يعرف الإندماج الثقافي ، على أنه : ( قدرة الفرد على تحييد حواجز ؛ اللغة ، الدين ، العرق ، عن مسيرته في أن يكون صاحب تأثير قولي أو فعلي في محيطه الاجتماعي ) .. و هي قضية عامة ، و لكن في الغالب تحمل على كونها ؛ قدرة الوافدين على التأقلم على ثقافات المجتمعات المستضيفة ، لكن في الحقيقة ، توجد فئات أصيلة في المجتمع المستضيف تعاني نفس الإشكالية ، مما يجعلها ترتقي لمصاف القضايا الإنسانية العامة ؛ و التي تنتج في الغالب لاختلاف القدرات و الإمكانات لأفراد المجتمع الواحد .. واجه يوسف و موسى عليهما السلام قضية الإندماج الثقافي في ظروف مختلفة في نفس البيئة ، فمن ناحية سيدنا يوسف ، نجد أن إحترامه لقوانين الدولة المستضيفة قد تجلت في عدة مواقف ؛ منها على سبيل المثال موقفه عند غواية إمرأة العزيز له ، و رده لجميل عزيز مصر الذي قال لإمرأته عند تبنيه ليوسف :( و قال الذي إشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه ، عسى أن ينفعنا أو نأخذه ولدا ..) (٢١) يوسف .. فكان رد الجميل من يوسف أن قال ( قال معاذ الله ، إنه ربي ، أحسن مثواي ، إنه لا يفلح الظالمون ) (٢٣) يوسف .. موقف آخر ، عندما جاءه رسول الملك في السجن يدعوه لمقابلة الملك ، كان بإمكانه إستجابة دعوة الملك و التغاضي عن مسألة براءته ، و لكنه أراد أن يبرهن للملك سلامة موقفه ، مما زاد من مكانته و ثقة الملك فيه : ( و قال الملك إئتوني به ، فلما جاءه الرسول ، قال إرجع إلى ربك ، فسئله ما بال النسوة اللاتي قطعه إيديهن ، إن ربي بكيدهن عليم ) (٥٠) يوسف .. موقف ثالث يتمثل في كيد ربه سبحانه و تعالى له ، بأن ألهمه بأن يجعل السقاية في رحل أخيه ، حتى يتسنى له إبقاء أخيه في مصر تبعا للقوانين السائدة في مصر في تلك الفترة ، و لعل المجاعة التي ضربت منطقة الشرق الأوسط آنذاك ، جعلت الدولة المصرية تتشدد في قوانين الهجرة ، وهو إجراء طبيعي في وقته ( فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ، ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون ) (٧٠) يوسف .. و هكذا نجد أن يوسف عليه السلام ، لم يتجاهل قوانين الدولة المصرية التي إستضافته ، طوال فترة مكوثه فيها ، مع إختلاف المنطلقات الفكرية بين المستضيف و المستضاف ، و لا غرو في ذلك ؛ فقد آتاه الله كسائر الأنبياء و المرسلين الحكم و العلم ، و كذلك يجزى الله المحسنين ، فتعامل مع أمور الاختلاف بقمة الدبلوماسية ، فنجح ، ووطد لبني يعقوب أرضية طيبة من الاحترام في بلاط الدولة المصرية. و لكن في عهد فرعون مصر في زمن موسى عليه السلام إختلف الأمر ، فقد إتسمت سياساته بالظلم البين الذي لا لبس فيه ، فتبنى الطبقية في المجتمع المصري ( إن فرعون علا في الأرض و جعل أهلها شيعا ، يستضعف طائفة منهم ، يذبح أبناءهم و يستحي نساءهم ، إنه كان من المفسدين ) (٤) القصص . و في ظل هذه السياسة الهوجاء ، فقد وضع فرعون المجتمع أمام خيارين : إما الإنصهار في سياسته أو التقوقع في العقائد المخالفة ، فاختارت طائفة من الأقباط التقوقع في الحنيفية ، و ذلك بقيادة مؤمن آل فرعون و زوجة فرعون آسيا ، و كذلك إختارت آل موسى و هارون ، أما بقية بني يعقوب بقيادة الرأس مالي المعروف قارون فقد إختارت الإنصهار في عصبة فرعون و هامان ، فاختلف الوضع بين رسالتي يوسف عليه السلام و موسى ، فحاكم مصر في زمن يوسف عليه السلام كانت مباديء الإنسانية تجد حظها في دستور دولته ، فكان إندماج الفئة الحنيفية ممكنا لوجود هذه المشتركات ، أما حاكم مصر في زمن موسى عليه السلام فتنكر لهذه المباديء ، لذا صار أمر الإندماج مستحيلا لعدم وجود أرضية مشتركة من القيم ، لذا أرسل الله سبحانه و تعالى سيدنا موسى لإزالة ملكه ( فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا و حزنا ، إن فرعون و هامان ، و جنودهما كانوا خاطيين ) (٨) القصص . خلاصة القول ، في القصتين ، فيما يخص قضية إندماج أصحاب التوحيد في المجتمعات المستضيفة ، أن المعيار ، يكون في نوعية القيم المتوافرة في دساتير تلك الدول المستضيفة ، فكلما تقاربت مع قيم الحنيفية ، حق للمؤمن الإندماج في ذلك المجتمع ، أما إذا تباعدت ، فارض الله واسعة ، كما ترك موسى مصر تجاه مدين ، و ترك محمد بن عبد الله أرض مكة متجها نحو يثرب ، فالقيم هي الفيصل للمؤمن . البريد الالكتروني: [email protected] .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة