قراءة تفكيكية في كتاب "التصوف والسياسة في السودان" للدكتور عبد الجليل عبد الله صالح

قراءة تفكيكية في كتاب "التصوف والسياسة في السودان" للدكتور عبد الجليل عبد الله صالح


03-02-2025, 01:40 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1740919235&rn=0


Post: #1
Title: قراءة تفكيكية في كتاب "التصوف والسياسة في السودان" للدكتور عبد الجليل عبد الله صالح
Author: زهير ابو الزهراء
Date: 03-02-2025, 01:40 PM

12:40 PM March, 02 2025

سودانيز اون لاين
زهير ابو الزهراء-السودان
مكتبتى
رابط مختصر






حين أرسل إليّ الصديق العزيز، الأستاذ صلاح شعيب، هذه النسخة الإلكترونية من كتاب "التصوف والسياسة في السودان"، وجدت نفسي مأخوذًا منذ اللحظة الأولى بموضوعه. كنا قد خضنا نقاشًا مطولًا حول التصوف في السودان ودوره في السياسة، وعندما وصلني الكتاب، شرعتُ في قراءته بشغف عجيب، مدفوعًا برغبة في الغوص في هذا التداخل المعقد بين الروحي والسياسي في تاريخ السودان. ومنذ الصفحات الأولى، بدا لي أن الكاتب يطرح رؤى تتطلب قراءة تفكيكية تتجاوز السطح النصي إلى بنيته العميقة، محاولًا تحليل الخطاب الكامن وراءه.

يتبنى الكاتب أسلوبًا يجمع بين السرد التاريخي والتحليل السياسي، وهو ما يمنح النص بُعدًا مزدوجًا يجمع بين التوثيق الأكاديمي والتأويل الفكري. غير أن القراءة التفكيكية للنص تكشف عن توترات داخلية تجعله يتحرك بين التأريخ والتحليل السياسي دون أن يحسم موقعه بشكل واضح. فالنص، في ظاهره، يوحي بالموضوعية العلمية، لكنه في بنيته العميقة ينطوي على انحياز ضمني للصوفية كفاعل تاريخي إيجابي مقابل تصوير السلطة السياسية كقوة قمعية أو براغماتية سعت إلى استغلال التصوف لأغراضها.

يمثل السرد التاريخي العمود الفقري للكتاب، حيث يستعرض تطور التصوف منذ مملكة الفونج وحتى يومنا هذا، لكنه يوظف الإحالة إلى التاريخ بوصفه أداة إثبات، مما قد يجعله أحيانًا يقع في فخ "التاريخنة"، أي تحويل وقائع تاريخية إلى براهين نهائية، متجاهلًا إمكانية تعدد القراءات. على سبيل المثال، عند الحديث عن علاقة الصوفية بالمهدية، يُقدَّم الأمر وكأنه تحالف استراتيجي حتمي، بينما يمكن إعادة قراءته بوصفه علاقة تكتيكية متغيرة وفق السياق السياسي لكل طريقة صوفية على حدة.

من ناحية أخرى، يوظف الكاتب خطابًا يحمل في طياته ازدواجية واضحة بين التحليل الأكاديمي والسرد التأويلي. ففي حين يبدو ملتزمًا بمنهجية البحث العلمي، تتسلل إلى بعض المقاطع لغة تنتمي إلى الخطاب الصوفي ذاته، حيث يُقدَّم التصوف بوصفه ظاهرة متجاوزة للسياسة، وهو ما يخلق تناقضًا مع هدف الكتاب الأساسي الذي يسعى إلى تحليل البعد السياسي للتصوف. هذه الازدواجية تجعل النص جذابًا للقارئ العادي الذي يبحث عن سرد تاريخي، لكنها في الوقت ذاته تطرح إشكالية للقارئ النقدي الذي يبحث عن مقاربة أكثر توازنًا.

لكن ما هو المسكوت عنه في هذا النص؟ القراءة التفكيكية لا تقتصر على تحليل ما يقوله الكاتب، بل تهتم أيضًا بما يستبعده أو يختزله. يغيب عن الكتاب تناول التحولات الفكرية داخل التصوف نفسه، إذ يتم تقديمه ككيان متماسك لم يتغير عبر الزمن، بينما الحقيقة أن الطرق الصوفية شهدت تحولات عميقة في مفاهيمها الروحية والتنظيمية نتيجة التفاعلات مع الحركات الإصلاحية من جهة، والتيارات السلفية من جهة أخرى. كما أن البعد الاقتصادي للتصوف، رغم أهميته، يكاد يكون غائبًا، رغم أن بعض الطرق الصوفية كانت تمتلك شبكات اقتصادية قوية ساهمت في تمويل نشاطاتها الدينية والسياسية.

إعادة قراءة النص من زاوية تفكيكية تكشف أن الكتاب ليس مجرد سجل تاريخي محايد، بل هو خطاب يحمل رؤية ضمنية عن التصوف ودوره في السودان. ثمة تردد واضح بين تقديم التصوف كفاعل مستقل عن السياسة، وبين الاعتراف بأنه كان جزءًا من اللعبة السياسية في فترات متعددة. هذا التوتر بين الرؤيتين يعكس تناقضًا لم يُحسم بالكامل داخل النص، وهو ما يجعل القراءة النقدية ضرورية لفهم مآلاته الفكرية.

لكن هذا ليس بالعيب أو النقصان من قيمة هذا السفر، بل هي ملاحظات وتأملات قارئ يحاول فهم دقائق الأشياء، ويبحث عن مقاربة نقدية تضيء النص من زوايا متعددة. يبقى الكتاب، رغم هذه الملاحظات، إضافة مهمة للمكتبة السودانية، حيث يفتح بابًا واسعًا للنقاش حول علاقة الدين بالسياسة. لكنه في نهاية المطاف ليس نصًا مغلقًا، بل نص قابل لإعادة التأويل، وهو ما يجعله محفزًا لحوارات أعمق حول التصوف والسياسة، ليس فقط في السودان، بل في العالم الإسلامي عمومًا.