العقد - قصة طويلة- الجزء الأوَّل.. كتبه د.أمل الكردفاني

العقد - قصة طويلة- الجزء الأوَّل.. كتبه د.أمل الكردفاني


12-20-2024, 12:13 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1734693182&rn=0


Post: #1
Title: العقد - قصة طويلة- الجزء الأوَّل.. كتبه د.أمل الكردفاني
Author: أمل الكردفاني
Date: 12-20-2024, 12:13 PM

11:13 AM December, 20 2024

سودانيز اون لاين
أمل الكردفاني-القاهرة-مصر
مكتبتى
رابط مختصر









في تاريخ تكرر خمساً وعشرين مرة بعد ذلك؛ ولد سيميليوس من أم يونانية متنمرة وأب أفريقي خاضع. ورغم أن الأم يوريديسا Evridiki ويعني اسمها العدالة الواسعة لكنها لم تكن أبداً أماً عادلة بل امرأة تكره الذكور بشكل مطلق، وربما كان ذلك ناتجاً عن صدمة من علاقة عاطفية قديمة فاشلة، أو أب طاغٍ، على أي حال، فنحن لا نستطيع أن نرتد إلى الخلف لنعرف جذور مشاكل الإنسان، لأن الأب الطاغي نفسه قد يكون ضحية لأب طاغٍ آخر أو لثقافة مجتمع ما تجعل من الطغيان سمة للرجولة. وفي كل الأحوال فإن حنق يوريديسا على الذكور قد أفرز علاقة مضطربة مع ابنها سيميليوس الطفل، والذي جمع بين الملامح الزنجية والأوروبية فأصبح مسخاً غير مقبول لا لدي أولئك ولا لدى هؤلاء ولا لدى يوريديسا نفسها. وهكذا شرعت الأم منذ أن ولدته في برنامجٍ مكثف لتحويله إلى امرأة في جسد رجل، وفي أحسن الفروض إلى حيوان أليف.
وها هو في الخامسة والعشرين من عمره، في تاريخ مولده بالضبط، لكنه يحيا في بوتقة من اللا معنى، إذ نشأ أقل تكيفاً مع محيطه الخارجي، وأكثر رغبة في العزلة، مجتراً آلامه الداخلية ليعزي نفسه بحزن سعيد. وفي هذا اليوم بالذات -أي يوم ميلاده الكئيب- توفيت يوريديسا، ليجد نفسه كالكائن الهايديجري، أي ذلك الإنسان المقذوف في العالم. بلا ماهية. ولما كان أمر سيميليوس على هذا النحو فقد أدى موت أمه إلى تحريره، لكنها حرية أصابته بالرعب، كما حدث لعبيد تولستوي حين أخبرهم بأنهم أحرار فظنوا فيه الجنون وقالوا: حسنٌ..وما المطلوب منا الآن يا سيد تولستوي؟
نعم، ارتعب سيميليوس عند موت أمه وقد شعر بأنه فقد درع حمايته الوحيد، وسأل نفسه بحيرة: وماذا أفعل الآن؟
...
لم يكن سيميليوس هزيل الجسد، ولا قصير القامة، بل على العكس، لقد تغذى جيداً فنما بسرعة، ولكنه نما كأشجار الباوباو العملاقة المجوفة من الداخل، مكتسباً خصائص جسدية مناقضة لخصائصه النفسية. لقد كان هزيلاً في أعماقه وكان يمارس احتقاراً ذاتياً ليؤكد بأن وجوده عبثيّ ومؤقت. وبما أن الإنسان -بدون تعميم- يميل إلى البحث عن شماعات ليعلق عليها قصوره، فقد صب سيميليوس جام حنقه على الآلهة. ثم صور له خياله المشبع بالتشوهات، أن الشيطان هو الإله الحقيقي لهذا العالم، فإذا كانت الآلهة تمارس سطوتها عبر إيلام البشر، والشيطان يمنح البشر أدوات المقاومة ليستمتعوا بوجودهم، فإن الشيطان أولى بالعبادة.
وأياً ما كانت حقيقة تصورات سيميليوس؛ فنحن لن نكترث لها كثيراً؛ إذ أنها ليست جديدة كل الجدة، بل أنها قديمة منذ أن وعى الإنسان وجوده في هذا العالم ومنذ العصور الطوطمية. كل ما يهمنا هنا في هذه القصة -والتي هي من محض الخيال وإن تشابهت شخصياتها مع شخصيات حقيقية فليس ذلك إلا مجرد صدفة بحتة- كل ما يهمنا هنا هو ذلك الكائن الذي يدعي سيميليوس -بما هو كائن- لم يتعلم منذ نعومة أظافره صناعة أسلحته لمواجهة مخاطر الوجود، وهكذا نشأ أعزلاً كدودة سقطت في الأشواك، ولم يهده عقله إلا إلى البحث عن يوريديسا بديلة كانت هي الشيطان.
نعم يا سادة، لقد اختار سيميليوس نفس ما اختاره فاوست وهو أن يعقد صفقة مع الشيطان. لكن المسألة لم تكن ببساطة تلك الحكاية الشعبية البسيطة التي استلهم منها كريستوفر مارلو مسرحيته، لأن فاوست لم يكن مجرداً من الأسلحة، بل كان عالِماً موقراً، أما سيميليوس فلم يك شيئا البتة. إنما مجرد إنسان حبيس تأملاته الغامضة وأحلامه المبهمة. فكيف سيقوم سيميليوس بعقد صفقة مع الشيطان. إن الواقع لا يتيح له ذلك، والمعروف أنه لا سبيل إلى إبرام عقد دون طرف ثانٍ على الأقل. لقد قال له أحد المحامين ذلك، وكانت نبرة المحامي مغلفة بتوتر وخوف، إذ لمس في سيميليوس جنوناً ما. وحين أصر سيميليوس قائلاً: ولكنني أرغب في عقد صفقة مع الشيطان أليس عملك هو إبرام العقود؟ أجابه المحامي: حسنٌ.. هذا عملي بالفعل، ولكن ليس عملي استدعاء الشياطين.. عندما تتمكن من إيجاد الشيطان تعال معه إلى مكتبي وسأبرم لكما العقد..وتأكد يا موكلي العزيز أنني سأصيغ لك عقداً يحمي مصالحك ويضمن حقوقك في مواجهة أكبر شياطين الأرض.
ولما كان حديث المحامي منطقياً فقد خرج سيميليوس من مكتبه وهو يفكر في طريقة لاستحضار الشيطان. إلا أن تفكيره -طوال الطريق- لم يهده إلى وسيلة حاسمة، فقرر الجلوس في أقرب مقهى وصاح وهو يرفع بصره إلى السماء:
-هيا أيها الشيطان.. تعال إلى من يبحث عنك.. اظهر وأبِن نفسك.. فهي فرصة لن تتكرر لك مرة أخرى إلا بعد ألف عام..
وإذ جلس ليحتسي القهوة وهو غارق في تأملاته السطحية، لمح شاباً في أواسط الثلاثينيات، بعينين دقيقتين لامعتين، تقرآن صحيفة محلية من صحف اللهو. فتوجه إليه سيميليوس وقال:
-أعذرني يا سيدي.. ولكن يبدو أنك رجل ذو اطلاع..
رفع الشاب عينيه متسائلاً، فاستطرد سيميليوس:
-إنني أبحث عن الشيطان.. أعذرني فلست مجنوناً كما قد تعتقد لكنني أرغب في عقد صفقة معه..
ازداد لمعان عيني الشاب وافتغر ثغره عن ابتسامة ساخرة ثم قال:
-ها.. بالطبع.. هذه مسألة سهلة..
ثم أضاف:
-ولكنها قد تكلفك بعض المال..
بالتأكيد كان الشاب محتالاً وجد ضالته في سيميليوس الأحمق، وهكذا أخذ يستنزف الأخير، ثم اختفى بعد شهر دون أن يجد له سيميليوس أثراً بعد ذلك. وكانت آخر جملة قالها المحتال:
-يجب أن يكون عقدك جاهزاً بكل شروطه حينها سيُظهِر لك الشيطان نفسه..
...

ولما طال بحث سيميليوس عن الشاب ولم يعثر عليه، ورد في خاطره أن الشاب إنما هو الشيطان بعينه، وأنه حسم له المسألة حين طلب منه تجهيز العقد ليوقع عليه. فقرر صياغة العقد على أفضل ما يكون.
...

(يتبع)..