أحد أصدقائي أرسل لي مقالًا بعنوان "حزب المؤتمر السوداني: أزمة فكرية وتنظيمية في مشهد سياسي معقد"، كتبه الدكتور هشام عثمان، لا أعرف الدكتور هشام شخصيًا، ولكن في هذا المقال سأحاول مناقشة ومعالجة بعض النقاط التي أثارها في مقاله حول المسائل الفكرية والتنظيمية لحزب المؤتمر السوداني، وسنحاول الإجابة عمّا إذا كان الحزب يعاني بالفعل من أزمة فكرية وتنظيمية، أم أن الكاتب بالغ في وصفه.
إن تقديم قراءة نقدية وموضوعية للأحزاب السياسية السودانية أمر ضروري لتقويم أدائها بما يمكّنها من القيام بدورها تجاه المواطن السوداني ومخاطبة القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية بالفعالية المطلوبة. مع ذلك، فإن التركيز على السلبيات بشكل غير متوازن، كما فعل كاتب المقال، قد يُظهر الحزب في صورة غير منصفة. على سبيل المثال، اتهام الحزب بعدم وجود كوادر قادرة على إدارة الدولة وغياب رؤية برامجية والاستفادة من انهيار الحركة الاتحادية ليس فقط اتهامًا عامًا بل يفتقر أيضًا إلى الأدلة والتحليل المتوازن. كاتب المقال حاول الوصول إلى نتيجة مسبقة مفادها أن حزب المؤتمر السوداني يعاني من أزمة هيكلية وفكرية عميقة دون تقديم قراءة متوازنة للقضايا الفكرية أو الهيكل التنظيمي للحزب. ولكي نقدم قراءة وردًا موضوعي، سأركز في هذا المقال على نقطتين رئيسيتين: القضايا الفكرية وتموضع الحزب، والإطار التنظيمي للحزب.
القضايا الفكرية وتموضع الحزب: تاريخ الحزب ومنطلقاته الفكرية
صحيح أن حزب المؤتمر السوداني نشأ كامتداد للحركة المستقلة "مؤتمر الطلاب المستقلين" في الجامعات والمعاهد العليا عام 1986، بعد انتفاضة أبريل التي أطاحت بحكم جعفر نميري. لعبت قيادات الحزب دورًا محوريًا في تلك الانتفاضة، ومن بينهم مولانا عبد المجيد إمام أول رئيس للحزب، والرئيس الحالي للحزب المهندس عمر الدقير الذي كان طالبًا ورئيسًا لاتحاد طلاب جامعة الخرطوم، وكثيرون من قيادات الحزب، مما يشير إلى جذوره النضالية في مقاومة الأنظمة الشمولية في السودان.
في بداياته، تبنّى الحزب منهج "التحليل الثقافي" و "جدلية المركز والهامش"، بالإضافة إلى مفهوم الاستقلاليةو السودانيوية و حسن إدراة التنوع كمرتكزات أساسية لتحليل القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في السودان. هذا التوجه كان طبيعي، إذ إن أغلب أعضائه كانوا من"مؤتمر الطلاب المستقلين"، وهو تيار فكري ركّز على هذه القضايا. مع تطور الحزب، وسّع رؤيته حول المرتكزات الفكرية لتشمل قضايا فكرية أخرى، ولكنه ظل يحتفظ بجذوره الفكرية، خاصة فيما يتعلق بقضايا ذات الصلة بالريف السوداني و مسألة الاستقلالية.
من المهم توضيح الفرق بين الأنظمة الاقتصادية والسياسية مثل الاشتراكية والرأسمالية والليبرالية. فالاشتراكية هي نظام اقتصادي تقوم فيه المنظمات التي تملكها الحكومة أو المجتمع بدور كبير أو معظم الأنشطة الاقتصادية، وتسعى لتحقيق العدالة الاجتماعية من خلال الملكية الجماعية. أما الرأسمالية، فهي نظام اقتصادي تضطلع فيه الشركات المملوكة ملكية خاصة بدور رئيسي في الأنشطة الاقتصادية، حيث تشجع على الحرية الاقتصادية والملكية الخاصة لتحقيق الكفاءة والنمو. أما الليبرالية، فهي فلسفة سياسية قائمة على حرية الفرد والحقوق الأساسية مثل حرية التعبير والمعتقد والتجمع والمشاركة السياسية وحقوق الإنسان.
لذلك، ليس بالضرورة أن تكون كل الأحزاب ذات توجه رأسمالي أو اشتراكي أو ليبرالي فقط. فإذا نظرنا إلى المرتكزات الفكرية لحزب المؤتمر السوداني، نجد أنه يتبنى قضايا الحرية وحقوق الإنسان والسلام والعدالة الاجتماعية والديمقراطية التعددية والاستقلالية وحسن إدارة التنوع. بتحليل موقف الحزب من هذه القضايا، نجد أن حزب المؤتمر السوداني يجمع بين الحرية الفردية (الليبرالية) والعدالة الاجتماعية (الاشتراكية). يؤمن الحزب بالاقتصاد المختلط، حيث يدعم السوق الحر مع تدخل الدولة لتحقيق العدالة وتوفير الخدمات الأساسية. بناءً على ذلك، يمكن وصف الحزب بأنه ديمقراطي اجتماعي (Social Democracy)، وهو نموذج سياسي شائع بين أحزاب مشابهة عالميًا.
كما أنه من المهم الإشارة إلى أن جزءًا من عضوية "مؤتمر الطلاب المستقلين" انضم إلى الحركة الشعبية لتحرير السودان وحركات الكفاح المسلح في دارفور، مما أدى إلى تشابه وجهات النظر في بعض القضايا الفكرية بين هذه التيارات السياسية. وبالتالي، فإن الادعاء بأن الحزب استفاد من انهيار الحركة الاتحادية واعتمد على استقطاب قواعد اتحادية غير دقيق وصحيح كما ذكر د هشام عثمان في مقاله.
الإطار التنظيمي للحزب
رغم أن كاتب المقال أشار إلى ضعف الهيكل التنظيمي للحزب، إلا أنه لم يقدم أدلة كافية تدعم هذا الادعاء. لذا، دعونا نتناول ما إذا كان حزب المؤتمر السوداني يعاني من ضعف هيكلي أم لا. يمتلك الحزب هياكل تنظيمية تُقسّم السلطات والصلاحيات بين جهازين على جميع المستويات: الجهاز التنفيذي المتمثل في المكتب السياسي، والجهاز التشريعي الرقابي المتمثل في المجلس القومي.
فعلى المستوى القومي، هناك المجلس القومي الذي يقوم بمهام التشريع والرقابة على الأجهزة التنفيذية، بما في ذلك المكتب السياسي. تُنتخب عضوية هذا المجلس من كليات انتخابية على مستوى الفرعيات الجغرافية والقطاعات الفئوية والمهنية. وينطبق هذا الهيكل أيضًا على المستويين الولائي والمحلي ببعض التعديلات الصغيرة. هذه الأجهزة تُقسّم السلطات والصلاحيات فيما بينها بمرونة، مما يُمكن الحزب من إدارة شؤونه الداخلية والتفاعل مع القضايا السياسية والوطنية بفعالية.
ورغم التحديات التي تواجه الأحزاب السياسية في الحالة السودانية، استطاع حزب المؤتمر السوداني الحفاظ على وجوده كحزب سياسي معارض خلال فترات عصيبة، بما في ذلك أثناء حكم نظام الإنقاذ. يشير هذا إلى قدرة الحزب على التكيف مع التحديات السياسية والاجتماعية. على عكس بعض الأحزاب السودانية التي قد تمتاز إما بتنظيم مركزي صارم أو بهياكل ضعيفة وهشة. كذلك حسب الإحصائيات المرتبطة بتكوين تحالف قوى الحرية والتغيير في الولايات، نجد أن حزب المؤتمر السوداني ممثَّل في جميع أجهزة قوى الحرية والتغيير على مستوى ولايات السودان ومحلياتها. كما أن له فرعيات وعضوية معتبرة في تلك المناطق. بناءً على ذلك، فإن وصفه بأنه يعتمد بشكل رئيسي على الشرائح الوسطى وضعيف القاعدة الشعبية في المناطق الريفية غير دقيق. الحزب موجود في جميع شرائح المجتمع، بما في ذلك قطاع الأشخاص ذوي الإعاقة وقطاع التعليم والتعليم العالي وقطاعات أخري كثيرة وكل هذه القطاعات فيها كوادر مهنية ونوعية. ومع ذلك، يبقى توسيع قاعدته الجماهيرية أمرًا ضروريًا لا ضير فيه.
رغم صحة أن معارضة نظام الإنقاذ سياسيًا وفكريًا شكّلت حجر الزاوية وأسهمت في صعود الحزب، إلا أن تجاهل سياق تلك المرحلة يُعد قصورًا في التحليل الموضوعي. فمن الطبيعي أن تركز الأحزاب السياسية المعارضة، بما فيها حزب المؤتمر السوداني، على مقاومة النظام المستبد قبل تقديم بدائل تفصيلية. شارك الحزب في تأسيس التحالفات السياسية والمبادرات الثورية التي أسهمت في إسقاط نظام الجبهة الإسلامية.و خلال فترة حكومة الثورة بقيادة الدكتور عبد الله حمدوك، قدّم الحزب مساهمات جريئة في تقويم الحكومة. كما شارك في حكومة حمدوك الثانية، وكانت أداء قياداته جيدة إلى حدٍ ما رغم التعقيدات التي واجهتها الحكومة. لذلك، لعب حزب المؤتمر السوداني دورًا رئيسيًا في عملية التغيير و ساهم بشكل كبير في مسيرة الثورة وخاصة ثورة ديسمبر المجيدة، وهو ما يتعارض مع وصف كاتب المقال.
وكذلك نجد أن الوصول إلى المواقع القيادية داخل الحزب يتم بصورة ديمقراطية. فعلى سبيل المثال، نجد أن الرئيس السابق للحزب، إبراهيم الشيخ، أصبح عضوًا عاديًا داخل الحزب بعد انتهاء فترته، وكذلك رئيس المجلس القومي السابق عبد القيوم عوض السيد.. و يُعد الحزب الوحيد بين الأحزاب السودانية لا يزال رئيسه السابق حيا و عضوًا عاديًا فيه. أما مسألة وجود تيارات فكرية متباينة داخل الحزب، فهي أمر إيجابي إذا توفرت بيئة سياسية سليمة. إذ يمكن أن تُسهم هذه التباينات في تطوير الرؤى وتعزيز النقاش حول القضايا السياسية بما يخدم الحزب والمجتمع المدني السوداني.
خلاصة القول، أنه من خلال ما قدمناه، فإن وصف الحزب بأنه يعاني من أزمة فكرية وتنظيمية معقدة، دون الإشارة إلى الأدوار الإيجابية التي لعبها وتحليل موضوعي لمرتكزاته الفكرية، يعد قراءة غير موضوعية ناقصه ذات هدف محدد. صحيح أن النقد البناء الذي يركز على التوازن والتحليل الموضوعي للأحزاب السودانية ضروري ومطلوب، إلا أن التركيز على السلبيات فقط للوصول إلى تخمينات مسبقة يغفل السياق الواسع لدور الحزب الفاعل و المحوري في عملية التغيير والثورة وكل القضايا السياسية في الفضاء السياسي السوداني أمر يفتقر الموضوعية والنقد البناء. ايضا من الضروري أن تتبنى الأحزاب السودانية، بما فيها حزب المؤتمر السوداني، إصلاحات موضوعية أن وجد لمواكبة الواقع و تطلعات الشعب السوداني في بناء دولة مدنية ديمقراطية.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة