عندما تتحدث الكلمات بالضوء والصمت (قراءة متواضعة في إرث مصطفى سند) كتبه إبراهيم برسي

عندما تتحدث الكلمات بالضوء والصمت (قراءة متواضعة في إرث مصطفى سند) كتبه إبراهيم برسي


11-26-2024, 12:01 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1732618914&rn=0


Post: #1
Title: عندما تتحدث الكلمات بالضوء والصمت (قراءة متواضعة في إرث مصطفى سند) كتبه إبراهيم برسي
Author: مقالات سودانيزاونلاين
Date: 11-26-2024, 12:01 PM

11:01 AM November, 26 2024

سودانيز اون لاين
مقالات سودانيزاونلاين-USA
مكتبتى
رابط مختصر






10/11/2024

تتأرجحُ نصوصُ مصطفى سند بين الحُلمِ والواقعِ، بين الشَّجنِ العميقِ وفَرَحِ اللَّحظةِ الآنيَّةِ، وكأنَّها لوحاتٌ تشكيليةٌ تتحدَّى الزمانَ والمكانَ.

في عالمِ شِعرِهِ، تتحدُّ الكلماتُ كأنغامٍ تخلُقُ نسيجًا معقَّدًا، حميميًا ومباشرًا، وتغمُرُهُ ذاكرتُنا السودانيَّةُ الشعبيَّةُ، ذاكرةٌ تعبقُ بتجاربِ الحياةِ وتنبضُ بأصالةِ الجذورِ، كأنَّنا نستحضرُ معه أصواتَ الطِّينِ والشَّمسِ وألوانَ الفلكلورِ السودانيِّ المميَّزةِ.

إنَّ شعرَهُ ينتمي إلى لغةِ المخملِ، فتأتي كلماتُهُ بنعومةٍ لا تخلو من ثِقَلٍ، كأنَّها نَسيمُ البحرِ في ليلةٍ صيفيَّةٍ دافئةٍ، لكنَّها تتسلَّحُ بقوَّةِ الكلماتِ في الوقتِ ذاته، ليكونَ للكلمةِ أثرُها كما السَّيفِ الذي يشقُّ السُّحبَ، فتتركُ علامةً تبقى في الرُّوحِ إلى الأبدِ. وفي قولِه في (البحرِ القديمِ):

“بيني وبينكَ تستدعي حوائطُ، ليلٌ… وينهضُ ألفُ بابٍ”،

يطرحُ سند رؤيةً فلسفيةً للحدودِ والارتباطاتِ الإنسانيةِ، حيث تتشكَّل المسافاتُ بينَنا وبينَ الآخر كحوائطَ تتباعدُ ثم تتداخلُ، كأنَّها أبوابٌ نحوَ عوالمَ عميقةٍ، تتجاوزُ السطحيةَ وتغمُرُنا في التأمُّلِ. هذا النَّصُّ هو لوحةٌ معقَّدةٌ تضجُّ بالعذاباتِ الرُّوحيةِ، حيث تتحوَّل الكلماتُ إلى جسورٍ شفافةٍ تصِلُ بين الحُلمِ والواقعِ، بين الذاتِ المتأصِّلةِ في الفلكلورِ وحكاياتِ الطِّينِ والشَّمسِ، وبين تأمُّلاتٍ عميقةٍ تتحدَّى الحدودَ الوجوديَّةَ، كأنَّها تدعونا للتحليقِ بعيدًا عن محدودياتِنا.

وفي مقطعٍ آخرَ من (البحرِ القديمِ) أيضًا، يقولُ:

“زمنًا يُمصُّ الضوءَ من عينيكَ، يُصلبُ وجهُكَ المنسيُّ في الدرجِ العتيقِ”،

تتجلَّى هنا عبقريةُ سند في صنعِ صورٍ تشكيليةٍ مفعمةٍ بالرُّوحِ، حيث تتحوَّل الكلماتُ إلى ظلالٍ تلخِّص صراعَ الإنسانِ مع الذَّاكرةِ والنسيانِ، لتمثِّل رحلةَ الحياةِ السودانيَّةِ التي تحمِلُ في طيَّاتِها آلامَ الغُربةِ والحنينِ إلى ما هو منسيٌّ. وكأنَّ هذه الجملة تُضيء زوايا الذَّاكرةِ الجمعيَّةِ، فتظهرُ أمامَنا صورةٌ مركَّبةٌ، يمتزجُ فيها التاريخُ بالوجعِ، وتصبح الكلمةُ مثلَ وميضٍ خافتٍ، يُنير ممرَّاتِ الرُّوحِ المنسيَّةِ.

إنَّ سند هو شاعرُ المفارقاتِ الحياتيَّةِ التي تُعبِّر عنها صورُهُ الحسِّيَّةُ المعقَّدةُ، إذ يصفُ هذه المسافاتِ التي نقطعُها بحلمٍ متجدِّدٍ، ويتركُ للقارئِ أن يجدَ ذاتَهُ بين السُّطورِ. تراه يقولُ:

“بيني وبينكَ سكَّةُ السَّفرِ الطويلِ، منَ الرَّبيعِ إلى الخريفِ”،

وفي هذه الكلماتِ تتَّضح دلالاتُ الزمنِ والمكانِ، حيث يشيرُ إلى تلكَ الرحلةِ التي تشبهُ رحلةَ الحياةِ، تتلوَّن فصولُها بينَ ربيعٍ مزدهرٍ وخريفٍ يغمرُهُ الحنينُ. هنا يتحوَّل السندُ بينَ الحُلمِ والواقعِ، وبينَ الوهمِ والحقيقةِ، وكأنَّه يرسمُ صورةً سودانيَّةً حيَّةً، محمَّلةً بذكرياتِ الشَّبابِ وملامحِ الشَّيخوخةِ.

وفي ذاتِ (البحرِ القديمِ)، يقولُ:

“سكنَ السحابُ ومرَّ طيفُك من جديدٍ، نثرتُهُ كفُّ البرقِ حين تلاحقُ الإيماضَ، وانعتقتْ شراراتُ الرُّعودِ”،

لتتبدَّى هنا اللغةُ كصورةٍ تشكيليةٍ تنبضُ بالحياةِ، فنشعرُ بأنَّ الكلماتَ تتحرَّكُ في تناغمٍ مثيرٍ كعاصفةٍ، بين صمتِ السحابِ وصخبِ الرُّعودِ، كأنَّها تُرسمُ بألوانِ الطبيعةِ نفسها، حيث تصبحُ كلُّ كلمةٍ وميضًا يعكسُ صراعَ الطبيعةِ مع ذاتِها.

إنَّ مفرداتِهِ تتحدَّثُ إلى الرُّوحِ مباشرةً، وتدخُلُ في حميميَّةٍ نادرةٍ، تحاكي تفاصيلَ الحياةِ اليوميةِ كما لو كانت لحظةَ ولادةٍ حقيقيَّةٍ. الشِّعرُ هنا يتحوَّل إلى معزوفةٍ تتشابكُ فيها القوافي، وكأنَّ النَّصَّ بأسرهِ يأخذُنا في رحلةٍ بينَ الحنينِ والجمالِ، بينَ المعاناةِ والأملِ. ففي قصيدةٍ أخرى، نجدُ سند يُعبِّر عن هذه الملامحِ السودانيَّةِ الأصليَّةِ، حيث يقولُ:

“كيف انعطافُكَ للبصيصِ، وهذه زُهُرُ النُّجومِ تهمُّ نحوكَ بالنزولِ”،

يصبحُ الضوءَ هنا رمزًا للحُلمِ، للتحقُّقِ، أو حتى للامتدادِ الرُّوحي، وكأنَّ الشَّاعرَ يفتح للنفسِ أبوابًا للتلاقي مع الكونِ، وكأنَّ النُّجومَ تقتربُ، ليس فقط لتنيرَ الظلمةَ، بل لتخلقَ حوارًا روحانيًّا يتَّصلُ بالعمقِ الشعبيِّ السودانيِّ، ذلك العمق الذي لا يُختزلُ في الكلماتِ، بل يسكنُ الرُّوحَ ويبقى حيًّا في الذَّاكرةِ.

إنَّ هذا التمازُجَ بينَ الصُّورِ الفنِّيَّةِ والتأمُّلاتِ الرُّوحيَّةِ يجعلُ من شِعرِ سند نافذةً تفتحُ على عوالمَ تتداخلُ فيها الأزمنةُ، وتلتقي فيها الفصولُ، كما لو أنَّ النَّصَّ ذاتهُ أصبحَ لوحةً تعكسُ فسيفساءَ الحياةِ السودانيَّةِ.

إنَّها القصيدةُ المتحرِّكةُ، تلكَ القصيدةُ التي تتجوَّلُ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، تتنقَّلُ بينَ الألوانِ والظلالِ، وتظلُّ في تدفُّقٍ مستمرٍّ، تدعونا للتفاعلِ معها كما يتفاعلُ القلبُ مع نبضاتِ الحياةِ اليوميَّةِ.

مصطفى سند ليسَ مجرَّدَ شاعرٍ مُجدِّدٍ فحسب، بل هو فنَّانٌ يرى في الشِّعرِ وسيلةً لفهمِ الواقعِ، وتحقيقِ الرُّوحانيَّةِ، وملامسةِ أعماقِ الذاتِ الإنسانيَّةِ. ومع كلِّ كلمةٍ من كلماتِهِ، نحسُّ كما لو أنَّنا نعيشُ لحظةً حالمةً، تمزجُ بينَ الذاتِ والكونِ، بينَ الحُلمِ والواقعِ، وبينَ الفقدِ والوجودِ، بينَ الواقعِ المريرِ والأملِ المتجدِّدِ.