ما بعد أوهام الانتفاضات: السودان بين نموذج "التأسيس" وسراب أكتوبر وأبريل وديسمبر: 1-2 كتبه خالد كود

ما بعد أوهام الانتفاضات: السودان بين نموذج "التأسيس" وسراب أكتوبر وأبريل وديسمبر: 1-2 كتبه خالد كود


03-28-2025, 04:53 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1743134019&rn=0


Post: #1
Title: ما بعد أوهام الانتفاضات: السودان بين نموذج "التأسيس" وسراب أكتوبر وأبريل وديسمبر: 1-2 كتبه خالد كود
Author: خالد كودي
Date: 03-28-2025, 04:53 AM

04:53 AM March, 27 2025

سودانيز اون لاين
خالد كودي-USA
مكتبتى
رابط مختصر




ما بعد أوهام الانتفاضات: السودان بين نموذج "التأسيس" وسراب أكتوبر وأبريل وديسمبر:
1-2
27/3/2025, خالد كودي، بوسطن

إعادة مساءلة النموذج الانتفاضي ونقد الإملاء النخبوي: نحو قطيعة معرفية واستراتيجية:
نعيد في هذا المقال مساءلة النموذج الانتفاضي الذي شكّل، على مدار العقود الستة الماضية، المرجعية السياسية المركزية لمعظم القوى السودانية، منذ انتفاضة أكتوبر 1964، مرورًا بانتفاضة مارس–أبريل 1985، وصولًا إلى انتفاضة ديسمبر 2018. ونجادل بأن الاستمرار في التبشير بهذا النموذج بوصفه أفقًا كافيًا للتغيير، قد تحوّل إلى شكل من أشكال الكسل الفكري والسياسي والتنظيمي، الذي يتجاهل التحولات العميقة التي أصابت بنية الدولة والمجتمع السوداني، لا سيما في أعقاب الحرب الشاملة التي اندلعت في أبريل 2023، والتي كشفت تآكل المركز، وتحلل شرعية الدولة، وتغير خريطة الفاعلين السياسيين والاجتماعيين على نحو غير مسبوق.

في هذا السياق، يُنتقد المقال أيضًا النموذج البنيوي الذي استقر ضمن ما يمكن تسميته بـ"نموذج الإملاء النخبوي من المركز"، وهو النموذج الذي تتفجر فيه نضالات الهامش – عبر المقاومة المسلحة أو السلمية – وتُبذل فيه تضحيات هائلة من الدماء والنزوح والحرمان، ثم ما تلبث أن تُقطف ثماره في الخرطوم، حيث تُعاد صياغة الثورة من قبل نخب مركزية–بيروقراطية، غالبًا ما تكون معزولة عن الواقع الاجتماعي الذي أفرز تلك الانتفاضات.

يمكن تأطير هذا النمط ضمن ما سماه فرانز فانون بـ"البرجوازية الوطنية الكومبرادورية"، أي تلك الطبقة التي تتبنى شعارات التحرر، لكنها تعيد إنتاج علاقات الاستعمار داخليًا، عبر السيطرة الرمزية والمؤسسية، وإقصاء القوى الاجتماعية الحقيقية. كما يلتقي هذا النموذج مع ما صاغه بارثا تشاترجي في نقده للفصل بين "السياسة الرسمية" التي تُمارس داخل مؤسسات النخبة، و"السياسة الشعبية" التي تُقمع أو تُستوعب دون أن يُعترف بقدرتها على إنتاج المعنى أو صياغة البدائل.
لقد ظلت الانتفاضات السودانية الثلاث محكومة بهذه الثنائية: الهامش ينتج المقاومة، والمركز يحتكر التأويل والتفاوض والتمثيل. ما يعني أن بنية السلطة لم تكن محل مساءلة، بل ظلّت تُعاد تدويرها، مع استيعابٍ شكلي لقوى جديدة في بنية قديمة. وهو ما أسهم، كما تشير أدبيات باولو فريري وإدغاردو لاندير في تقاليد المقاومة اللاتينية، إلى أن الثورة التي لا تعبّر عن منبتها الاجتماعي العميق، تتحول إلى قناع جديد لآليات الهيمنة.

في ظل هذه المعطيات، لم يعد ممكنًا – لا أخلاقيًا ولا سياسيًا – الترويج لعودة الخرطوم كمركز حتمي للتغيير، أو لإعادة تعريف الثورة من أعلى. فالسودان الجديد لا يمكن أن يُبنى من داخل المكاتب البيروقراطية أو الأروقة الدبلوماسية، بل من ساحات المقاومة، ومواقع النزوح، وخطوط المواجهة اليومية التي تنتج اليوم خطابًا جديدًا، ومعنى سياسيًا بديلًا، وحتي هوية وطنية قيد التشكل.

من هنا، يُبرز المقال أن تحالف "تأسيس" والدستور الموقّع في نيروبي، لا يمثلان مجرد مبادرة سياسية عارضة، بل يشكلان لحظة تأسيس فعلية لبناء سودان جديد، قوامها القطيعة الجذرية مع إرث المركزية، والعنصرية البنيوية، والرياء المدني، وامتيازات النخب التي حافظت على النظام القديم في ثوب ديمقراطي هش. إن السودان يقف اليوم أمام مفترق طرق حاسم: إما التأسيس العادل، أو إعادة إنتاج الفاشية بأدوات ناعمة وبخطاب تصالحي مخاتل.

أولًا: الثورات/الانتفاضات السودانية الثلاث كنماذج مغشوشة وقاصرة:

١/ ثورة أكتوبر 1964
أسقطت هذه الثورة نظام الفريق إبراهيم عبود العسكري في لحظة توافق نسبي بين النخب المدنية، والطلابية، والنقابية. تشكلت حكومة انتقالية برئاسة سر الختم الخليفة، أعقبتها انتخابات عامة أعادت الأحزاب التقليدية إلى الحكم، وعلى رأسها حزب الأمة والحزب الوطني الاتحادي.
غير أن الإخفاق الجوهري تمثل في كون هذه الثورة لم تتطرق إلى القضايا البنيوية التي تقوم عليها الأزمة السودانية: الحروب، التمييز الإثني، والتوزيع غير العادل للثروة، والبنية المركزية الاستعمارية للدولة. لم تكن القوى القيادية التي أفرزتها الثورة مؤهلة فكريًا أو سياسيًا لمهمة التأسيس الوطني العادل، بل أعادت إنتاج هيمنة نخب الخرطوم، واستمرت الحرب الأهلية في الجنوب دون أي مقاربة جذرية لحلها.

٢/ انتفاضة مارس–أبريل 1985
جاءت هذه الانتفاضة في أعقاب أزمة اقتصادية خانقة وحالة من السخط الشعبي العام على سياسات نميري، خاصة تطبيق قوانين سبتمبر، وبالطبع ضغط عسكري من الحركة الشعبية. قادت الانتفاضة إلى تشكيل مجلس عسكري برئاسة عبد الرحمن سوار الذهب، وحكومة مدنية انتقالية برئاسة الجزولي دفع الله.
غير أن النتيجة كانت إعادة إنتاج الفشل؛ فوعود إلغاء قوانين سبتمبر لم تُنفذ، وتم إعادة تمكين الأحزاب التقليدية – حزب الأمة، الحزب الاتحادي الديمقراطي – بنفس القيادات القديمة، التي عادت بلا رؤية أو أفق يؤهلها لمواجهة التحديات البنيوية. النتيجة كانت كارثية: لا إصلاح مؤسسي، ولا تغيير جذري، بل استمرار للنهج القديم بثوب أكثر ترددًا، واستمرار للحروب.

٣/ انتفاضة ديسمبر 2018
أسقطت نظام عمر البشير بعد ثلاثة عقود من الاستبداد، عبر تراكم نضالي مسلح ومدني وديبلوماسي، وخلقت أملًا شعبيًا واسعًا في بناء سودان جديد. تشكلت حكومة انتقالية برئاسة عبد الله حمدوك، في شراكة هشة مع المكون العسكري.
لكن التجربة انهارت سريعًا؛ الانقلاب في 25 أكتوبر 2021 أطاح بكل أوهام الانتقال، وتبعه تفجر الحرب الشاملة في أبريل 2023. فشلت الحكومة الانتقالية في تفكيك جهاز الدولة العميقة، أو كبح عسكرة الاقتصاد، أو إصلاح الأجهزة الأمنية. وقدّمت النخب التي تسلمت السلطة نماذج قيادية تفتقر للنضج الفكري، ورغم الخطاب الحداثي الذي تبنته، إلا أن ممارساتها عبّرت عن عقلية السودان القديم، مع تغليف القضايا الجوهرية في شعارات سطحية. شهدت هذه الفترة تراجعًا كبيرًا في خطاب الصراحة السياسية، وازدهرت فيها ثقافة "الترميز التضليلي"، حيث جرى تحوير قضايا الجذور إلى صراعات نُخبوية مشوشة، وازدهرت المؤامرات والدسائس السياسية غير الناضجة، التي عمّقت الاستقطاب وضيّعت بوصلة التحول الحقيقي.

ثانيًا: لماذا الواقع الآن مختلف؟ تحولات بنيوية تقطع مع نماذج الماضي:

١/ عسكرة المجتمع وتفكك احتكار الدولة للعنف:
منذ اندلاع التمردات المسلحة في دارفور عام 2003، بدأ تكوُّن مشهد عسكري موازٍ خارج نطاق الدولة المركزية. بلغ هذا المسار ذروته مع صعود قوات الدعم السريع بوصفها ذراعًا موازية للجيش، ثم مستقلة عنه لاحقًا. وباندلاع الحرب في أبريل 2023، تفككت سيطرة الدولة نهائيًا على أدوات العنف، وانقسم السودان فعليًا بين سلطتين عسكريتين متصارعتين، لكل منهما تحالفات محلية وإقليمية.

- توجد اليوم أكثر من 40 ميليشيا محلية وحركة مسلحة في دارفور، جبال النوبة، الفونج، والنيل الأزرق، منها ما هو مرتبط بالحركات التاريخية، ومنها ما تأسس خلال الحرب المعاصرة.
- انخرط عدد كبير من الميليشيات الإسلامية في القتال إلى جانب القوات المسلحة السودانية، ما أعاد إنتاج أنماط حرب بالوكالة داخل البلاد.
- الاقتصاد السوداني بات عسكريًا بالكامل: فالقوات المسلحة، والدعم السريع، والحركات المتحالفة مع كل طرف، تسيطر على الذهب، المناجم، الأسواق، مسارات التسويق او التهريب، وتفرض جباياتها المستقلة

٢/ انهيار الدولة المركزية وتآكل السلطة الجغرافية:
- لم يسبق في تاريخ السودان المستقل أن انهارت الدولة بهذا الشكل الكلي. إذ تحوّلت العاصمة الخرطوم من مركز سيادي إلى منطقة اشتباك دائم، تعيش في ظل انهيار عمراني وبيئي واقتصادي غير مسبوق. حتى بعد سيطرة الجيش عليها، تواجه هذه المناطق مشكلات بيئية وصحية مدمّرة نتيجة الاقتتال ومخلفات الأسلحة والذخائر، وانهيار الخدمات الأساسية. وبالطبع مشكلات امنية وعدم ضمان أي قدر من الاستقرار.

- الحكومة في بورتسودان، بوصفها "السلطة الاسمية"، لا تسيطر فعليًا إلا على أقل من 20% من الجغرافيا السكانية.
- يشهد السودان أكبر موجة نزوح في تاريخه: أكثر من 9 ملايين نازح داخليًا وخارجيًا، بحسب الأمم المتحدة.
- بحسب تقارير دولية، انخفض الناتج القومي الإجمالي بنسبة تفوق 50% منذ اندلاع الحرب، وانكمش الاقتصاد إلى ما دون مستويات ما قبل العام 2000

٣/ تحالفات جديدة وخريطة قوى سياسية متحركة: تحالف "تأسيس" نموذجًا:
في سياق تفكك الدولة المركزية وانهيار النخب السياسية التقليدية، بدأت تتبلور تحالفات سياسية جديدة تتجاوز البُنى القديمة للأحزاب الطائفية والأيديولوجية. أبرز هذه التحالفات هو تحالف "تأسيس"، الذي يجمع بين الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال، وقوات الدعم السريع، وعدد من الحركات المسلحة في الهامش، إضافة إلى قوى مدنية، نقابية، وشبابية نشأت في قلب الحراك المحلي، لا في هوامشه.

يمثل تحالف "تأسيس" تحوّلًا نوعيًا فارقًا في التاريخ السياسي السوداني، إذ يُعد أول مشروع سياسي منذ الاستقلال ينبثق من الهامش لا من مركز الخرطوم، ويُعيد صياغة الدولة على أسس مغايرة بالكامل:
مواطنة متساوية بلا تمييز، علمانية تُنهي التوظيف السياسي للدين، لا مركزية حقيقية في السلطة والثروة، جيش قومي جديد، وقضاء مستقل، وعدالة تاريخية تعترف بالضحايا وتعيد الاعتبار للمهمشين.

الميثاق السياسي والدستوري لتحالف "تأسيس"، الموقّع في نيروبي، هو أول وثيقة وطنية تطرح بديلًا مؤسسيًا متكاملًا للدولة السودانية القديمة، لا يكتفي بمطالب "الإصلاح"، بل يسعى إلى إعادة التأسيس الجذري وفق مبادئ تتجاوز المركزية، وتُقوّض الامتيازات البنيوية التي قامت عليها الدولة السودانية منذ الاستعمار وحتى اليوم.

ثالثًا: كسل النخب السياسية والتعويل على أوهام الماضي:
رغم التحولات العميقة التي يشهدها السودان، لا تزال معظم الأحزاب السياسية السودانية أسيرة لنموذج سياسي تجاوزه الواقع. تميل هذه القوى إلى استدعاء لحظة "أكتوبرية" ثابتة – قائمة على فكرة انتقال سلمي للسلطة إلى مدنيين غير محددين، دون معالجة حقيقية لبنية السلطة ومشكلاتها الجذرية وفي هذ يتم الاحتيال الاذلي:

لا تزال الأحزاب التقليدية عاجزة عن تجاوز لحظة "أكتوبرية" وهمية، قائمة على أسطورة الانتقال المدني السلمي دون تفكيك بنية الدولة العميقة.

- حزب الأمة القومي ظل وفيًا لنهجه القائم على المساومة مع العسكر، ما أدى إلى إعادة إنتاج الامتيازات الطائفية والعائلية، دون أي مشروع فكري يعالج قضايا المواطنة، أو علاقة الدين بالدولة، أو العدالة في توزيع الثروة. بتوقع الجناح الذي يقوده فضل الله برمه ناصر علي ميثاق ودستور تأسيس، قد يكون تخلص من ارثه الاسري والطائفي.

- التيارات الاتحادية تعاني من انقسام مزمن وغياب رؤية سياسية متماسكة، ويقتصر خطابها على شعارات الاستقلال الرمزية، دون أي تفاعل حقيقي مع تعقيدات الأزمة البنيوية التي يعيشها السودان اليوم.

- الحزب الشيوعي السوداني، وإن تميز بمواقف تقدمية مقارنة بغيره، إلا أنه يفتقر إلى مشروع معاصر ومتكامل يعالج البنية العنصرية للسودان، والعلاقة بين المركز والهامش. كما أن طرحه لمفهوم "الدولة المدنية" غامض وملتبس، يتجنب الحسم في مسألة الدين والدولة، رغم أن هذه المسألة ترتبط جوهريًا بالمواطنة والحقوق المتساوية، في وقت لم يعد فيه الحياد الفكري ممكنًا.

- حزب المؤتمر السوداني انجذب إلى الوسط السياسي المهادن، وتقمص أدوارًا تفوق حجمه الجماهيري، مقدمًا خطابًا مشوشًا، شعاراتيًا، يُعيد إنتاج الفشل بأدوات رمزية دون مضمون تأسيسي. بقي محصورًا داخل دوائر نخبوية عاجزة عن القطع مع النموذج القديم.

- البعثيون والناصريون ما زالوا أسرى لخطاب قومي ماضوي، لا يعترف بخصوصية السودان كدولة متعددة الأعراق والثقافات، ولا يقدّم تصورات حول اللامركزية أو العدالة التاريخية أو علاقة الإثنية بالتمثيل السياسي

المشكلة البنيوية الجامعة:
تشترك هذه الأحزاب في جملة من الاختلالات العميقة:
- تعيش حالة جمود فكري، وتُعيد إنتاج رموز وأدوات عقيمة وقديمة وعاجزة لا تلبي شروط التأسيس الجديد.
- تفتقر لرؤى اقتصادية وأمنية تتماشى مع واقع ما بعد الحرب.
- لا تطرح أسئلة الدولة الجوهرية: من يملك؟ من يُمثَّل؟ من يُهمَّش؟ بل تلوذ بشعارات نافذة الصلاحية مثل "العسكر للثكنات" و" الجنجويد ينحل" وما اليه، دون وعي بسياق الحرب وتعقيدات بناء جيش جديد في دولة متقاطعة الصراعات.

تحالف صمود: الحياد الكاذب وتفويض الإرادة الوطنية للمجتمع الدولي:
يمثل تحالف صمود أحد أكثر تجليات أزمة النخب السياسية في السودان حدةً في مرحلة ما بعد الحرب، لا لضعف أطروحته فحسب، بل لكونه يراهن بوضوح على الخارج ليقوم بدور الداخل. ففي الوقت الذي تتطلب فيه لحظة التأسيس قوى وطنية تملك الجرأة على المواجهة، والرؤية السياسية الواضحة، والمشروعية الاجتماعية المتجذرة، يختار صمود الاصطفاف خلف موقع رمادي يتفادى أي صراع جذري مع الجيش، والتيارات الإسلامية، وبنية الدولة المركزية المتكلسة.

ورغم تبنيه خطاب "وقف الحرب" و"الانتقال الديمقراطي"، إلا أن هذا الخطاب يُطرح بمعزل عن أي تحديد لمضمون هذا الانتقال، أو القوى التي يُفترض أن تقوده، أو التحديات البنيوية التي يجب مواجهتها. والأسوأ، أن هذا الخطاب يتكئ على إرادة المجتمع الدولي ومنظماته، لا باعتباره شريكًا، بل كطرف مركزي يُفوَّض عمليًا بإدارة العملية السياسية وصياغة ملامح التغيير في السودان.

ومن المهم هنا التفريق الحاسم: المشكلة لا تكمن في مبدأ التعاون مع المجتمع الدولي، بل في أن تُترك له اليد العليا في تقرير طبيعة الانتقال السياسي، وشكل الدولة، وحدود العدالة الممكنة، وأولويات المرحلة، كما لو أن الفاعلين السودانيين باتوا مجرد منفذين أو مستهلكين لوصفات خارجية، لا شركاء في إنتاج مشروعهم الوطني.

إن هذا التفويض الكامل للإرادة الوطنية يُفرغ التحول السياسي من مضمونه، ويحوّل التغيير إلى إدارة ناعمة للأزمة لا تفكيكًا لبنيتها. وهو ما يتناقض تمامًا مع تجارب انتقال ناجحة في أماكن أخرى من العالم، مثل:
- جنوب إفريقيا، حيث قاد حزب المؤتمر الوطني التحول الديمقراطي بمشروع وطني واضح، وتفاوض من موقع قوة مع النظام العنصري، دون أن يتنازل عن استقلالية قراره لصالح المجتمع الدولي.
- تشيلي والأرجنتين، حيث لعبت النقابات وحركات حقوق الإنسان والضحايا دورًا مركزيًا في صياغة العدالة الانتقالية، ولم تترك هذا الدور لخبراء المنظمات الدولية.
- تونس، التي رغم تعقيداتها، شهدت تدخلًا دوليًا، لكن عملية التفاوض كانت بقيادة داخلية، تقودها قوى وطنية مثل الاتحاد العام التونسي للشغل، بحس سيادي واضح.

بالمقابل، يعكس خطاب تحالف صمود تصورًا قاصرًا عن فكرة التغيير، يتخيل أن المجتمع الدولي يمكن أن يحقق للسودان ما عجزت نخب الداخل عن إنتاجه. لكنه يتغافل عن حقيقة أن المجتمع الدولي – مهما حسنت نواياه – يعمل وفق مصالحه، لا وفق طموحات الشعوب، وأنه يُفضّل دائمًا "الاستقرار النخبوي" على التغيير الجذري.
إن صمود، حين يُسلّم إرادة التغيير لمجتمع خارجي، ويتجاهل قوى الهامش، والمجتمع المدني المقاوم، والقواعد الاجتماعية المتضررة من الحرب، لا يكتفي بالفشل في طرح مشروع سياسي وطني، بل يعطّل إمكانية التأسيس الحقيقي، ويفتح الطريق أمام تسويات ناعمة تُعيد إنتاج الخراب بأدوات أكثر "دبلوماسية".

وبذلك، فإن جوهر المشكلة لا يكمن في التنسيق مع العالم، بل في تحويل الخارج إلى مركز الفعل، والداخل إلى هامش منفعل ينتظر التعليمات – وهي وصفة مضمونة ليس لبناء السلام، بل لإعادة تدوير النخب التي قادت السودان إلى حروبه وأزماته

- الحكومة الحالية في بورتسودان: التأسيس المضاد:
تُجسّد الحكومة القائمة في بورتسودان، والتي تستند إلى ما تبقى من المؤسسات الرسمية تحت سيطرة القوات المسلحة، نموذجًا لتأسيس مضاد، يعاكس تمامًا ما تنادي به قوى السودان الجديد من تغيير جذري. فبدلًا من العمل على حل جذور الأزمة، عمدت هذه الحكومة إلى تفكيك الوثيقة الدستورية لعام 2019 وتحريفها بما يخدم ترسيخ سلطة الأمر الواقع، لا الانتقال الديمقراطي كما تصورته الوثيقة المعيبة.

تمثل أبرز ممارسات حكومة بورتسودان في:
- شرعنة حالة الطوارئ الدائمة، وتحويل الجيش إلى مركز قرار سياسي واقتصادي لا يخضع للمساءلة
- التحالف المكشوف مع قوى الإسلام السياسي ورموز النظام السابق، ودمجهم في مؤسسات الخدمة المدنية، والقضاء، والدبلوماسية، والإعلام والقوات المسلحة والأجهزة الامنية.
- تغييب أي صوت نقدي أو مستقل، ومنع قوى الثورة من التنظيم أو التعبير، ومطاردتها قانونيًا وأمنيًا.

بهذا المعنى، لا تمثل حكومة بورتسودان مجرد استمرار للنظام القديم، بل تمثل نقطة ارتداد تاريخي نحو إعادة تأسيس السودان على أسس الاستبداد العسكري والرياء الديني والريع الاقتصادي. وهي بذلك تشكّل العقبة الأولى أمام أي مشروع تأسيسي حقيقي.

نواصل في الجزء الثاني: