Post: #1
Title: الحاج حنين قصة قصيرة كتبه مالك معاذ أبو أديب
Author: مالك معاذ أبو أديب
Date: 05-27-2024, 01:01 AM
01:01 AM May, 26 2024 سودانيز اون لاين مالك معاذ أبو أديب-USA مكتبتى رابط مختصر
كانت مكبرات صوت المساجد ترفع أذان الفجر في تناغم فريد، يداعب الثريا، ويشق عنان سماء القاهرة، مبدداً ظلمة ليلها البهيم الطويل، بينما الحاج حنين يصغي السمع بإهتمام بالغ عبر النافذة الزجاجية، مردداً الأذان من اعماقه بكل خشوع وورع ورجاء، فتسمو روحه المرهفة محلقةً به في آفاق علوية ملائكية لا حدود لها. شعور رقيق يسري في أوصاله وينساب في روحه العطشى شلالا رويا، كأنه ترجمة حقيقية لقول نبينا الكريم "ارحنا بها يا بلال". وفي خضم ذلك الاحساس الساحر اخذته غفوة، لا يدري كم استغرقت من الدقائق، فاستيقظ من جديد، وفرك عينيه المرهقتين بالسهر والأرق لبضع ثوان ثم فتحهما وشمل ما حوله بنظرة فاحصة دقيقة كأنه يريد ان يصدُق عينيه بأنه ليس في حلم وأنه لم يفارق فعلاً وطناً غالياً اسمه السودان، بيد أنه تيقن يقيناً لا يخالطه الشك بأن قدره اللعين قد ساقه حقاً الى عالم جديد ووجوه غريبة ترمقه اينما حل، بنظرات ملؤها الشك والريبة والتوجس، مهما أبدى من حسن النية وطيب الخاطر، مما ادخله في دوامة من التفكير المضني حول مصيره المجهول بعد أن وطئت قدماه ثرى القاهرة، نازحاً وفاراً بجلده من براثن حرب ضروس انشبت اظفارها السامة في أحشاء وطنه الحبيب وارغمته على مغادرة منزله العامر في الخرطوم التي أضحت بين عشية وضحاها مجرد اطلال بالية عفى عليها الزمن، بل عبارة عن ذكريات، وأي ذكريات، أهي ذكريات الطفولة ومراتع الصبا، أم ذكريات المراحل الدراسية والجامعية وما فوقها، أم ذكريات الانداد والاصدقاء، أم ذكريات زملاء العمل والاهل والجيران، أم ذكريات الافراح والاتراح. لا يتذكر حاج حنين أنه نام لأكثر من ساعتين في اليوم في هذه الشقة الضيقة، المكتظة ببناته واحفاده الصغار الذين لا يكفون عن الضجيج والقفز هنا وهناك ليل نهار، رغم نداءاته الرافضة المتكررة، التي لا تزيدهم الا شقاوةً وحركةً ونشاطاً. كان يُبدي امتعاضاً مصطنعا ظاهراً لتصرفاتهم البريئة، بينما في قرارة نفسه يعلم أنه يظلمهم، بل يسلبهم حقاً طفولياً مشروعاً في اللعب الذي لا يحتوي قاموسه الطفولي على ما يسمى بالحدود والمسافات والموانع. كان عليه أن يتغاضى عن هفواتهم، مهما صغرت او كبرت، لأن فيهم يتيم الاب، ومن طُلقت امه، ومن اغترب ابوه ولم يعد، وفوق هذا وذاك رحيل جدتهم الحنون المفاجيء في الحدود الشمالية، كأن روحها الوفية أبت أن تواصل مشوار النزوح ومبارحة تراب الوطن الحبيب قيد شبراً، فتشبثت به لآخر رمق من حياتها. احدث رحيل الحاجة صفية المفاجيء فراغاً كبيراً في العائلة وفراغاً اكبر واوسع في قلب حاج حنين الذي ما زال ما بين مصدق ومكذب غياب رفيقة دربه الطويل، وحضنه الدافيء الذي كان يخفف عنه عذابات الضنى ورهق الحياة وآلامها، حبه الاول والأخير الذي كان يقاسمه أفراح الحياة وضحكاتها ودموعها وشجونها، وقمره الذي أُفتُقِد في ليال غربةٍ ونزوحٍ حالكٍ سوادها، حنظلٌ طعمها. كان طيف ذكراها يلوح أمامه كل حين، ممتزجاً بالدموع الغزار، كلما تقطعت به السبل والاسباب، او كلما احتاج لها كما اعتاد في اوقات الشدة والصعاب، كأنما لسان حاله يقول : كنت بحتاج ليك بشدة وانت عني بعيد مافي عيشة بلاك بتبقى مافي نشوة ومافي ريد لم يكن ليتخيل ان يعود للسودان -اذا قُدّر له ان يعود- في ظل غياب الحاجة صفية، وهل تحلو الدار بدون حضورها الرائع وصوتها المبتهج دوما، واين وكيف يحلو له الجلوس وقد غرست في كل ركن ومجلس بصماتها المروية بحكاياتها وقفشاتها وطرائفها التي لا تنتهي! أصبح لزاماً على حاج حنين أن يحنو على أحفاده حنو الأب والجد والجدة في آن معاً، وان يصمد في وجه العاصفة، رغم انه على مرمى حجر من الشيخوخة، منهك القوى، رجلاه لا تكادان تحملانه، ولا حول له ولا قوة بدهاليز الغربة وشعابها وصعابها، لكن عليه ان يدوس بكل ذلك تحت قدميه وان يقف في وجه العاصفة بصمود وتحدي لا يعرف الخنوع والانحناء. انهى وضوءه في ذلك الصباح الباهي، فدب في جسمه النشاط والحيوية، ثم أغلق باب الشقة من ورائه بهدوء، تاركاً أحفاده الزُغب الصغار غارقين في نومهم وأحلامهم الوردية الصغيرة البريئة، ويمم شطره صوب المسجد القابع أسفل العمارة، تسبق خطاه أشواقه الحميمة لتلاوة الإمام الذي وهبه الله صوتاً مؤثراً جميلاً، وتلاوة مميزة في غاية الرقة والعذوبة، تخترق القلوب قبل الآذان وتتنزل برداً وسلاماً على نفوس المصلين فتغسل دواخلهم من الهواجس والهموم. تسارعت خطاه نحو المصعد، ومن بين اصابعه تتدلى سبحته الصنوبرية التي تصدر طرقعة خفيفة محببة مع كل تسبيحة وتهليلة وتكبيرة. تفرس وجهه في مرآة المصعد وهاله منظر تلك التجاعيد التي حفرت خدودا عميقة في وجهه الشاحب الحزين، وتأمل عينيه الغائرتين وغاص في اعماقهما، فلم يجد غير شوق وحنين دفاق لوطن جريح، سوف لن ينعم برؤيته مجددا، او هكذا خُيل اليه. كان حرصه على اداء الصلوات الخمس في المسجد سلواه ومهربه الوحيد من هذا الصخب والضجيج الذي لا ينتهي، كحالنا نحن البشر، إذ لا ننفك نقضي معظم حياتنا في هروب دائم من كل ما يعكر صفو نفوسنا وراحتها؛ هروب من الحزن الى الفرح ومن الجوع الى الشبع، ومن الفقر الى الغنى ومن الحرب الى السلام. اقيمت الصلاة وشرع الامام في تلاوة رائعة، وظف فيها كل امكانياته وملكاته الصوتية، فتلى سورا طوال، ذابت على اثرها قلوب المصلين وافئدتهم وجداً ووجلاً وخشوعاً واغرورقت قلوبهم قبل عيونهم بالدمع السخين. وفي آخر سجدة من تلك الصلاة اسلم الحاج حنين الروح الى بارئها وخرج من الدنيا بهدوء كما عاشها بهدوء وسلام، مسدلاً الستار على مسرح حياةٍ حافلةٍ بالجهد والعطاء، ومخلفاً من ورائه بناتاً واحفاداً ما زالوا في اشد الحاجة لحنانه الدفاق وسنده القوي !!
|
|