قال محجوب: "نحن هنا أولادنا يسافرون كذا ميلاً للمدرسة. ألسنا بشراً؟ ألسنا ندفع الضرائب؟ أليس لنا حق في هذا البلد؟ كل شيء في الخرطوم، ميزانية الدولة كلها تصرف في الخرطوم . مستشفى واحد في مروي نسافر له ثلاثة أيام، النساء يمتن أثناء الوضع. لا توجد داية واحدة متعلمة في هذا البلد. وأنت ماذا تصنع في الخرطوم؟ ما الفائدة أن يكون لنا ابن في الحكومة ولا يفعل شيئاً؟".
من خلال كلام محجوب هذه وهو يخاطب الرواى في رواية موسم الهجرة الى الشمال للأديب الطيب صالح التي طبعت في العام ١٩٦٦ يتضح لنا حجم معاناة أهل الريف منذ ذلك الوقت مع الانحياز الحضري الغير عادل للاقتصاد السوداني الذي ظل على الدوام يقوم بتركيز الموارد والخدمات والمنافع الاقتصادية بالمدن على حساب الريف وباقي المناطق النائية ، و ظل هذا الأمر مؤثرا دائما في السياسية السودانية منذ خروج المستعمر كنتيجة طبيعية لسياسات التهميش والتنمية غير المتوازنة التي إنتهجتها الإستعمار ومن ثم سارت عليها الحكومات الوطنية المتعاقبة بعد ذلك من دون تغير يذكر في هذا النهج الأمر الذي أدى إلى تكوين مجموعات سياسية ريفية لمقاومة هذا الانحياز مثل مؤتمر البجا في ١٩٥٧ واتحاد عام جبال النوبة وجبهة نهضة دارفور اللذان تأسسا في العام ١٩٦٤ واستمر هذا الانحياز الحضري بعد الإستقلال بشكل أكثر مما هو عليه خاصة فيما يتعلق بتمثيل العاملين بالسلطة السياسية والمناصب القيادية في الدولة وكذلك الوظائف على مستوى الوزارات والخدمة المدنية وضباط الجيش والشرطة والسلك الدبلوماسي التي ظلت محتكرة على الدوام لمناطق حضرية معينة. ، حيث ظلت الخرطوم والإقليم الشمالي تحظى دوما بنصيب الأسد في الوظائف القيادية مثل وزاراء الوزارات ومديري المؤسسات بالإضافة قضاة المحكمة العليا ورؤساء القضاء وكبار ضباط القوات المسلحة والأخيرة هذه دائما ما ظلت تحمي هذا النظام المختل ، نظام الاقتصاد الذي يعمل لصالح العواصم الحضرية الضيقة على حساب سكان الريف عبر قوة البطش والهيمنة العسكرية الأمنية .
لم يقتصر أمر الانحياز على المناصب السياسية العليا وحسب ، بل شملت أيضا جميع الخدمات الأخرى من تعليم وصحة وأمان ودعم إجتماعي وأيضا توزيع الموارد الغير عادل مثل دعم الوقود والخبز التي تستهلكه على الدوام المدن الكبيرة من ميزانية الدولة السودانية بيمنا نجد أن أكثر أهل الريف يعتمدون في غذائهم على الذرة والدخن التي تزرع في الأراضي السودانية ولا تستورد من الخارج على الرغم من أن الكثير من صادرات السودان تأتي من هذه المناطق.
كانت ثورة ديسمبر فرصة حقيقة لمعالجة تمركز الثروة والخدمات والمصالح في المدن الحضرية لولا فشل القوى السياسية في تحقيق شعارات الثورة المتمثلة في ( حريةوسلام وعدالة ) ، ورغم تبدد الآمال بسبب الحرب الدائرة حاليا في شوارع الخرطوم الا أنه مايزال الباب مفتوحا لمعالجة مثل هذه الاختلالات بعد أن أنتهاء هذه الحرب العبثية عبر العمل بأخلاص لبناء نظام حكم مبنى على الرشد السياسي والاقتصادي والعدالة الاجتماعية.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة