المشاعر المعادية لفرنسا والخروج القسري من غرب أفريقيا كتبه د. محمود دقدق

المشاعر المعادية لفرنسا والخروج القسري من غرب أفريقيا كتبه د. محمود دقدق


09-14-2024, 08:33 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=505&msg=1726342428&rn=0


Post: #1
Title: المشاعر المعادية لفرنسا والخروج القسري من غرب أفريقيا كتبه د. محمود دقدق
Author: محمود ابكر دقدق
Date: 09-14-2024, 08:33 PM

08:33 PM September, 14 2024

سودانيز اون لاين
محمود ابكر دقدق-الدوحه
مكتبتى
رابط مختصر





بقلم د. محمود دقدق
المستشار القانوني والباحث
[email protected]

"فرنسي، اذهب إلى دارك" Français, rentrez chez vous إنها عبارة انتشرت كالنار في الهشيم في بعض المستعمرات الفرنسية السابقة في دول غرب إفريقيا، حيث تنامى الشعور المناهض لفرنسا في السنوات الأخيرة لدرجة التحول إلى مزاج شعبي رافض بصورة جامحة للوجود الفرنسي في تلك الدول، حيث بات ينظر إليه كشبح مخيف، وبذلك مثلت المشاعر المعادية للفرنسيين في غرب أفريقيا انعكاسات تراكمية للسياسات الفرنسية هناك. والجدير بالملاحظات أن هذا التحول جاء من ذات الدول التي ظلت منذ استقلالها تتململ ببطء في بيت الطاعة الفرنسي، حيث لا تعصي أمراً ولا يسمع لها صوت ولا قول إلا في حدود المسموح به. وفي المقابل فإن فرنسا فعلت ما تشاء في تلك الدول، وقيدت الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية لمستعمراتها السابقة بقيود صارمة، حتى العملات الوطنية لمعظم تلك الدول ظللت مرتبطة بالفرنك الفرنسي حتى عندما تحولت فرنسا إلى نظام اليورو لم يكتب لعملات بعض تلك الدول الفكاك من تلك القبضة الحديدية الفرنسية، فيما ظلت شركة Air France هي الناقل الأكبر لمعظم حركة المنطقة والجامعات الفرنسية هي القبلة الغالبة لشعوب المنطقه من أصحاب الحظوة. وفي المقابل لم يجد المواطن العادي في غرب إفريقيا شيء يذكر من فرنسا، حيث الاقتصاد في أسوأ حالاته والأوضاع الأمنية تتدهور في كل يوم والجماعات المتطرفة تنتشر في مالي، النيجر، بوركينا فاسو، بنين، تشاد، الكاميرون وصولاً إلى المستعمرة البريطانية نيجيريا، وفي المجال الثقافي فإن فرنسا فرضت اللغة الفرنسية بصورة عنيفة في تلك المجتمعات مما أدى إلى تجاهل أو إلغاء للقيم والموروثات الثقافية المحلية المتميزة بالثراء في غرب القارة السمراء، حيث لا توجد إصدارات بلغة الهوسا ‏على سبيل المثال والتي يتحدث بها عدد مقدر من سكان تلك المستعمرات السابقة، في المقابل نجد أن اللغة الهوسا نشطة في نيجيريا ‏المستعمر البريطانية السابقة.
‏وفي الجانب الاقتصادي فإن معظم الموارد الإفريقية مثل اليورانيوم من النيجر والكاكاو والمواد الخام الأخرى المنتجة في المستعمرات السابقة من دول غرب أفريقيا تذهب إلى فرنسا عبر شركات فرنسية تنشط في المنطقه. والحديث لا يتوقف عن شبهات فساد تتعلق بعقود بيع الثروات الإفريقية لفرنسا ومثال ذلك اليورانيوم، والنفط، والذهب، والألماس وغير ذلك فضلا عن الخدمات مثل الاتصالات والنقل وغيرها التي تحتكرها الشركات الفرنسية مثل Total, L'Oréal, , Orano, Vinci and Société Générale . فيما عجزت الأخيرة عن توفير أبسط مقومات الحياة الكريمة لهذه الشعوب مثل الإمداد الكهربائي المستقر أو مياه الشرب النظيفة.

