المالية. - شرعية سياسية نابعة من قاعدة شعبية متعددة وممثِّلة للهامش، لا من مراكز النفوذ القديمة.
في ضوء ذلك، يصبح واضحًا أن السودان يعيش مرحلة ما بعد الانتفاضة، وما بعد الحرب في آنٍ معًا، وأن أي محاولة لتكرار نماذج ما بعد عبود ونميري والبشير تمثل ردّة فكرية خطيرة. المرحلة تقتضي تحالفًا جديدًا – كما يطرحه "تأسيس" – لا يكتفي بالمناورة، بل يسعى لإعادة بناء الدولة من الجذور، بأدوات جديدة، وتحالفات تنبع من قلب المجتمعات المهمشة، لا من نخب الخرطوم التقليدية.
رابعًا: تأسيس كسردية بديلة وجذرية: ١/ العلمانية والمواطنة المتساوية: - يعترف ميثاق تأسيس بالفصل الكامل بين الدين والدولة، ويوفر حماية قانونية لكافة الأديان والأعراق- - المواطنة لا تُمنح بناءً على اللغة أو الدين أو الجهة ٢/ اللامركزية السياسية والاقتصادية: - يتبنى المشروع نظام حكم لامركزي فيدرالي يعيد توزيع السلطات والثروات. - يعترف بالخصوصيات الثقافية ويمنح الأقاليم سلطات تشريعية وتنفيذية كاملة. ٣/ الجيش القومي الجديد: - تفكيك القوات المسلحة وغيره من المليشيات وإنشاء جيش جديد على أسس المواطنة والاحتراف - إخضاع كل القوات لرقابة برلمانية ومحاسبة قانونية ٤/ العدالة التاريخية، لا الانتقالية فقط: - لا يكتفي المشروع بمحاكمات رمزية، بل يسعى لتوزيع الثروة، ضمان الأرض، وتعويض الضحايا عبر لجان حقيقية مستقلة.
خامسًا: الخيارات أمام المجتمع المدني: لا حياد اليوم: - إما الاصطفاف مع مشروع "التأسيس" الذي يسعى لبناء دولة لكل السودانيين - أو الاستمرار في خدمة مشروع بورتسودان، الذي يمثل بقايا الدولة الفاشية القديمة، ويُدار بتحالف أمني – بيروقراطي – جهوي يعيد إنتاج ذات الامتيازات التي أشعلت الحرب.
أخيرا: إن التبشير بنموذج أكتوبر وأبريل وديسمبر اليوم هو إنكار للواقع، وهروب من المسؤولية الفكرية. إن ما يُطرح في ميثاق تأسيس ليس مشروعًا سياسيًا فحسب، بل هو لحظة كشف تاريخية: للسودان أن يولد من جديد، أو أن يُدفن في سرديات ماضٍ لم يكن يومًا ديمقراطيًا بحق.
المطلوب اليوم ليس استعادة "حكومة مدنية" على النمط السابق، بل تأسيس دولة مدنية جديدة بالكامل، تعالج جوهر الأزمة السودانية: بنية السلطة، التمييز، الهيمنة، الاحتكار، واللامساواة.
|
|