Post: #1
Title: من الكتياب إلى قناة النيل الأزرق … كتبه حسن فضل المولى
Author: حسن فضل المولى
Date: 01-23-2024, 10:34 PM
09:34 PM January, 23 2024 سودانيز اون لاين حسن فضل المولى-السودان مكتبتى رابط مختصر
في العام ( ٢٠١٨ ) نشرتُ هذه الخواطر ، و اليوم أعود إلى أهم محطاتها ، مُستذْكِراً و مُذكِّراً و مُنَقِحَاً ، و مُضيفاً، فإليها مع التحية ..
تفتحت عيناي على الدنيا في ( الكتياب ) .. و ( الكتياب ) بلدة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء .. رجالها أشداء كرماء أوفياء أنقياء .. و نساؤها زاهدات عابدات قانتات .. و ( الكتياب ) هي ( خلاوي القرآن ) .. و ( مشروع الكتياب الزراعي العريق ) ، حيث ( الجناين ) التي تسر الناظرين ، و( الحواشات ) على مد البصر .. و هي ( النِحاس ) الذي عندما يقْرع ، ترى الناس سُكارى و ماهم بسُكارى ، و لكنه طغيان الاحساس و عَصْفِه و اشتعاله .. و هي ( العُمدة ) و ( شيوخ البلد ) .. و ( الكتياب )هي التلاحم و التراحم ، فأنت بين أهلها في حِرزٍ أمين ، لا تجوع و لاتَعْرى .. كل شيء من أشيائها له طعم ، و شذا ، و بريق .. الصلاة و الأفراح و المديح و مواسم الحصاد و الأعياد .. و منذ طفولتنا كان ( العيد ) يتوهَّجُ بين جوانحنا و يتبارك ، بين يدي شيخنا الفكي ( عبدالغفور عبدالوهاب القاضي ) ، رضي الله عنه و أرضاه .. و شيخنا ( فكي عبدو ) كان من عِباد الرحمن ، مُتَخَلِقاً بصفات عباد الرحمن ، قائماً بالليل و النهار في تحفيظ و تعليم القرآن ، و لقد كان يغمرنا بمحبة لا أزال أتَقَلَّبُ في بركاتها و فيوضاتها الروحانية .. و فطور العيد في رحاب ديوان ( الحاج بخيت محمد بشير ) ، سليل الدوحة ، التي نهل منها شاعرنا ( التيجاني يوسف بشر ) .. ( أنا وحدي دنيا هوى لك فيها كل كنزٍ من المشاعر قربى ) .. و ( عبدالقادر الكتيابي ) و أمُّه ( أم الحسن يوسف بشير ) .. ( على كيفي أنا في هذه الدنيا على كيفي إلى أن تكمل الأشراط دورتها ) .. و ( صديق مجتبى ) و أمُّه ( عائشة يوسف بشير ) ( يغني المغني و كل يهيم بليلى هواهُ و ليلى توزع بين اللحون و ترقص في مقلتيها القلوب ) .. و هي أسرة ينشأ صغارها و قد رَضِعوا الشعر و الأدب مع حليب الأم ، و قد نشأتُ بينهم في ( حي العمدة ) ، جوار ( خلوة الشيخ محمد القاضي الكتيابي ) ، و أنا أُنفق إجازاتي من ( المدرسة ) مع عمي العالِم ( جادالله دفع الله ) ، و أحظى برعاية الرجل الأُمَّة ( مساعد محمد الأمين ) ، عليهما رحمة الله .. و إن كنت لم أُدرك ( التيجاني ) ، فقد أدركتُ والده الشيخ ( يوسف بشير ) ، رحمه الله ، و ترددتُ عليه كثيراً ..
و الحياة في ( الكتياب )من حولنا تمضي هادئة و هادرة أحياناً ، و نحن نُسْلِمُ أنفسنا لتيارها دون ممانعة أو ضجر .. نُقبِلُ بنفوس راضية و لاهية على كل ما يصادفنا .. نرعى الغنم و نَحِشُّ القش و نَحِتُّ البلح و نعوم في الجدول و نلعب في السِهيلَة و نمتطي الحمير .. و كل واحد بحماره معجب و مفتون ، و يُسهب في التغني به و سرد محاسنه ، و أنا وأخي ( الطاهر ) كانت تحملنا يوماً ( حمارة ) والده المُبجل ( محمد علي الطيب ) ، و كانت بيضاء ، شديدة البياض و سريعة و وهيطة ، و نحن راجعين من ( اللشَو ) بدأ يعدد لي مناقبها : ( عارف آآآحسن حمارتنا دي عندها ميزة ، لو رمَتَك بتقيف تنتظرك لا حدي ما تقوم و تنفُض هِدومك و تركب ) ، و ماهي دقائق حتى ألقت بنا في غَيَابة حُفْرة ، و انطلقت غير آبهة بنا ..
كنا لا نتَّشَهَّى .. نأكل مما نزرع و نَعْلِف ، و لاحقاً مما نستورد و هو قليل .. لا نعَاف و لانسْتَنكِف و لا نَتَمَنَّع ، إذ نلتهم ماتمتد إليه أيدينا مما هو متاح ، ذلك أن طعامنا طعام ذلك الزمان و تلك الأنحاء ، ولا يزال ، قبل أن تَجِدَ مستحدثات الأصناف طريقها إلى موائدنا .. نأكل طبيخ القرع و البامية و الخُدرة مطبوخة و مفروكة و أم رِقيقة و الشرموط أبيضه و أحمره و الفول حافي و مصلح و اللُقمة بما تيسر من مُلاح و البَربور و انتهاء بأم شِعَيفَة و أم تَكَشُو .. و الكِسرة بي الدُقَّة .. و تَتَسيَّد الكِسرة الساحة ، و مؤخراً بدأ يزاحمها الرغيف .. و ( يوماً كربتيت و يوماً عشانا ربيت و يوماً نسف التابا و عليها نبيت ) .. و التحلية شاي مُسَكَّر ، أي سُكَّر بالشاي .. و تهيمن ( الفتة ) في الحوليات و حلقات الذكر و المديح فنَكْبِسُ عليها بعد أن ننتشي بمدح الرسول ، صلى الله عليه و سلم .. ( الحجاز فيهو البريدو الله يَدْنِي لي بعيدو بادي بي الله القصيدو بي الكريم ربي المجيدو حُكمو جاري علي عبيدو جلَّ يفعل ما يريدو ) .. و ( القُبة البِلوح قِنديلا شوقي و حِساري الليلة ) .. و لا يزال فؤادي يخفق بمديح ( القادرية ) و ( الختمية ) و أذكارهم الندِيَّة .. و رفيق دربي و صديقي البروفيسور ( إسماعيل خضر ) خير من يُحدِّث عن ( الطريقة القادرية الجعلية) ، فهو غارق و مُتبَحِّر في عُبَابِها ..
نعم .. و أنا أتقلب بين خلوة ( النايلاب ) ، و ( خلوة الدُلُولاب ) ، كنت أجدني في براحات يتفشى فيها التصوف ، و التِمَاس النفع و الخير و البركة عند أهل الله ، ممن يعمرون تلك الديار و ما حولها بالذكر و ألوان القُرُبات ، و الذين كنا نرى فيهم مصابيح الهداية و زاد الطريق .. أذكر عندما اقترب موعد ذهابنا إلى ( الزيداب ) للجلوس لامتحان الانتقال إلى ( الثانوي العالي ) ، شددنا الرحال إلى ( كدباس ) ، حيث الرجل الصالح ( الشيخ الجعلي ) ، فنفَحَنا بالفاتحة ، و عَزَم لكل منا على ( القلم ) الذي سيؤدي به الامتحان ، فعُدنا منه و اليقين يملأ جوانحنا ، و لسان حالنا .. ( يا الإمتحان قرِّب تعال أمانة ما جاك راجل ) .. كنا يومها في ( مدرسة الكتياب الثانوية العامة بالحُرَّة ) .. ( الحُرة ) الحرَّة أم خيراً مِدَفِق جوَّه و برَّة ، و قد نهض أهلها باستضافة ( الطلاب ) الذين وفدوا من الفِجاج المجاورة ، و قاسموهم ( اللُقمَة ) و الهَم ، و زاملني فيها صديقي الفنان ( حسين شندي ) ، الذي كان مُولعاً باصطياد ( القُمْرِي ) ، و يغني لنا في المناسبات .. ( عازة الفراق بي طال و سال سيل الدمع هطال ) .. و كنت أحد الشيالين ( الكورس ) ، و قال لي مرة بأنني ( أطْرَق ) و لا أصلح لهذه المهمة ..
كنا .. ( لاهموم تسكن دروبنا ولا يلاقينا الخطر ) .. نركض ورا ( اللواري ) مُسابِقين .. و ( اللواري ) مثار اهتمامنا و سؤالنا !! أيهما أسرع ( السفنجة ) أم ( الهوستن) ، و نِتْغاااالط .. و ( السواقين ) كانوا في نظرنا هم النجوم ، و منهم ( الحاج شِنقليت ) ، و ( النور ود التوم ) و ( ود فزاري ) ، و ( بنجوس ) .. و عندما نقصد ( الخرتوم ) ، تحملنا المراكب مُشَرِّقِين ، من ( الجابراب ) إلى ( المحمية ) .. و ( الجابراب ) أهل شهامة و نجدة .. و ( الكتياب ) و ( الجابراب ) توأمان إذا اشتكى عضو من أحدهما تداعى له الآخر بالسهر و الحمى .. قد نمْكُثُ يوماً كاملاً في ( المحطة ) ، نأكل فول ( ودرُجبة ) ، في انتظار ( القطر ) ، إما ( إكسبريس حلفا السريع ) ، أو ( بورتسودان ) ، أو قطر ( كريمة ) الممهول .. و ( قالوا كريمي فيها قطر وفي ام درمان أدونا خبر شربنا القهوة بالسكر دي قهوة عاجْبَة تَكِف الشر ) .. و عندما يأتي ( القطر ) مكبوساً ( نُسَطِّح ) ، رغم مافي ذلك من مخاطِر ، و كنا نتمنى ذلك ، خاصة لما نكون ما قاطعين ( تذاكر ) ، و أذكر مرة و معي اثنين من الأنداد أن ( البوليس ) قام بمحاصرتنا و انزالنا ، و أوْدَعنا مكاناً يستخدم ( كسجن ) للحجز ، داخل ( القطر ) فجاءنا بعد كبوشية ( ج ) ، و كان من قرية مجاورة يقوم ببيع ( البرتقال ) في ( القطر ) مابين ( المحمية ) و ( شندي ) .. قال : ( ياود فلان و و دفلان و و دفلان مالكن الجابكن هنا شنو ؟ ) قلنا : ( كنا مسطحين علىي راس القطر و ما قاطعين تذاكر و البوليس قبضنا ) .. قال : ( أنا بعرف الكُمساري ده أجمعوا لي ريال ريال ، أديها ليهو يطلعكن ) .. و جمعنا الثلاثة ريالات ، فأخذها و ذهب ، و ظللنا ننتظر و ننتظر الإفراج حتى صَفّر القطر إيذاناً بمغادرة ( شندي ) ، و بعدها جاء الكمساري فقلنا له نحن تبع ( ج ) ، فقال : ( أنا لابعرف ( ج ) ولا عبدالظمبار خليكن قاعدين ) ، و بعدها أدركنا أن ( ج ) قد خدعنا ، و غادر القطر في ( شندي ) ، و تركنا نواجه مصيرنا حتى أُطْلِق سراحنا في ( الجيلي ) .. و كنا عندما نُدرك ( الجيلي ) ، حيث منها يبدأ ( الظلط ) ، و تكتحل عيوننا برؤية ( الكهارب ) ، إذا لفنا الليل ، ترتفع حينئذٍ أعناقُنا و تهفو قلوبُنا لرؤية العالم الآخر ( الخرتوم عموم ) ، أو ( البَندر ) و هو إسم ( فارسي ) ، يُطلق على البلد الكبير أو المدينة ..
نشأتُ بين قومٍ يتمادون في الحزن إذا حزِنوا و يُسرِفون في الفرح إذا فرِحوا .. مناسبات ( الأعراس ) تستغرق أياماً و ليالي .. و لك أن تتصور أن ( الطهور ) ، أي ( الختان ) ، يكون أشبه ( بالعرس ) ، و لا تتوارى من ذاكرتي تلك المشاهد و ( ود الطهور ) الذي قد يكون تجاوز الخامسة من عمره ، تُفرد له الليلة السابقة ( للحنة ) و قبلها زيارة ( قُبَة الشيخ نعيم ) .. و عند الصباح يتجمهر الأهل و الجيران في ( الحوش ) أو أقرب ( ساحة ) ، و في وسط الدائرة يؤتى به مصحوباً بالنوبة و الطار ، و يتقدم ( الطهَّار ) في تُؤَّدَة و خُيلاء نحو ( الولد ) المُراد خِتانه ، بينما يضع أحدهم يديه تحت فكيه ، و يناديه : ( شوف الطيارة ديك ) ، أوشيئاً من هذا القبيل ، و تتعالى الأصوات ، ( أبْشِر أبشر أبشر ) ، و تنفجر الزغاريد في تسابقٍ بهيجٍ محمومٍ ، و في هذه اللحظة التاريخية و المفصلية ، و في سرعة البرق ، ينتزِع الطهَّار ( الغَلَفَة ) عن ذلك ( العضو ) ، الذي سيكون له في المستقبل شأنٌ عظيم ، فإما أن يرفعك و يعِزُك ، أو يُذِلُك و يُورِدك المهالك ..
و يطربنا و يُسكرنا و يخلب ألبابنا ( غناء الحماسة ) ، على إيقاع ( الدلوكة ) ، و عينك تشوف العجب لما ( الدلاكي )يخَنِّق ( الدلوكة ) و ( الشتامي ) يخلِف الشَّتَم فتضج ( الدارَة ) ( بالعَرْضَة ) و ( الصَّقْرِيَّة ) و تُلهب ( السياط ) الظهور حتى تسيل منها الدماء غزيرة ، و لا تخلو مناسبة من ( شَكْلَة ) سرعان ما تنْفَض .. و أول من رأيت من ( الغنايين ) ، عياناً بياناً ، و استمعت إليهم و طربت لهم .. ( بابكر ود السافل ) .. ( يا خِلاني آمنة الفي الضمير مازياني ما شفتوها ياخلاني ) .. و ( سيد الجعلي ) .. ( الجمال بلاكِ انعدم اللللله ياقدم الخِشيم بي بطال ما نضم و المريض أبكم شافِك نَضَم ) .. و بعد ذلك ( النعام آدم ) .. ( يا عيوني أبكي دمع الدم الزمان بي عذابي حكم ) .. كان يستهوينا ذلك اللون من الغناءٌ الذي جُلهُ نيران و وجع و عذاب و لوعة .. ( آه من ناري أنا ) و ( يا النقلوك من جنبنا و اناري السادة أوحشتنا ) و ( و اناري الما بقيت سواق اطلع العالي وانزل الدقداق ) و ( بلالي بلالي بلالي السادة و ناري ) و ( أزاي الليلة و براي الليلة حرق بي نار الكماين ديلا ) .. و سفر في بلاد الله .. ( نقفل الساحة و نشيل مفتاحة و نمشي الباوقة اللذيذ تفاحة ) .. و ( و قطر قام بيَّه علي الشايقيه تمانية شهور لا خبر لا جية ) ..
و تمضي بي الأيام و الليالي .. و يالها من أيام و ليالي سكنت سويدَ القلب و برزخ الصدر .. وبرغم ألوان الشقاء و العناء و الفاقة ، التي كانت تلفني ، إلا أني مضيت في طريقي غير آبهٍ ، تعصف بي الأعاصير و تتقاذفني الأمواج من مرسى إلى مرسى ، و من مثابَةٍ إلى مثابة .. ( متأجِّجُ الاحساس أحْفَل بالعظيم و بالحقير تمشي على قلبي الحياةُ و يزحف ُ الكون الكبير ) .. و البيتان ( لأبي القاسم الشابي ) .. و إلى لقاء .. و السلام ..
|
|