السيادة مقابل الديمقراطية:
‏ العوامل السابق ذكرها فضلاً عن الإحساس بالكبت طويل الأمد والهيمنه عديمة الجدوى وغير الرشيدة من قبل المستعمر السابق أحدثت تحولاً جذرياً في المزاج العام في المنطقة وسط تنامي الشعور الوطني المطالب بالسيادة مقابل الديمقراطية العاجزة عن التغيير نحو الأفضل، وقد بلغت ذروتها وتم التعبير عنها بموجة غير معهودة من الانقلابات العسكرية التي إجتاحت دول غرب إفريقيا إبتداءً من دولة غينيا التي استولى على السلطة فيها الرئيس الحالي مامادي دومبوي عبر انقلاب عسكري عام 2018 ضد الرئيس المنتخب ألفا كوندي، وفي دولة مالي استولى على السلطة الرئيس الحالي أسامي قويتا في العام 2021 بانقلاب عسكري ضد الرئيس المنتخب إبراهيم بوبكر كايتا، ومروراً ببوركينا فاسو التي أستولى فيها الرئيس الحالي إبراهيم تراوري على السلطة عام 2022، عندما أطاح بالرئيس المؤقت بول هنري سانداوغو داميبا خلال انقلاب عسكري هو الثاني من نوعه خلال تسعة أشهر بعد أن أطاح الأخير بالرئيس المنتخب روش مارك كريستيان كابوري، ومن ثم دولة النيجر والتي استولى على السلطة فيها الجنرال عبد الرحمن تشياني عام 2023 عبر انقلاب عسكري ضد الرئيس المنتخب محمد بازوم، وأخيراً في الغابون نجد الرئيس المؤقت الحالي بريس كلوتير أوليغي الذي أطاح بابن عمّه الرئيس الغابوني السابق علي بونغو عبر انقلاب عسكري في العام 2023. ولا ندري متى سيكون الانقلاب القادم في غرب إفريقيا ولكن حتما لن تكن الغابون آخر تلك الدول، وقد عرفت المنطقة بكثرة الانقلابات العسكرية فيها ووفقاً للمصطلح الجيوسياسي الحديث فإن منطقة غرب إفريقيا ووسط إفريقيا والساحل تعد موطناً للانقلابات حتى عرفت بحزام الانقلابات The Coup Belt وبالفرنسية la ceinture de coups d'État)). لكن جاءت الانقلابات هذه المرة ليست كسابقاتها حيث أنها جاءت تحمل معها شعاراً موحداً يدعو إلى الرحيل الفرنسي عن المنطقة. حتى أن المواطن العادي رفع في كل الدول المشار إليها شعارات مناهضة لفرنسا ومنذ الوهلة الأولى غير آبهين بذهاب الرؤساء المنتخبين ديمقراطياً، ويلاحظ المرء أن القاسم المشترك الأعظم للرغبة المعلنة لشعوب المنطقة على أقل تقدير هو التخلص من الهيمنة الفرنسية، التي أخذت بتلابيب هذه البلاد رغم نيلها لاستقلالها الأسمى منذ أعوام خلت، الا أنها ظلت ترزح تحت نير السيطرة تارة، والوصاية الفرنسية تارة أخرى. وهكذا بدأت تلك الدول تستبين الطريق نحو الخلاص من التبعية الفرنسية وكانت الوسيلة لتحقيق تلك الغاية ميكافيلية بإمتياز حيث استندت على الانقلابات العسكرية دون التوقف عند مدى شرعيتها، لتعلن بذلك خروج بعض المستعمرات الفرنسية السابقة في غرب إفريقيا عن الحاضنة الفرنسية في أول يوم لنجاح الانقلاب العسكري في تحدى لجهود فرنسا التي فعلت ما في وسعها لمقاومة تلك الانقلابات لكنها لم تفلح في مسعاها، في وقت كانت فيه الإدانات الدولية لهذه الانقلابات العسكرية تترى من كل حدب وصوب إلا أن الدعم التأييد الشعبي الكبير للقادة العسكريين الذين قادوا التغيير غير الدستوري شكل لهم ملاذاً وطوقاً للنجاة، عندما خرجت حشوداً غير مسبوقة من الجماهير في هذه الدول وهي تدعم الانقلابات العسكرية وتدعو لخروج فرنسا من بلادهم ولسان حالها يقول "الغاية تبرر الوسيلة" ففي دولة النيجر على السبيل المثال رددت الجماهير في الطرقات والمدارس والمساجد شعارات معادية لفرنسا، وقد وصلت هذه المشاعر المعادية للوجود الفرنسي حتى إلى دولة السنغال التي تم تداول السلطة فيها بطريقة سلمية إلا أن الجماهير خرجت في دكار عاصمة السنغال منادية بخروج الشركات الفرنسية ومطالبة بتأطير العلاقة مع فرنسا وطرد القوات الفرنسية. وبذلك فقدت فرنسا الكثير خلال فترة حكم الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون الذي سعى جاهداً دون جدوى لجعل فرنسا تتحمل مسؤولية كبيرة في تعزيز النظام الجيوسياسي العالمي ولعب دور أكبر في حل الأزمات الدولية مثل الحرب الروسية الأوكرانية، والحرب على غزة، والحرب الأهلية السودانية، والحرب في شرق الكونغو، والحرب على الإرهاب، إلا أنه ترك حديقته الخلفية في غرب إفريقيا تخرج من سلطانه من حيث يدري ولا يدري. بعد أن حصدت شعوب المنطقة فشل علاقة أمتدت لأكثر من مائة عام، هاهي تعاني إما من تدهور حاد في الأمن أو من تفاوتات اقتصادية وتنموية كبيرة.
وكنتيجة حتمية لمجريات هذه الأحداث أعلن ماكرون أعلن في العام الماضي عن تخفيض ملحوظ للوجود العسكري الفرنسي في المنطقة في ظل تزايد وتوسع رقعة إنتشار المشاعر المعادية لفرنسا في بعض المستعمرات السابقة، وهكذا بدأت فرنسا تتضاءل رويداً رويداً وبدأ بريقها ينخفض وتيارها السياسي يزداد ضعفاً في غرب أفريقيا وينحصر بصورة تدعو إلى الإشفاق، مع بروز سؤال حول مصير العهد الفرنسي في غرب إفريقيا بعد طرد أكثر من سفير لها في المنطقة والخروج المذل لبعض القوات الفرنسية التي ظلت متواجدة في تلك الدول منذ استقلالها، ويأتي كل هذا في ظل الوعي الشعبي الذي جاء متأخراً إلى المستعمرات الفرنسية السابقة في غرب إفريقيا والتي نهضت تنشد مستقبلها وتطالب بالاستقلال الكامل عن فرنسا بما في ذلك تحرير العملات الوطنية من الهيمنة الفرنسية، وبناء علاقات دبلوماسية جديدة قائمة على مبدأ المساواة في العلاقات الدولية، وفي مقابل ترنو فرنسا بحسرة إلى التغلغل الاقتصادي الصيني والنفوذ الروسي المتعاظم في المنطقة والإحلال العسكري الروسي عبر فاغنر يسير بخطى ثابتة خصماً على تاريخ فرنسا الطويل هناك.