بعد أن كانت الدولة المصرية حتى وقت قريب حليفا استراتيجيا للمنظومة الدولية التي تقودها الولايات المتحدة الأميركية والعالم المتمدن ضد الجماعات الإرهابية وأعمالها الممنهجة التي يمثل التنظيم العالمي للأخوان المسلمين رأس الرمح فيها لاسيما في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والساحل الأفريقي، غدت ذات الدولة المصرية في عهد المشير عبدالفتاح السيسي - تحت سمع وبصر الولايات المتحدة وحلفائها - شريكا أصيلا في العمليات الإرهابية التي شرعت حركة الأخوان المسلمين السودانية وكتائب البراء ومثيلاتها الإرهابية في القيام بها ضد المدنيين العزل منذ نشوب الحرب السودانية الحالية في الخامس عشر من نيسان/أبريل وحتى هذه اللحظة.
لقد ظلت الحركة الإسلامية السودانية، وهذا هو الاسم السوداني لجماعة الأخوان المسلمين في السودان - على غرار حزب الإصلاح في اليمن وحركة النهضة في تونس وجماعة الصحوة في السعودية ومثيلاتها الحربائية في كل دولة - تقوم بقصف المدنيين العزل بالبراميل المتفجرة والمواد السامة في مختلف أنحاء السودان، التي تقع خارج نطاق سيطرة الحركة وقواتها المسلحة، من خلال سلاح الجو السوداني الذي غدا تحت سيطرة عناصرها المتغلغلة في القوات المسلحة السودانية منذ الإنقلاب العسكري الذي نفذته في الثلاثين من حزيران/يونيو 1989م. تلك السيطرة ظهرت جلية للعيان بإقتصار الإنضمام للكلية الحربية السودانية حصريا على عناصر الحركة الإسلامية السودانية و لا سيما الدفعات من الأربعين وحتى الخامسة والأربعين الذين أصبحوا اليوم قادة فروع القوات المسلحة ووحداتها وشعبها وبالذات القوات الجوية وأسلحة الدروع والاستخبارات العسكرية.
ومنذ بداية هذه الحرب دأبت الجماعات الإرهابية شديدة التطرف - مثل كتائب البراء، والبرق الخاطف، والفرقان، والبنيان المرصوص، والنصرة - المنضوية جميعها تحت لواء الحركة الإسلامية السودانية على إرتكاب عمليات إرهابية بالغة الوحشية ضد المدنيين الأبرياء العزل من خلال قطع الرﺅوس، وبقر البطون، ودفن الأحياء أو إلقائهم مغلولين من فوق الجسور بينما يتم إطلاق الرصاص عليهم. بيد أن تلك الوحشية بلغت مداها في جميع مناطق سيطرة القوات المسلحة ببقر بطون النساء الحوامل وهن حيات ثم إخراج أجنتهن ثم قتل تلك الأجنة، علاوة على عمليات الإبادة الجماعية لسكان قرى ولاية الجزيرة المعروفة بالكنابي ومواطني دولة جنوب السودان فيها في الماضي القريب لهذه الحرب.
ولعل المتابعون من ذوي الإختصاص يدركون جيدا أن اسماء مثل كتائب البراء والبرق الخاطف والنصرة والفرقان والبنيان المرصوص والمقاومة الشعبية ما هي إلى تلاعب بالكلمات وإعادة إنتاج لاسماء لتنظيمات إرهابية معروفة شاركت مع القوات المسلحة في العمليات الإرهابية الوحشية ضد السودانيين العزل أثناء الحروب في جنوب السودان وجبال النوبة ودارفور وشرق السودان في الربع الأخير من القرن الماضي والعشرية الأولى لهذا القرن. إن أول تلك الاسماء وقتها هو الدفاع الشعبي الذي أضحى اليوم المقاومة الشعبية، وكتائب المجاهدين والدبابين والسائحين والكتيبة الخرساء التي أصبحت جميعها اليوم كتائب البراء والبرق الخاطف والنصرة والفرقان والبنيان المرصوص. ولا يمكن إغفال أن مؤسس الدفاع الشعبي في الماضي هو علي محمد كرتي - زعيم الحركة الإسلامية اليوم - ويشرف بنفسه على على عمليات الاستنفار لما يسمى بالمقاومة الشعبية ذات الطبيعة الجهادية المتطرفة.
لكن مصر كانت قد شرعت في دعم الإرهاب السوداني المتأسلم منذ أن أصبحت أول دولة إعترفت بالإنقلاب العسكري للأخوان على السلطة الديمقراطية في الخرطوم سنة 1989م، ثم توجت ذلك بإيواء سفاح جهاز الأمن والمخابرات السوداني وأحد غلاة متأسلمي الدولة السودانية الفريق صلاح عبد الله محمد صالح المعروف بقوش غداة إجباره على الهروب خفية من السودان في أبريل 2019 - رفقة جنرالين متأسلمين آخرين هما الفريق عوض أحمد ابن عوف والفريق كمال عبد المعروف - غداة الإطاحة بثلاثتهم مع آخرين من المجلس العسكري الذي أطاح شكلا بالدكتاتور المتأسلم عمر البشير. لقد شرع الرجال الثلاثة على الفور ، بأمر من علي محمد كرتي زعيم الحركة الإسلامية السودانية وبرعاية مباشرة من المخابرات المصرية، في التخطيط لشن الحرب الحالية لتتحدد ساعة صفرها في الخامس عشر من نيسان/أبريل 2023م.
لقد إنتظمت عملية التخطيط للحرب والتنسيق بين الدولة المصرية السيسوية والحركة الإسلامية السودانية من خلال الزيارات الراتبة التي كان يقوم بها قائد القوات المسلحة رئيس مجلس السيادة - بموجب الوثيقة الدستورية وقتها - الفريق عبد الفتاح برهان للدولة المصرية حيث كان يؤدي التحية العسكرية علانية للدكتاتور عبد الفتاح السيسي لدى استقباله في مطار القاهرة ثم يلتقي بقادة المخابرات المصرية و صلاح قوش ورفاقه من الجنرالات المتأسلمين الهاربين للوقوف معهم على كافة مراحل وتفاصيل التخطيط للحرب. ثم كان أن تكررت تلك الزيارات بتواتر أكبر بعد أن نفذ الفريق برهان إنقلابا عسكريا في الخامس والعشرين من أكتوبر/ تشرين أول 2021 قضى بموجبه على الوثيقة الدستورية وأعاد آلافا من عناصر الحركة الإسلامية إلى مواقع حساسة في الدولة بعد أن كانت لجنة إزالة التمكين قد فصلتهم من تلك المناصب بعد ثبوت بطلان تعيينهم وفسادهم وسرقاتهم.
ولعل أبرز مراحل دعم مصر السيسوية للحركة الإسلامية السودانية كانت من خلال المناورات العسكرية المشتركة في سنة 2020 بين الجيش المصري والقوات المسلحة السودانية، الواقعة كلية تحت سيطرة القيادتين المدنية والعسكرية للحركة الإسلامية السودانية، دون أن تكون قوات الدعم السريع جزءا من تلك المناورات. لقد أفلحت مصر السيسوية في إبعاد قوات الدعم السريع عن تلك المناورات رغم كون الأخيرة جزء رسمي من المؤسسة العسكرية السودانية بل أن قائدها الفريق محمد حمدان دقلو كان نائب قائد المؤسسة العسكرية السودانية فضلا عن كونه نائبه على سدة مجلس السيادة السوداني، بموجب الوثيقة الديتورية، في ذات الوقت! لا غرو في عملية الاستبعاد، ذلك أن المناورات كانت الغاية منها التدريب المشترك على شن الحرب على قوات الدعم السريع بالذات كما إتضح لاحقا للجميع.
لقد تم تمرير استبقاء ما لا يقل عن سبع طائرات مصرية مقاتلة علاوة على طائرتي نقل عسكريتين في قاعدة مروي الجوية العسكرية بعد الفراغ من المناورات العسكرية المذكورة بغرض أن تشارك لاحقا في الهجوم على قوات الدعم السريع عند بداية الحرب الأمر الذي تم تنفيذه مع تعديل فرضته العملية الدفاعية الاستباقية التي شنتها قوات الدعم السريع بالسيطرة على قاعدة مروي الجوية، في الثالث عشر من نيسان/أبريل، وأسر جل العسكريين المصريين فيها وتحييد طائراتهم. وبالفعل قام الطيران المصري بضرب بعض تمركزات قوات الدعم السريع في اليومين الأولين للحرب بغارات جوية إنطلقت بشكل مباشر من القواعد الجوية في مصر. بيد أن تدخل الطيران المصري لمصلحة الحركة الإسلامية الإرهابية لم يتوقف منذ الثواني الأولى بل استمر حتى هذه اللحظة وتوسع باستهداف البنية التحتية السودانية، والتجمعات السكنية للمدنيين العزل، فضلا عن المشاركة المباشرة في المعارك ضد قوات الدعم السريع لمصلحة الحركة الإسلامية وتنظيماتها الإرهابية مثلما حدث في معركة استرداد سيطرة الحركة على منطقة جبل موية في وسط البلاد قبل عدة أشهر.
ومنذ إنطلاق العمليات الحربية في الخامس عشر من أبريل/نيسان 2023م ظهرت في وسائل الإعلام الناطقة بالعربية جموع الأبواق الإعلامية للإخوان المسلمين السودانيين الذين إنتقلوا من السودان إلى الإقامة في مصر قبيل الحرب بأشهر وأسابيع وأيام، وطفقوا يملأون الفضاءات بضجيج الإنتصارات المزيفة ودعاوى الوطنية المكذوبة مرتدين مسوح المحللين السياسيين وقفاطين الخبراء العسكريين مبشرين بسحق قوات الدعم السريع خلال ثلاث ساعات ثم أربعة أيام فخمسة أسابيع وعدة أشهر، والحرب اليوم قد تجاوزت شهرها الثاني والعشرين.
إن الدولة السيسوية في مصر أصرت على البقاء وفية للحركة الاسلامية الإرهابية السودانية من خلال دعمها النشط والمستمر لها بالخبراء العسكريين، والقناصة، والطيران المسير ومصححيه، والطيارين الحربيين، والطائرات المقاتلة، وبالتدريب والدعم اللوجستي والتذخير لا سيما بعد إنكسار شوكة القوات المسلحة السودانية، على يد قوات الدعم السريع، وتحولها - أي القوات المسلحة السودانية - إلى مجرد فصيل صغير من فصائل الإرهاب، لقد سعت الدولة السيسوية إلى إفشال منابر إنهاء الحرب وإنشاء أخرى موازية لها على غرار مؤتمر دول الجوار السوداني الذي كان المرمى منه إبطال منبر جدة، علاوة على تشكيل تحالفات نشطة ساندت الحركة الإسلامية بالمقاتلين المتطرفين من التيغراي الإثيوبيين والإرتريين و حركة الشباب الصومالية الإرهابية، وفتح معسكرات لتدريب كل هؤلاء في أرتريا على وجه التخصيص، مما يثير الحفيظة و يطرح عديد التساﺅلات.
لكن معرفة بواعث دعم الدولة السيسوية في مصر للإرهاب في السودان ستبطل كل عجب رغم التناقض الجلي لهذا الموقف مع الموقف الرسمي للدولة المصرية من جماعة الأخوان المسلمين المصرية وأنشطتها داخل مصر حيث ظلت الدولة تقوم بإعتقال قادة الجماعة وناشطيها وتصدر وتنفذ بحقهم أحكاما رادعة بالإعدام والسجن الطويل مع الأشغال الشاقة. سنفرد في القسم الثاني من هذا المقال المساحة لتفسير التناقضات المذكورة للدولة السيسوية المصرية.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة